فى هذا الوقت من كل عام ومع ذكرى حرب أكتوبر، يطفو السؤال الفنى الأكثر الحاحاً،
لماذا لا يوجد فيلم روائى عربى يؤرخ لتلك الحرب ويظهر ما بها من بطولات وتضحيات
بمستوى فنى عالمى؟ .. يؤكد العديد من الفنانين أنهم يحلمون بهذا اليوم، وتؤكد
القيادات السياسية والعسكرية المصرية فى أكثر من مناسبة رغبتها فى وجود أفلام
من هذه النوعية واستعدادها التام لدعمها إنتاجياً بكافة الإمكانيات. لكن هل
فعلاً ما ينقصنا فى صناعة هذه النوعية وتصديرها للعالم هو الإمكانيات الإنتاجية
أم أكثر من ذلك؟ .. هذا ما سيأخذنا لدراسة التجارب السينمائية العالمية الحديثة
الأكثر نجاحاً وإنتشاراً من نفس النوعية، لنرى إن كان العالم مستعداً لمشاهدة
فيلم حروب آخر بنفس التناول الفلسفى الذى طغى على تجاربنا المحلية الماضية
بميلها نحو الدعائية والبطولية والتأريخية، أم أن ما يهم المتلقى الدولى أصبح
مختلفاً عما نريد إيصاله.
أول تلك التجارب العالمية التى أناقشها فى هذا المقال هى تجربة الفيلم
الأميريكى "الخيط الأحمر الرفيع" من إنتاج عام 1998، إخراج "تيرينس مالك"،
وتأتى أهميته كونه حاصلاً على 7 ترشيحات أوسكارية، بالإضافة إلى أنه فيلم الحرب
العالمية الثانية الذى صدر فى نفس عام صدور فيلم "إنقاذ الجندى ريان" الفيلم
الأشهر بهذه النوعية، ما خلق بين الفيلمين نوعاً من المقارنة فضلاً عن المنافسة
الأوسكارية.
ومالك هو المخرج الذى عُرف بشاعريته الوجودية، ما جعل نبأ قيامه بصناعة فيلم
حروب وقتها أمراً مثيراً للتعجب، ولكن يتلاشى هذا التعجب منذ اللحظة الأولى من
مشاهدة هذا الفيلم. فهو نجح فى إستدراج تيمة الحروب إلى داخل ملعبه وبرع فى
ترويضها لتتناغم مع أسلوبه الشاعرى الصديق للطبيعة. إنه فيلم الحروب الذى
استخدم كافة الوسائل ليدين الحروب، سواء من خلال التعليق الصوتى ذى الصبغة
الفلسفية الأقرب لشعر يهجو الحرب وصانعها، أو سواء من خلال الصورة التى تظهر كم
أن الطبيعة خلابة وتميل للحيادية وكم أن الإنسان يفسدها بغريزة شر ذات مصدر
مجهول ظل مالك فى رحلة روحانية طوال الفيلم باحثاً عنها ولكن دون جدوى، مثلما
ظلت شخصياته فى رحلة حربية عبثية، لا يعرفون لماذا يَقتلون ولا لماذا يسقطون
قتلى واحداً تلو الآخر، كل ما كان عليهم هو أن يقاتلوا. وذلك فى رأيى ما يعطى
لهذا الفيلم نقاطا تميزه على منافسه "إنقاذ الجندى ريان"، الذى كانت به المهمة
محددة، وليس مجرد سباحة عشوائية فى بحر العبث، وغوص داخل الجانب المرعب للنفس
البشرية. وأشير هنا لجملة على لسان الراوى تقول "أن ترى كل هذا الكم من جثث
البشر .. لم يعد الأمر يختلف عن رؤية جثث الكلاب".
بهذا الفيلم العديد من اللقطات العبقرية التى بلورت رؤية صانعه، كتلك اللقطة
التى نرى بها طائرا جريحا من وقع القصف المدفعى، أو تلك اللقطة فى منتصف الفيلم
التى نرى بها تمساحا فى موقف المسكين وهو مكمما ومكبّلا وخاضعا للإنسان بعد أن
كان ظهور نفس التمساح وهو طليق فى لقطة ببداية الفيلم ذا وقع مُرعب. مقارنة
لقطتى التمساح تؤكد زيف إدعاء الإنسان بأنه الكائن الأرحم والأرقى سمواً بين
حيوانات مفترسة. وأخيراً تلك اللقطات الحميمية التى يتذكر فيها أحد الجنود
زوجته الرقيفة وهو يمارس معها الحب فى تناقض مثير وباعث لعقد المقارنة مع بشاعة
التجربة الحربية التى يمر بها.
وفى نفس العام الذى تنافس به "إنقاذ الجندى ريان" و"الخيط الأحمر الرفيع" على
الأوسكار، كان هناك فيلم ثالث فى نفس المسابقة موضوعه أيضاً عن الحرب العالمية
الثانية، ولكنه لم يشاركهما بنصيب كبير فى المقارنات، لأنه وبرغم كونه فيلماً
عن الحرب إلا أنه لم يكن فيلماً حربياً! .. هذا الفيلم هو "الحياة جميلة" من
تأليف وإخراج وبطولة "روبيرتو بينينى"، إنه الفيلم الإيطالى الذى حطّم القواعد
وأكد لنا أن تلك الفاجعة الإنسانية التى تصدرت الثلث الثانى من القرن العشرين
مازالت قادرة على إلهام المبدعين برؤى وتناولات مختلفة وجديدة عن كل ما سبق أن
قُدّم عنها.
أهم ما يميّز أسلوب التناول فى هذا الفيلم هو تناقض البناء، فهو يبدأ كفيلم
كوميدى رومانسى فى إطار يميل للكاريكاتورية يشعر معه المتفرج بأن الحياة جميلة
بالفعل ويبدأ فى التوّحد مع "جيدو" بطل الفيلم، ذلك اليهودى الصعلوك خفيف الظل
الذى ينجح فى إيقاع إحدى الأميرات الفاتنات فى غرامه ثم يخطفها فوق حصانه من
طبقتها الأرستقراطية ليبنى معها أسرة من الطبقة العاملة متواضعة إلا من الحب فى
جو أسطورى هزلى. ثم ينقلب البناء رأساً على عقب فى النصف الثانى من الفيلم
ويتحول إلى فيلم آخر، فيبدأ المتفرج فى سماع موسيقى تصويرية حزينة ولقطات توّثق
لكارثة فى إطار يميل للجدية.
هذا الإنقلاب فى الشكل الدرامى لم يكن سوى ترميزا من النوع الإيحائى للإنقلاب
الذى يحدث فى حياة الأشخاص المعاصرين للحروب ولبشاعتها. ففى لمح البصر يفقد
همهم الإنسانى ما يغلفه من أمور تتسم بنوع من الرفاهية مثل هم الوقوع فى الحب
أو هم توفير فرصة عمل إلى هم أعظم وأشد جلالاً، إنه هم البقاء. وإن حاول "جيدو"
كسر ذلك الجلال بلمسات تهدف إلى طمأنة طفله بأن كل شىء على ما يرام، ولكنه كان
مرحاً بنكهة الكآبة، أو ما يطلقون عليه كوميديا سوداء. وقد وصل السواد إلى قمته
فى المشهد الذى يقوم فيه "جيدو" بترجمة خطاب الضابط الألمانى الذى لا يفهمه
بترجمة مخادعة تخفى حقيقة المصير البشع الذى ينتظرهم؛ كى يؤكد لطفله أن ما هم
فيه من معسكرات إبادة جماعية ومحارق بشرية ما هو إلا لعبة هزلية مُتفق عليها.
يختلف هذا الفيلم أيضاً عن كافة أفلام الحروب بكونه وضع مفهوماً مختلفاً
للبطولة، فالبطل هنا ليس من يقتل أكبر قدر من جنود العدو بل هو من يقاوم
الفاجعة بشجاعة المرح وثبات الإنفعال وحب الحياة وفداء أقرانه، فهى قدرات تفوق
فى إنسانيتها وروحانيتها القدرات القتالية التقليدية.
تناول الحروب بهذا الشكل المائل للهزل كان له ارهاصات تسبق "الحياة جميلة"،
أبرزها فيلم "أوروبا أوروبا" للمخرجة البولندية "أجنيشكا هولاند" الذى رشح
لجائزة أوسكار أفضل سيناريو مقتبس بعد عام صدوره، وهو عن صبى بولندى يفترق عن
عائلته اليهودية مع بدايات الحرب العالمية الثانية وتجعله الصدفة ينضم إلى إحدى
دور الأيتام النازية بصفته ألمانى، ثم ينضم بعدها إلى القوات النازية مخفياً
أصوله اليهودية متنقلاً بين دول أوروبا فى رحلات الحرب والغزو، ومغيراً من
هويته حسبما يقتضى الموقف فى مرونة واضحة، فهو فى حقيقته لا ينتمى لأى من الفرق
ولا يعنيه سوى أن يظل فى الجانب الذى سيحافظ له على حياته من المصير الذى لاقته
أسرته اليهودية فى الجيتوهات والمحارق. ويعتبر هذا الفيلم من أكثر أفلام الحروب
التى انحازت للفكرة الإنسانية بأسلوب رمزى ذكى.
ولن نبتعد كثيراً عن بولندا، البلد الذى نال النصيب الأكبر من الخراب فى الحرب
العالمية الثانية، هذه المرة بفيلم للمخضرم "رومان بولانسكى" بعنوان "عازف
البيانو" الذى حاز به على سعفة كان الذهبية بالاضافة لجوائز اوسكار افضل مخرج
وسيناريو وممثل وأربعة ترشيحات إضافية. يحكى الفيلم القصة الحقيقية لعازف
البيانو اليهودى "شبيلمان" الذى أدى دوره الممثل الموهوب "أدريين برودى"، ويبدأ
بمشهد يعزف فيه على آلة البيانو التى يحترفها داخل المحطة الإذاعية البولندية،
ثم يقطع القصف الألمانى للمدينة هذا العزف ويتسبب فى تدمير مبنى الإذاعة، وتبدأ
رحلة المعاناة للبطل تتنقل بين الجيتوهات والعمل الشاق بالسخرة ومنازل أعضاء
المقاومة البولندية وأطلال الحرب المظلمة، وتلك الأخيرة كانت فى طريقها لتشهد
نهاية "شبيلمان" لولا أن أوقعته الصدفة فى مواجهة ظابط ألمانى مرهف الحس، سحره
عزف "شبيلمان" على آلته الموسيقية الرقيقة فقرر مساعدته فى صراعه من أجل
البقاء.
يبدأ الفيلم وينتهى بمقطوعة موسيقية معزوفة، مثلما تنقذ حياة البطل أيضاً
مقطوعة موسيقية معزوفة، فالموسيقى هى اللغة الوحيدة التى يفهمها جميع البشر
ويمكنهم التواصل معها، إنها اللغة التى توّحدنا، فهى الإنسانية متجسدة فى خليط
من التصادمات الميكانيكية المصدرة لأصوات متناغمة، وهى الوسيلة التى اختارها
صناع الفيلم هذه المرة لإدانة الحروب وإعلاء القيمة الإنسانية، مثلما اختار
صناع باقى الأفلام وسائلهم الأخرى التى أشرت لها فى هذا المقال كالشعر والفلسفة
والطبيعة والمرح والبراجماتية، ولكنهم اجتمعوا على نبذ التناولات الدعائية التى
تكرس للعنف والدموية والشوفينية، وهو ما جعلها تمس المتفرج أياً كانت انتماءاته
أو جنسيته أو عقيدته. |