زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

Collective "سينماتك" تختاره كأفضل فيلم لعام 2020

"كولكتيف" للروماني ألكسندر ناناو... الوثائقيّ النفيس وجسارات الصحافي

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
   

ما أن تقارب هذه الدُّرّة الوثائقيّة للروماني ألكسندر ناناو كابوساً تالياً من سياقات طويلة لجرائم متداخلة، ضمن إستقصاءات إعلاميين مغموريين، يتمتعون بنزاهة مهنيّة عالية، ينتمون الى طاقم صحيفة محلية ببوخارست، يتفجَّر السخط في ضمائر مشاهديّ "كولكتيف" (متوافر على منصة أمازون)، ويَشعل في دواخلهم الروع والأسى الى حد الوجع.

 كُلّ فصل هو طامَّة حقيقية، لإنه يفضح غدراً حكوميّاً، ومثله تواطؤات فاسدين ومنتفعين، وخطايا بشر بلا وازع إنسانيّ أو ذمَّة أو مرحمة. مجرمون لن ينصفوا أمواتاً شباب، واجهوا نيران حريق هائل وخاطف، حاصرهم داخل نادٍ لموسيقى الروك، يدعى "كولكتيف" في ليلة الثلاثين من أكتوبر 2015، وحرق منهم 27 جسداً، وأصاب 180 يافعاً بحروق بالغة، وإن لم تهدَّد حياتهم، نقلوا الى مستشفيات العاصمة، تحت ما يُفترض أنها عناية قصوى، ليتوفى منهم 37 شخصاً في ظروف مُلْتَبِسة بعد حوالي أربعة أشهر، تداعت حولها ريبة أهاليهم الذين واجهوا صدّاً ممنهجاً من نافذي وزارة الصحة ولاحقا الشرطة، قبل أن يتحول الأمر الى مواجهة عارمة أسقطت حكومة، من دون أن تنال من جناتها وأزلامهم.

****

تأتي الصدمة الأولى، التي يضعنا ناناو في خضمها، ومن دون مقابلات أو أحاديث مباشرة، بعد تصويره جلسة جماعية لعوائل مكلومة، وهم يداورون بشأن خطواتهم لإنصاف ضحاياهم، حيث يعرض لنا مقطعاً حياً لمغني موسيقى روك يُنهي وصلته الصاخبة، ويشير الى إن شيئاً ما يشتعل، وكأنه يقول: هذا ليس من ضمن العرض. تُبين المشاهد المصوَّرة بكاميرة هاتف نقال إن هناك ألعاباً ناريّة معلَّقة بشكل عشوائي وغير آمن، تُطلق شَّرراً لم يلتف أحد لمخاطرها. ثوان أخرى، تعصف نيران هائلة بالسقف، ويلف الجميع دخان أسود. يقع الحاضرون المرعوبون في شرك طوق قاتل مكون من سعير متعاظم ومخرج واحد، لم يسع تدافع الجميع نحوه لإنقاذ أنفسهم وحيواتهم.

هذا الفيلم النفيس والوحشيّ، يُطلق نفيره عالياً لكن من دون تحريض بخس أو تسليع رثاء. شجاعته الأخلاقية وعمق إنسانيته لا تُضاهى، حين اختار أن يكون جزءاً من "جماعية" أخرى (وهي تورية عنوان الشريط)، تنشط لمصلحة عامة، يغدر بها أزلام نظام ما بعد حقبة نيقولاي تشاوتشيسكو، المتهافتون على إستلاف رأسمالية وافدة (يدعونها ديموقراطية)، إثر إنهيار كتلتهم الشيوعية، من غير أن يتخلوا عن سلوك قَبَليّ متعفّن، وعقلية سافلة النوايا وعدوانيّة.

إختار ناناو مصاحبة فريق صحافي إستقصائي، مُعظَّماً شكيمة أفراده، ومؤازراً عنادهم، ومحصَّناً حجَّجهم، ومدوَّناً مناوراتهم، ومسانداً صدَعَهم بالحق. نلتقي مراسل صحيفة "غازيتا سبورتوريلو"، المتخصصة في شؤون الرياضة كاتالين تولونتان برفقة مساعدته ميريلا نياغ التي تُنذرنا: "الحكاية مثيرة. أخشى إننا سنبدو مثل مجانين". نلتقيهما معاً في الجلسة الحزينة، حيث تصبح تساؤلات الحاضرين ولوعاتهم ودموعهم، والميتات الغامضة وحسراتها، التأسيس المنظم والمفعم بالفضول والمجابهة والنخوة، لمناورات صحافية جسورة، تمتد على مدى 109 دقائق من الخِزيْ، لن يدخل ناناو (ولد في بوخارست عام 1979) وعمله في أيّ من تداعياته أو إنقلاباته.

إنه حامل الكاميرا والمتعقَّب والموثَّق والمباصِر. دليلنا السينمائي الحصيف، الذي يستبعد تماماً التعليق الكلامي المصاحب (فويس أوفر)، الى إحدى أقذر عمليات الظلم الإجتماعي في أوروبا الحديثة، التي تحضَّ ضدها جملة عنيدة من سيدة، تقولها بعزم: "إذا صمتنا، فنحن متواطؤون"، لتطغي رائحة الأجساد المحروقة في أنوف المشاهدين، ليس بسبب ذلك المشهد الصاعق، وإنما ما وضعه ناناو أمامنا من خيار أخلاقي متمثّل بشابة تعرضت الى إصابات بشعة، أفقدتها أصابع كلتا يديها، وطالت النيران شعر رأسها وأعلى ظهرها. يكرسها ظهورها منذ اللقطة الإفتتاحية، كإيقونة دأب جماعي، مسيَّر للأهالي والإعلاميين، ومصوَّب مقاومتهم لنيل الحقيقة والقصاص من مجرمين، تحصَّنوا وراء عصاباتهم ونفوذهم وعمولاتهم.

****

تَدي أورسُليانو، إثبات حيّ على تصدَّع المصالح الطبية في رومانيا، وفساد المشرفين على مشافيها. وهو (الإثبات) عصب إعتباري أصيل لفيلم "كولكتيف"، الحائز على جائزة أكاديمية السينما الأوروبية لأفضل فيلم وثائقي (2020). فحياؤها الفطري وطلتها المنتمية الى تقليعة "الهارد متل" الفوضوية، تُذكر بإقرانها وتلك الليلة المشؤومة. تذهب أورسُليانو الى الإعلام، ولكن بطريقتها الخاصة عبر الفوتوغرافيا لعلاج صدمتها، الأمر الذي "يقلب" عصب شريط ناناو، ومثله عقيدة الفيلم الوثائقي التقليدي. فصاحب "توتو وشقيقاته" (2014) لن يُساير ما هو متفق عليه بشأن "ديموقراطية" الأصوات، أيّ عرض الرأي وضده، الحجة ومقابلها. هذه صيغة يتجاوزها البناء الدرامي لـ"كولكتيف". بدلاً من ذلك لن نسمع أبداً منطق الضحايا، سواء ما يخص الحادث أو توابعه، في حين يُشدَّد الشريط على عرض ذرائع الجناة، من دون خوف الوقوع ضحية طوياتهم المبيتة ومراوغاتهم. كُلّ الوثائق ـ ومنها ما تكشفه لاحقا الدكتورة كاميليا رويو من مخالفات جسيمة ـ يثبت عمليات غش واسعة النطاق في مجال الرعاية الصحية، أثرت أقطاباً وسياسيين، وأدت إلى وفاة مواطنين أبرياء، وإغتيال أخرين أصرّوا على كشف الفضيحة.

ان اللقطات الفوتوغرافية للشابة التي تصورها في أوضاع تعبيرية، ونشاهدها لاحقا في معرض تزيح الستار عنها تباعاً، هي تراكم عاطفيّ وحسي للمجزرة. كُلّ وضعية فيها هي بمثابة إدانة لإيّ تبرير رسمي يستبعد الجزاء. ان تشوهات أورسُليانو التي يعرضها ناناو مرتين (في الدقائق 25 و63) تتعاظم كحقيقة صامتة، وتجسيد دائم لرهافة جسد حين يتعرض للتدمير بالمراوغة، كما في حالتها، أو بالجشع، كما في حالة الصدمة الثانية التي يرميها ناناو في وجوهنا، عبر لقطات حية ومصوّرة بكاميرا هاتف نقال، تُظهر جسداً مسجّياً في غيبوبة على سرير في غرفة عناية مركزة، تقترب عدستها من رأسه المضمد، لنرى ديداناً بيضاء تخرج من لحمة وجهه.

تكشف تحقيقات تولونتان/ نياغ وإلتزامهما الصحافي المقدام عن تحايلات حكومية في ما يخص عصابات تتعامل مع مستشفيات ومرافق صحية في جميع أنحاء البلاد، ومنها وحدة الحروق المتخَّصصة، وتمدَّها بمطهرات تم تخفيفها إلى درجة تفقد كل فاعلية في قتل البكتيريا، وتُسهل من تفشي العدوى والوفيات. ولعل مشهد مواجهة الصحافي مع وزير الصحة نيكولاي بونسيو، وإصرار هذا الأخير على إن المستشفيات الرومانية مهيأة للتعامل مع الحالات الطارئة، وبالكفاءات ذاتها لدى نظيراتها في ألمانيا!!، يثبت فطنة ناناو في عرض الأكاذيب وإستخدامها بمهارة تقابلية، تصبح فيها "الجماعية الإعلاميّة" من شاشات التلفزيون الإخبارية، وتقارير مراسليها، والمؤتمرات الصحافية، وتصريحات كبار المسؤولين وتحاشيهم الواضح للسجال أو الإعتراف بالتجاوزات، جزءاً من كتلة إتهاميّة، تتضخَّم تفاعلاتها لتصيب كبار النافذين وتهددهم، فيما يتداعى حرجها على الجميع.

ان كذبة إختبار المطهرات، ومزاعم إنها فعالة بنسبة 95%، وصور تلك اليرقات البيضاء المثيرة للغثيان، تجعل من تكتيك "كولكتيف" أكثر ديناميكية وتأثيراً وحسماً وإثارة للغضب، مما لو أصرَّ ـ إفتراضاً ـ على عرض شجون أهالي المغدورين، وإشباع تطهيرنا بمصائبهم. حَوْبةُ هذه الأخيرة، وجدت ضآلتها في وصول ناناو ومجموعته الى قلب المؤامرة الطبية، وهي شركة تدعى "هكسي فارما" ومالكها دان كوندريا، التي تتمَّ في مختبراتها عمليات تخفيف المطهرات، قبل بيعها ونقلها الى جهات طبية، بمكائد من موظفين يحققون أرباحاً سهلة من أموال رشاوى وعطايا سخيّة.

حين ينشر الفريق تحقيقاته المعزَّزة بالصور والوثائق، تصبح تداعياتها القانونية وضجتها الإعلامية أمراً لا يمكن التستَّر عليه. تسقط الحكومة عقب إعتصامات وتظاهرات جماعيّة كاسحة، ويلقى القبض على بعض المتورطين وفرار أخرين. بيد إن الضحية المركزية، والمتمثلة بالحق التلقائي للمواطن في الحصول على علاج طبي مضمون، تبقى أسيرة سور رسمي كتوم، لا يخشى ضرب قسم أبقراط ومعاييره الأخلاقية عرض الحائط.

****

تُنجز منهجية مخرج "العالم حسب إيون بي" (2010) في الرصد المتوازن لصوره، وصبره السينمائي الذي كَفَلَ له ثقة تولونتان وزملائه في قوّة شريطه المقبل، ويقينهم إنه رديف ووسيط إستقصائي من نوع أخر، إختراقات مشهدية ذات زخم مجيد خصوصا في المقطع الثالث من الفيلم، حيث يمنح قدوم وزير الصحة الجديد والناشط السياسي فلاد فويكوليسكو، الفريق المشترك الصحافي/ السينمائي ومعهم بناء الفيلم، ديناميكية درامية فوارة، عبر تمكينهم من الوصول والإطلاع بيسر مدهش على جهوده في الإصلاح، وتسجيل العقبات التي يواجهها.

لن يلغي هذا الشاب العفن الإجتماعي وتغوَّله، لكنه يملك باساً نادراً في وضع إصبعه على مكامنه. نراه متردّداً وخجولاً قبل أن يكشف عن جموح إداري لا يرضخ للرسميات. يلتقي مع الشابة أورسُليانو، ويعترف لها ـ وعلى جدار مكتبه أحدى لقطاتها الفوتوغرافية ـ إن ذلك العفن متوغل في كلّ مكان. تتبع كاميرة ناناو تحركات هذا السياسي المثاليّ. نستمع الى مناقشاته الإدارية وأحاديثه الهاتفية. نراقب إلتهامه وجبات طعامه المتواضعة، ليحاصرنا سؤال: أهو الرجل الخطأ والساذج كي يتم تمرير الجريمة من تحت أكمام بذلته الرسمية السوداء؟، أهو غولياث حداثيّ لن يتمكن من الهبوط تحت جبل الإنحرافات والشرور كي يكسر قاعدته ويهدّ أركانه أمام ضمير أوروبي غائب في شريط "كولكتيف"؟.

يعرض ناناو "مجموعة" فويكوليسكو في مشاهد عديدة وكأنهم طلاب جامعة، يدفنون رؤوسهم في حواسيبهم، وإن علقوا على أمر ما، يبدو كلامهم صدى لبيانات رسمية جافة. ان الوزير محاصر بعزلته، لأن البيروقراطية الوافدة أكثر دهاء من قدراته, عليه نراه في اللقطة الأخيرة وهو ينظر ساهماً عبر زجاج نافذة سيارته الحكومية، معلناً عن هزيمة مكتومة، تجد صداها في حكمة أطلقها الصحافي تولونتان في بداية الفيلم: "حين تنحني الصحافة الى السلطات، تعمد هذه الأخيرة الى الإساءة الى مواطنيها"... أحدهم هو ممثل النظام الوزير فويكوليسكو ذاته. لن يختم ناناو تحفته الثمينة بالرجل التعس، إنما بقبضة أب يرفعها في وجه حيف مرجوم، بعد زيارة قبر إبن مغدور في حريق النادي المنكوب، مردداً، وهو يغالب دموعه، كلمات ولحن إحدى الأغنيات المحبَّبة الى قلب اليافع الغائب وذائقته. ان شريط ناناو هو بلا مُنَازع أفضل فيلم لعام 2020.

سينماتك في ـ  19 ديسمبر 2020

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004