زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

 

Nomadland

"نومادلاند" للصينية الأميركية كلوي جاو... أهل التّيِه ضحايا الرأسماليّ الوحشيّ

بقلم: زياد الخزاعي

 

 
 
   

الشريط الثالث للصينية الأميركية كلوي جاو "نومادلاند" (108 د) قاتم، رغم بهاء مشهدياته. ساخط، رغم سكينة شخصياته وعوالمهم. بطيء، رغم فورة حيوات أُناسه وبسالاتهم. قطاعات بشرية من طوائف وأعراق متداخلة، تجتمع على ضيم إقتصادي واحد: فقدان العمل وموارده وحصاناته. هؤلاء جوابو أرض قسراً. ما هم ببدو أو رحل بالفطرة كما سارع الكثير في ترجمة العنوان، ووضعهم جزافاً في خانة الـ"أنوميا"، إنما هم جوالون حضريون يسعون الى جماعيّة، مطعون في أصولها ومستقبلها وأرضها. حين يفقد المرء في الولايات المتحدة ما يغطي أمانه المادي (راتب، تأمين حياة، تأمين صحي، تقاعد، ضمان إجتماعي)، يغدو طريداً من منزله وصحبته وجذَّره. منهم، فيرن (فرانسيس ماكدورمند) التي تجد نفسها وحيدة ومن دون عمل، بعد وفاة زوجها مريضاً، وإغلاق معمل التعدين (الجبس) عام 2011، ومعه البلدة الصغيرة أمباير (نيفادا) التي بُنيت على هامشه لإداريّيه وعماله وعوائلهم، بعد أن طالتهم أزمة العام 2008 الإقتصادية، وما لحقها من ذعر وإنكفاءات إئتمانية، دفعت بملايين من المواطنين الى فقدان وظائفهم ومنازلهم ومدخراتهم، قبل أن يجدوا أنفسهم على قارعة طريق في نزوح دائم (كما في رواية جون شتاينبك "عناقيد الغضب"،1939)، أسسوا عنده تجمعات هامشية لم تشهدها "بلد الكثرة" من قبل، لها أعرافها ولوائحها وأبطالها ونظام إتصالاتها ومعلوماتها.

هذه البُنى المستحدثة هي أساس كتاب إستقصائي فريد من نوعه للصحافية الأميركية جيسيكا برودر عنوانه " نومادلاند: البقاء على قيد الحياة في أميركا في القرن الحادي والعشرين"، أنجزته بعد أن جالت عبر خمس ولايات على مدى ثلاث سنوات، برفقة 50 شخصاً غالبيتهم من المواطنين البيض، وثَّقت تواريخهم وما حلَّ بهم قبل وبعد إنهيار أسرهم وإرتباطاتهم المهنية، ثم سجلت يوميات وظائف طارئة، ينجحون في الحصول عليها، مثل قطف التوت في فيرمونت، أو التفاح في كينتاكي، أو حراسة بوابات حقول النفط في تكساس، أو تحصيل التذاكر في حلبة سباقات السيارات في دايتونا بيتش، أو العمل بنوبات لمدة 12 ساعة في مستودعات أمازون وغيرها.

****

إنْتّخَبَت المخرجة كلوي جاو (ولدت في بكين، 1982) امرأتين من بينهم، وأضافت سيدة ثالثة خياليّة، وصاغت حولهن جلسات وإعترافات وبيانات وحقائق ومواقع وكيانات ثانوية وعارِضة، لنشهد على سِيَر متعددة ووجوه أشخاص حقيقيين، وننصَّت الى حوارات عفويّة ونابعة من ضمائر طَليقة، وظَّفها الفيلم لإكتشاف عوالم جديدة وغريبة الوقائع، بنفس شعري رهيف، هو إستكمال بصريّ حيويّ لإشتغالات هذه المخرجة الموهوبة حول العائلة وأزماتها، وكفاحها الوجودي وتعايشاتها، والفوضى المخفيّة التي تُرهب أفرادها، والتحيَّزات التي تعصف بمستقبلهم، وهم يقطنون مساكن مكتظة ومتهرئة في عمق الغرب الأميركي. في باكورتها "أغنيات علمني إياها أشقائي" (2015)، تصبح المَحميّة (وهي في واقع الحال السياسي والديموغرافي معتقل طبيعي) الخاصة بقبائل السكان الأصليين، المَنْذورة الى عزلة أفرادها وإنكساف مجدهم وعبوديتهم الى الخمر وإدمانه، أقرب الى جحيم برّيّ، يُصدع شكيمة شباب طمّاح الى نزوح وإسقاط هوية. يعاني اليافع جون من لا ضمان عيش وملل دائم وأنانيات محمومة. حين يقرر السفر الى لوس أنجيليس والإستقرار هناك مع صديقته، يكتشف من خلال أشقائه الكُثْر ومعاركهم وترحالهم وسط طبيعة ربّانيّة ساحرة، إنهم ضحايا سياسات نذلة، تستهدف عروة أنسابهم في المقام الأول، وتسعى الى "قتل" إلتزاماتهم بها، وتكرس الريبة بشأن إنتمائهم الى عرق يجب عليه أن يعاند إباداته المنظمة، ليعدل في لحظة أخيرة عن فكرة الهجرة، والإنخراط مجدداً داخل رحمه العشائري.

هذا العزوف، يعود بصبغة فلسفية أعمق في شريطها الثاني "الخيَّال" (2017)، حين يتحول عناد الفارس الشاب برادي في المشاركة بسباقات ركوب الخيول، رغم مخاطرها بسبب رجَّة أصابت دماغه، وأحدثت كسراً في جمجمته، إثر سقوطه من رِكّاب جواد جامح، لعنة مضمرة ضد قدر غادر قضى على طموح ذاتي، وروتين يومي كئيب، وأب مدمن خمر وشقيقة مصابة بالتوحد. برادي العشريني، إبن محمية قبائل لاكوتا سيوكس في ولاية ساوث داكوتا ، يتحصَّن بصمته ووحدته، حين يشرح حالته يقول: "كنت حطاماً عاطفياً". يجد سلوته في رفقة فرس يعتني به، ويروضه للمنافسات، لكن نظرات الملامات من أهل المَحميّة، تدفعه الى القيام بفعل لن يجرؤ على تحقيقه لنفسه: يطلق سراح بهيمته في المفازة الخلّابة، حيث حريتها ومرعاها.

****

السيدة الستينية، هي عذر وهمي وإختراع درامي للمؤلفة والمخرجة جاو، تقودنا الى التعرف على إرادات بشرية، تزهو بشجاعتها وصبرها وقناعاتها وتكابرها. لن نرافقهم في سفراتهم أو نطلع على أسلوب يومياتهم، لإننا في ضيافة فيرن ّالمتحصّنة بشاحنة قديمة، أهلتها الى منزل طارىء وفردوس عائلي تقطنه رفقة ذكرياتها، بما يُشكل هيكلاً لفلسفتها الشارحة لما آلت اليها حالتها، حين ترد على سؤال وجهته اليها طالبة سابقة إن هي متشردة، بجواب حاذق: "أنا لست بلا مأوى. أنا فقط بلا منزل. وهما ليسا الشيء نفسه، أليس كذلك؟".

تشرع بطواف للحصول على فرصة عمل، تجدها سريعا بسبب هدايات البعض، وهو أسلوب تكافليّ يشعّ عبر فصول نصّ كلوي جاو، في موقع (مركز) تعبئة تابع الى شركة أمازون، حيث تلتقي رفيقتها الجديدة الجدة ليندا مَي (65 عاماً)، ليشكلا ثنائياً إنسانياً قائماً على مرحمة صافية ونخوة نقيّة. هاتان السنتان، هما قيمة أخلاقية كليّة في "نومادلاند"، الحائز على جائزة الأسد الذهب للدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر 2020) لمهرجان فينيسيا السينمائي، يُلبَّسها لاحقا مؤسس معسكر شتوي في صحارى أريزونا والرجل العصامي الناذر جهده الى منفعة العامة والعابرين المدعو بوب ويلز الذي تُشبَّهه فيرن بـ"بابا نويل" (سانتا كلوز بكلماتها) بسبب لحيته وشعره الطويلين، مسوحاً إيديولوجياً تُسهل على المشاهد إدراجها ضمن قائمة وصايا مناهضي الرأسماليّة الوحشيّة: "لا تكمن المشكلة في إننا قبلنا بسطوة الدولار وإستبداده في السوق، بل لإننا إعتنقناها"، معتبراً إن ضحايا هذه السطوة هم مثل حصان يكد في العمل حتى شيخوخته، قبل أن يُطلق في المراعي ليلاقي نهاية عمره، مشدداً على "أن نجتمع معاً ونعتني ببعضنا البعض. فتيتانيك (إشارة الى الولايات المتحدة) تغرق، والأوقات الإقتصادية تتغير. لذا فإن هدفي هو تهيئة قوارب النجاة، وإنقاذ أكبر عدد ممكن من الأشخاص". ويلز، إحدى شخصيات قليلة تتقاطع مع مسارات بطلة ذات بأس وعراك صامت ضد هزيمة منتظرة. لن تساجله، ولن تتورط أبداً في مُحاجَّة ما. فكُلّ إمرىء حر بمنطقه، لكن الجميع يتآلفون على فرصة لمّ شمل وسند عاطفيّ وأُسَرِيّ.

****

في هذا الخلاء البهيّ، نصادف عائلات هجينة، أفرادها كبار في السن ومتمهلون لكنهم ذوي إرادات صلبة. متقشفون لكنهم لا يتحرجون من الوقوف بطابور وجبة غداء فقيرة. عاطلون عن العمل لكنهم يمتازون بمهارات، تعلمهم أساليب البقاء والإكتفاء الذاتي، تقودهم طرق طويلة الى مناطق بكر، تحرسها سماوات عظيمة، تصورها كلوي جاو حسب أسلوب معلمها ترينس ماليك الذي ينتقي ساعات السحر لإضفاء صبغة روحية على عوالم مأزومة. هذه الأخيرة التي تُحيط بجيلانات فيرن تتفكك عند نيران مخيمات الضاربين في الهَجْل وبواديها، لإن حكاياتهم الجماعية تجعل من صُحباتهم قضاء جماعياً لا يُنسى، ومن مسامراتهم موطناً بديلاً مفتوحاً على عراء قدسي، يحرضهم على سرد تواريخهم ومفاصل حيواتهم ومَنْ فقدوا وما آلت اليه أقدارهم. فوق رؤوسهم، وكما أرباب جهنم، تنوس روح أُمّة مضطربة ومجروحة بدجل سياسي أرعن وأنانية صليبيين محافظين، أشاعوا شعبوية مريضة وتعصَّبات إجتماعية وإستقطابية لصالح نخب خبيثة، أصابت الإقتصاد بتشوّه لا مثيل له، وجعلت أولوياتها القوة (بكلمة أخرى الحروب والعقوبات) والتباهي بها كركيزة حكم تعزَّز بها مصالحها الخاصة وثرواتها.

ما حدث بعد هزَّة العام 2008، هو طوفان من مواطنين منحسرين عن مثل عليا تخصَّ إستقرار أُسريّ وملكية عقار وجذر مديني، لصالح إستقلالية و"عدم إنصياع للبديهي"، حسب تعبير السوسيولوجي الفرنسي ميشال مافيزولي. قبائل حداثية تؤسس يوتوبيات متنقلة، لا مكان فيها لإسترقاق حكومة أو شركة أو منظومة تجارية، إنما تآزرات تلقائية واسعة النطاق ومتجذّرة بإنسانيتها، خالية من طبقيّة أو تناحر أو نقض عهود (كما لدى رعاة بقر هوليوود). هؤلاء طرائد نفذوا بكراماتهم من أميركاهم المشغولة بتحقيق الغنائم والعداوات. نراهم يتبادلون مقتنياتهم من دون مفاصلات بيع أو مساومات شراء. نراهم يودعون موتاهم بجلسات أقرب الى عشائر القَفَار. نراهم يرقصون كما لو إن النهايات بلا حدود. نراهم يتشاورون بمؤهلاتهم مجانا وكأنهم أفراد فرق كشفية. نراهم يتراحمون فيما بينهم لإن المرؤة لا تنتهي صلاحيتها أبداً. تضع المخرجة كلوي جاو كُلّ هذا في خط درامي تراكمي مفتوح، لا يهتم بترتيب فصوله أو يرفع شعاراته أو لعناته السياسية، لذا فلن نصادف شاشة تلفزيون أو نسمع نشرة أخبار أو نلتقي بمتحزّب ما. لا تتحدث فيرن وصاحباتها عن "الطرف الأخر"، عن بيت أبيض وإنتخابات وجمهوريين وديموقراطيين. لن يتساجلوا حول إدارة زرقاء أو حمراء تدير البلاد بتناوب مزمن، ولن يتخاصموا بشأن إستثناء أميركي كونهم ضحاياه. في مشهد وحيد خلال زيارة فيرن الى منزل شقيقتها دوللي (ماليسا سميث)، تقول كلاماً أقرب الى لوعة كيانية منه موقفاً مسيَّساً، ترميه في وجه نسيبها المضارب بالعقارات: "من الغريب أنك تشجع الناس على إستثمار مدخراتهم طوال حياتهم ، ليرتهنوا الى مأزق قَرْض مالي، فقط كي يشتروا منزلاً لا يمكنهم تحمل نفقاته".

****

 تكمن القوَّة التي تُحرك هولاء المنتمين الى الـ"نومادلاند" في حريتهم المطلقة وحِسهم الجمعي، وليس الى إعتبارات تقليدية أوأنانية لعابري سبيل. إن حلمهم الأميركي مغيّب، وهو خاضع الى تدوير سياسي يخون طبقة وسطى جاء غالبيتهم منها. في غياب أيّ دعم، فإن أعمال السخرة والوظائف المؤقتة هو خلاص مرحلي، يدفع بالبطلة ـ شأنها شأن الأخرين ـ الى ممارسته كمضيفة في مخيم، أو معبئة صناديق في أمازون، أو طباخة في مطعم همبرغر، أو حاصدة ثمر بنجر. الأكيد أنهم تواقون الى مهن، تتوسل فيرن الى موظفة مكتب العمالة: "أحتاج أن أعمل. أنا اُحب العمل"، بيد إن حُجَّة "الظرف حرج"، يجعل من أيّ مناورة تنتهي بزجر قانوني.

رغم هذا، ففيلم كلوي جاو لن يتضمن فوضى إجتماعية أو مواجهات تنديد أو نهب ممتلكات أو إقتحام مؤسسات. بدلاً من هذا، هناك إحساس عارم بالقمع وشعور لا ينتهي بالجور، بيد إنهما (القمع والجور) لن يمنعا مراوغات أهل الـ"نومادلاند" في الإستمرار بالحياة والتخطيط الى ميتات مُبَجَّلة، كما هي حالة العجوز شارلين سوانكي التي تُخبر البطلة بإستشراء السرطان بجسدها، وخطتها في إستغلال كل لحظة من زمنها المتبقّي في تمجيد جيلاناتها السابقة، وإغلاق دائرتها برحلة وداعية الى الأسكا، بدلاَ من إهدار عمرها في المستشفيات ووعود الشفاء، أو حسب كلماتها: "أريد أن أرى أشياء فريدة". المدهش إن مشاهد مغامراتها هناك، التي نراها عبر فيديو أرسلته الى هاتف فيرن الجوال، ولاحقا جلسة تأبينها برمي الحصى في نار المخيم لن تدعو الى رثاء، بل تستعير كلمات حكمة الناشط العجوز بوب ويلز، المكلوم بإنتحار ولده البكر: "من أكثر الأمور التي أحبها في هذه الحياة انه لا يوجد وداع نهائي. أنا أُكرر قولي الدائم "سأراكم عند نهاية الطريق"".

تتجسَّد هذه النهاية الرمزية  في مشهد ختامي، مصوَّر كما أغلب فصول الشريط بكاميرا محمولة (ستدي كام) ديناميكية بتوقيع جوشوا جيمس ريتشاردز، في ثاني تعاون مع جاو بعد "الخيَّال"، يقود فيرن الى بيتها المهجور في إمباير، كي تتبرَّع بما تبقى من ممتلكاتها وزوجها الراحل، وتعاين فراغاً موجعاً وجموداً دهرياً يحيطان بغرفه وجدرانه، ومثلها شوارع بلدة، قتلتها زُّمرة حاكمة خؤوونة. تعلن المعلمة السابقة عن قطيعة حاسمة مع ماضيها، قبل أن تضرب موعداً أخر مع طرق جديدة ومفتوحة على عوالم، تقودها بالضرورة الى صداقات حقَّة ونزيه، تضفي حُزُمات من معان مُنيرة الى حياتها، على شاكلة المودّة الصافية التي جمعتها مع ديفيد (الممثل ديفيد ستراثيرن)، ومؤازرة قرار إستقراره النهائي والعودة الى منزل أولاده، بعد أن عرفا معا إنه أصبح جداً، أو ذلك التماس الأموميّ القريب الى التبَنّي الذي جمعها مع الفتى ديريك (ديريك إندريس)، وإستماعه الصبور لإلقائها إحدى سوناتات وليم شكسبير عن حب مُرْتَقَب. هل فيرن منيعة ضد الغدر؟. نعم. لإنها ببساطة تعيش في جيوب إجتماعية عدَّة، تملك مروناتها ولا فوضاها وإرتجاليتها، في حين إن كفاحها وجوديّ الطابع، ومُعَمَد بما ذكرته أختها دوللي: "كنت دائما مِقْدامة وأكثر صدقاً من الأخرين".

شريط كلوي جاو هجاء سينمائي لظاهرة سوسيولوجيّة وإقتصاديّة متعاظمة، تنال من شهامة ملايين من الأميركيين العاديين الذين يرزحون تحت قوانين إستعباد إجتماعيّ بلا شفقة، وهو في طرف أخر إنشودة فيلمية حزينة عن مثابرة جموع من مواطنين شبه بروليتاريين، يَسَرَون في ما يظنون إنها "الأرض التي لا شرّ فيها" (حسب مصطلح بيتر كلاستر)، بحثاً عن عيش جماعي، لم يتوافر لهم حقاً في حياة محفوفة بفردانية وإنتهازية ووحشيّة وعولمة شديدة الشراسة.    

سينماتك في ـ  28 يناير 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004