لا يدور جديد الأميركي ديفيد فنتشر "مانك" (131 د) حول
إختراع باكورة مواطنه أورسون ويلز "المواطن كين"
(1941) بل هو لعنات سينمائية، تقفز ما بين عامي 1934
و1941. تصوب لسانها نحو عقيدة هوليوود و"إمبرياليتها".
سيرورة فيلم فنتشر وخلقه وتخيله، هي عصب درامي أخر،
تكشف إن الكاتب الحقيقي للشريط الشهير لم تخونه حصافته
في مقارباته التهكمية لذلك الإستعلاء العنصري الذي
"إستعمر" دواخل ديكتاتوريّ شركات هوليوود
وإستوديوهاتها النافذة خلال ثلاثينات وأربعينات القرن
الماضي.
بالضرورة، فإن "مانك" ليس فيلما تاريخياً صرفاً،
وإنما مقاربة حقبوية لإقطاب مؤسسين لمدينة فاضلة
تحولت، بسبب تعنتهم ومناوراتهم كمهاجرين أوروبيين
شديدي اليمينية والولاء، الى عرين لوحوش إيديولوجية
شرسة ونفعية وتسلطية. ما نراه هو تزواج عقليتين
إنتاجيتين. ترى الأولى، المتجسّدة في شخصية قطب
الصحافة ويليم راندلوف هيرست (الممثل البريطاني تشارلز
دانس)، إن الإعلام ـ مكتوباً أو لاحقا متلفزاً ـ هو
مفتاح تسيد وحصانة، فيما تؤمن الأخرى، المتجسّدة
بشخصية مالك استوديوهات مترو غولدوين ماير (أرليس
هوارد) إن التحكم المؤفلم بمشاعر العموم يعني سلب
إرادات تعارضاتهم أو تنمراتهم، مثلما قدرته على "تنظف"
نوازعهم و"توزيع الملامات عليهم"، حسب تعبير ذكي للبطل
كاتب السيناريو هارمان جي مانكويز الذي نقابله بعد
حادث سيارة أدى الى كسر قدمه، وهو يقول جملته
الإفتتاحية الأساسية: "إنا قادر"، حين ينهر سائقه عن
مساعدته في المشي على عكازتيه. كلمة "قادر" التي تعبر
عن شخصية رجل حرون وذَّرب اللسان ولماح كلام، ستلقي
بظلالها على نصّ "مانك"، المعروض على منصة "نتفليكس"
بدءاً من 4 ديسمبر 2020، وتُحرض في كل فصل تابع على
تأويل إشاراته وغمزاته المسيسة في عمومها.
*****
إن التمكين الشخصي الذي يميز كينونة رجل يُدمن معاقرة
خمر وتدخين ولعب قمار ومراهنات، هو مغامرة كامنة
ومدهشة في شريط فنتشر الذي كتب نصّه والده الصحافي
الراحل جاك، يفككها مانكويز ضمن فيوض من تركيب حكائي
ذا نمط لاذع وتحريضي، يصل في غالبيته الى حدود توريات
كاريكاتيرية، تحتاج الى إطلاع بما يتعلق بمرجعياتها
الشعبية والأدبية، على شاكلة "أنا أتحدث بجد عن الأمور
الطريفة فقط" (في ممازحته مع الممثلة ماريون ديفيز،
عشيقة هيرست)، أو"الجرأة هي كل ما تبقى لي" (في
مناوشته مع ويلز)، أو "منافسوك الحقيقيون... حمقى"، أو
"لا تتذمر... وحاول أن لا تغفو" (في نصائحه الى شقيقه
الأصغر جوزيف). تجعل طريقة "مانك" (وهو إختصار لإسم
مانكويز) في "إصطياد" ضحاياه لغوياً من الفيلم أقرب
الى محاورة مطولة وممسرحة، دقيقة الصنع والإختيارات،
منها كسردية سينمائية لإحداث متوالية، ذلك إن النص
المكلف في إنجازه والمعنون بـ"الأميركي" لا يكشف عن
شخصيات وحسب، وإنما روح عصر وشياطينه، إضافة الى
الإنقلابات العظيمة التي ستقود السينما نحو أمجاد
متجددة، الأمر الذي يحتاج الى شخصية ثقافية (في الواقع
كاتب مسرحي تحول الى معالجة السيناريو السينمائي)
شديدة البأس والعناد واللا مبالاة والمكايلة، قادرة
على الإستفزاز والصدام، كي يضمن لنفسة مكاناً وحظوات.
من هنا، صاغ آل فنتشر (الأب والإبن) أسلوبية تقابلية،
تتراكم وقائع كل منها على حدة، لكنها تلتقي عند روح
كتابة مانك لـ"نصّ ويلز" وتطورات "إبداعه". هذان زمنان
ممتدان، مكتوبان كوحدات مشهدية مستولة من سيناريو
إفتراضي، تستعرض مغامرات البطل وسط ساحة وغى تعج
بالدسائس والتحزبات والغلبة، محروساً بثلاث نساء
شديدات الوفاء له، وهن سكرتيرته البريطانية ريتا (ليلي
كولنز)، وممرضته الألمانية فريدا(مونيكا غروسمان)،
وزوجته وأم أطفاله سارة (توبنس مَدلتن).
هذه الحصانة النسوية لها مردودها الأخلاقي لعجوز لا
يمكن المسّ بسمعته أو الحط منها بفضحية جنسية ما. هو
بعيد عنها لكنه غارق في أخرى أكثر لعنة ومجلبة لمصير
أسود حين جعل من هيرست وعشيقته وحكايتهما عصب الفيلم
الموعود. أما في الزمن الأخر، فمانك هو دليلنا الى
عقيدة هوليوود الثلاثينات التي يشرحها لنا اليميني
لويس ماير، عبر قواعد ثلاث، أكثرها إنتهازية هي الأولى
التي تؤمن بسياسة: "الفن من أجل الفن (أرس غراتشا
أرتيس). نصرف نصف مليون دولار على أفلام لا ننتجها.
لماذا؟ لإنها لا تجعلني أبكي. وما الذي يجعلني أبكي؟.
الجواب: المشاعر. وأين أحس بالمشاعر. هنا(يضرب رأسه).
وهنا (يضرب جهة قلبه). وهنا (يمسك بإعضائه
التناسلية)". يصرخ ايضا: "نملك نجوماً أكثر مما في
السماء لكن ليس لدينا سوى نجم واحد هو "ليو"
الأسد(الذي يظهر مع الشارة الشهيرة للإستوديو). ويخلص
الى إن "هذا مجال (صناعة) لا ينال فيه المشتري شيئاً
سوى ذكرى. فما إشتراه يبقى ملكي. هذا سحر السينما
الحقيقي. لا تصدق مَنْ يُخبرك عكس ذلك". بعد هذه
الخطبة الطويلة التي تجري في أروقة طويلة. ماير في
المقدمة ومانك وشقيقه يتبعاه الى داخل بلاتوه يحتشد
بجميع العاملين، ليؤدي أمامهم دوراً شايلوكياً
بإمتياز، حين يطلب منهم التنازل عن نصف مرتباتهم، بسبب
الضائقة الإقتصادية التي هزَت أركان الإمبريالية
الكبرى آنذاك، لنسمع ملاحظة مانك الجارحة: "هذا أكثر
شيء مخز رأيته في حياتي".
*****
هوليوود ماير وأقرانه ليست أرباحاُ فقط بل مأسسة
إيديولوجية معقدة وبلا ضمير، تنتصر الى فاشيتها
المضمرة، عبر دعم الحزب الجمهوري الذي يتزعم فرعه في
هوليوود ماير نفسه، ونشاطه الشخصي في القضاء على
الإشتراكيين من أمثال الكاتب الشهير أبتُن سنكلير،
المنافس الشرس لرأسماليي سودوم الفاسقة. لا يعتنق مانك
فنتشر أي من القناعتين إذ "لا أحد يملي عليك شيئاً"
كما يقول له مساعد أورسن ويلز، بدلاً من ذلك يتحرك على
ذمتين، لا تسعيان بإي حال من الأحوال الى مواجهة
العصبة الوطنية وحلمها العتيد. من جهة، يناصر أقرانه
من العاملين في الصناعة، دفعت بهم ظروفهم الى العوز
والإستجداء (مشهد إقراضه دولارأً لزميل سابق)،
أوالمهادنة وإختلاق الأخبار الكاذبة (مشهد محاولته
الفاشلة للحيلولة من إنتحار أخر تورط في إخراج مشاهد
تلفيقية ضد سنكلير)، أو التكاذب (مشهد تضرعه الى
الممثلة الفاشلة ماريون والكشف عن صفقة إنتقالها الى
إستوديو منافس). من جهة أخرى، يغرق مانك (إداء رفيع من
البريطاني غاري أولدمن) في تكديراته لعالم اللا نزاهة
من حوله، فتارة يُصحح الى أرفن ثولبيرغ الملقب بـ "فتى
هوليوود المعجزة" إن: "في الإشتراكية يتشارك الجميع
الثروات، أما في الشيوعية فيتشارك الكلّ الفقر". وفي
تارة أخرى يعقب على قول ماير: "لو قدمت للجمهور ما
يحتاجون الى معرفته بطريقة عاطفية، فتوقع أن يفعلوا
الصواب"، بقول تصحيحي: "أظن ما تعنيه، إذا ظللت تُخبر
الناس بأكاذيب لوقت طويل وبصوت مسموع، فسيصدقوك في
نهاية المطاف"، غامزاً الى ناحية وزير الدعاية النازي
جوزيف غوبلز. قطعاً، إن مانك فنتشر ليس يسوعاً
سينمائياً، إنه في الواقع خسارة شخصية، تداري إندحارها
بالإدمان والجرأة اللتين تقوداه الى سعيره. وحده الحظ
الذي ربط مصيره مع أرسون ويلز كي يُصفي حساباته
الهوليوودية عبر "إقتباسه" حياة "المواطن كين" ونزعات
تسلطه عن شخصية هيرست الحقيقية، وإصرار هذا الأخير على
إبتزاز الجميع من أجل تحويل شابة بلا موهبة تًذكر الى
نجمة لا تُضاهى.
كان مانك الحرون واعياً الى لعبه بنيران ستحرق كيانه
وسمعته ومستقبله ككاتب، بيد إن النصّ الذي إكتمل، ووجد
حصانته القانونية بتراجعه عن إغفال إسمه عليه، وجائزة
الأوسكار التي نالها لاحقا لإفضل سيناريو أصلي، تكفلت
جميعها بمجد عظيم لرجل عاني من إهمال ومهانات وذل، أما
القدر فلم يداريه الى أكثر من أعوام قليلة قبل وفاته
بسبب الإدمان وهو في سن الـ55. رحل مانكويز، وبعده
ويلز، فيما تحول عملهما الى إيقونة ثوروية في تاريخ
السينما، رغم شقاق النقاد والمختصين بشأن إعتباره تحفة
خالصة أم لا.
*****
لئن إنتظر ديفيد فنتشر أعواماً طويلة قبل مقاربة نص
والده (توفى عام 2003)، فإن تريثه وفطنته مهدتا الى
إستفادته من تقنيات مستحدثة، في مقدمتها تعاونه للمرة
الثانية، بعد "الزوجة المفقودة" (2014) مع مدير
التصوير إريك مسارشمت، وعملهما المشترك على كاميرة
رقمية خاصة بشريط ذا جودة ديناميكية وبنطاق السينما
سكوب. حاولا عبرها الى حد ما "إستلاف" روح تصوير
"المواطن كين"، والخلاصات البصرية التي إبتكرها مدير
تصويره غريك تولاند، خصوصا ما يتعلق بعمق مجال الصورة
ونقاواته، وإستخدامات تقاطعات الأبيض والأسود الخاصة
بإسلوب "كياراسكيرو"، وصبغات الكروم التي جعلت من كل
صورة ذات حس مرئي متدفق، وقوة عاطفية عارمة، ولعل
المشهد الختامي الباهر أفضل نموذج لإستراتيجية الثنائي
فنتشر/ مسارشمت في دمج التراكيب المسرحية التفخيمية
لدى ويلز مع روح اللقطة الطويلة المستحدثة، مع مراعاة
تعمد المونتير الموهوب كريغ باكستر (تعاون مع فنتشر في
"الحالة الغريبة لبنجامين بتن"/2008، و"الشبكة
الإجتماعية"/2010)، الى كسر إيهام ديمومتها. إن إختراق
مانك لمأدبة الأعياد في قصر قطب الصحافة هيرست وبحضور
ماير، وتصويره كرجل ضئيل ضمن معمار فاره، مكدس
بإكسسوارات على غرار قلعة "زانادو" كين، لن يُفهم
كلعبة غدر ثنائية حتى شروعه بالدوران حول الحاضرين،
موجهاً الإهانات المبطنة التي يبرع بها الى الرجلين،
عبر تصوره الى أفلمة رواية "كيخوته" سيرفانتس وحكايتها
الشعبية حول الفارس العجوز وتابعه سانشو. وبدا واضحاً
إن خيار اللقطة المستمرة وروحها هو ما يجعل من البطل
وحدة درامية مؤطرة قصداً، يتعاظم وجوده الفسلجي داخل
محيط ساكن، يُكسر جموده مع خروج الضيوف تباعاً. تتقاطع
هيمنة مانك مع وجهي "العدوين"، هيرست بملامحه
البرجوازية الحجرية، والأخر بسحنة الأفعوان ولباسه
الكولونيالي المضحك. وكلما توصل الى نقطة التشابه
الأدبية، يتحول هجائه الى خطبة ضد عقيدة هوليوود
وأبالستها. يصنف باكستر العالمين بنوعين من اللقطات.
يظهر الرجل الخطيب السكير بلقطة عامة لا تتوقف، تستعرض
المكان وبهائه، مثلما توكد على خسارته المقبلة، حين
يقوده المضيف الذي يظهر دائما بلقطات مقربة (كلوز أب)
لاحقا الى باب قصره ويطرده نهائياً من أمجاد "مصنعنا
البارز للأحلام". قبل هذا، يتقيأ مانك عشاءه أمام
الجميع، فحجته لا تحتاج الى خمر بل الى قدرة مضمونة
وحية وصلبة، تخونه في نهاية المطاف، وأيضا الى وعي لا
يتداركه. ينهره ماير بصرخة مدوية: "أيها اللعين, أتعرف
مَنْ يدفع نصف راتبك؟ إنه هو (مشيراً الى هيرست) ليس
بسبب كتاباتك البائسة بل لإنه معجب بإسلوب كلامك". هذه
هزيمة رجل مِلْسان، لن يعترف بها مانك إلا أمام شقيقه
جوزيف الساعي الى ثنيه عن وضع أسمه على السيناريو
الملعون، فيقول له بأسى: "لقد إنقضى زماني".
المدهش في "مانك" هو تخلي فنتشر (1962) عن ولعه
باللعبة السينمائية ودهشاتها التي صورت كائناً فضائياً
عنيداً لن يهدأ قبل محق البشر في "الغريب3" (1992)،
وسفاحاً يقتل ضحاياه حسب الخطايا السبعة وعناوينها،
ويلاعب ضابطي تحقيق متضاربي الأهواء والأعمار في
"سبعة" (1995)، ورجل أعمال يتحول الى طريدة أزلام شركة
وهمية في "اللعبة" (1997)، وشاباً يجفوه النوم، ليخال
له إنه شخص أخرى يسعى الى تدمير القوة الأميركية في
"نادي العراك" (1999)، وسيدة وإبنتها تحاصرنهن عصابة
سراق في "غرفة الهلع" (2002)، وسفاحاً مجهول الهوية
يقتل ويشيع من حوله الغموض برسائل مرمزة في "زودياك"
(2007). هنا، يصبح فنتشر أكثر صبراً، وأقل حركية.
ينتصر الى بصيرة سينمائية ملحمية عمادها ضوء وظل،
ومنظور تشكيليّ متفَّجر، وخطاب مسيّس بإمتياز لم يتوفر
مطلقاً في أي من أشرطته السابقة، سوى في "نادي العراك"
المميز بكابوسيته الخلاقة. |