أنجز الروسي إيليا غريجنوفسكي (موسكو،
1975) فيلماً روائياً واحداً هو "أربعة" (2004)، عن
ثلاث شخصيات شابة تتَجَاَلَس، من دون معرفة مسبّقة، في
حانة فارغة من الزبائن. تاجر لحوم ومدوزن موسيقي لألة
بيانو وبائعة هوى، يتبادلون الكلام حول خفايا القنبلة
النووية السوفيّاتية، وعمليات مشبوهة لإستنساخ الأجنة،
تنتج دائما 4 تّؤائم. يعتقل الـ"كي جي بي" الأول، قبل
مقتله في حادثة سير، ويختفي الأخر، فيما تعود الشابة
الى قريتها النائية لدفن شقيقتها، لنكتشف أن لها 3
شبيهات أُخريات (مع المتوفاة) نتيجة إستنساخ سرّي!. في
نهاية الشريط، نراقب أربع طائرات شحن عسكرية، تنقل
عشرات من الجنود الى جبهة حرب مجهولة. تجري وقائع
الفيلم (128 د) ضمن تصوَّر بصريّ ضبابيّ لعوالم معزولة
وشرسة وملولة، لا حراك حقيقيّ فيها. كل شيء قائم على
صّراط إجتماعي تعنّيفي النزعات، مَخْمور، وشبه مخبول.
"أربعة" هو نصّ استفزازيّ وتغريبيّ البناء، لا يمكن
لمتفرجه الإندماج مع أيّ شخصية أو حدث. عالم مصطنع بلا
عواطف. يستمرِىء خشونة مبالغ فيها، حيث نرى نساء
عجائز، يمارسن طقساً مجنوناً، يقطعن فيه بأيديهن جثة
خنزير مشويّ إرباً، وبحيوانيّة لا مثيل لها.
قسَّم هذا النصّ النقاد، بعد عرضه في
مهرجان روتردام السينمائي بهولندا، وحصوله في دورته
لعام 2005 على 3 جوائز أساسية منها "فهد ذهب" لأفضل
فيلم، بين مادحين قلَّة لغرابة أفكار غريجنوفسكي،
ومتحاملين كَثَرَة على رعونته وساديته. بيد إن الإساس
في سجالات "أربعة" كانت في الغالب تتناوش الشرّ، من
دون التفوَّه بكلمة حوله أو الغمز الى طرفه. هو بذرة
لما أسميناه بـ "ثيوديسيا البروليتاري"، حين يفشل
الجميع، ومعهم أشباحهم الحداثيين، من الإحتكام الى
"عناية إلهية"، تنصرهم ضد ذلك الشرّ، كونها ممنوعة
ومُكفَّرة حسب التوتاليتارية الحاكمة وإيديولوجيتها.
بدلاً من ذلك، تصبح جلسات الخمر العارمة، أسلوباً
تدميريّا وإحتجاجيّاً ودفاعيّاً ضد السَّطوة وقهرها
ومظالمها.
في العام 2006، فاجأ هذا المخرج الشاب
الموهوب والجريء الوسط السينمائي الأوروبي بفكرة
مجنونة ومثيرة للجدل، لا تنتمي الى السينما بأيّ شكل،
وإنما وجدت مرجعيتها الإبداعية في كُلّ صنوف
التجهيزيّة التشكيليّة، من مسرحة الى معارض صور
وإنثروبولوجيا، وإنتهاء بسيرك سياسي، تحاكي عوالم
النظام السوفيّاتي السابق تحت حكم جوزف ستالين. الخطة
مدهشة وملعونة في آن، تدور حول إقامة "مستعمرة
شيوعية"، تستدعي تفاصيل دقيقة جداً لحياة روسية تمتد
ما بين 1938 و1968. ممثلوها، هم مواطنون دوليون من
مختلف الطوائف والجنسيات والأعراق والمهن. المطلوب
منهم، التخلّي عن حياتهم العادية، والقيام بتقمَّص
يوميات أهل موسكو، وهم يعيشون رعب حالات منتقاة من
ضروب قسوة منظَّمة، على شاكلة إستجوابات الـ"كي جي بي"
وجلسات تعذيبه. عبودية حزب وأزلام إيديولوجيته. عسف
دولة وتآمرات مستبديها. تطوعات إجبارية للتعرض الى
تجارب غامضة تحت إشراف علماء غريبي الأطوار. إذعان
غامض الدوافع لعمليات غسل إدمغة. تشكيل زمر تمارس
جنساً جماعيّاً، لن تخشى لا أخلاقيته أوعقابه
الضميريّ. القبول بإنتفاء هويات فردية، والتنازل طوعاً
عن حقوق، يُفترض إنها مصانة. التعرض الممنهج الى صنوف
مهانات إجتماعية، وصولاً الى أقصى درجات الانصياع.
تجري هذه المطابقات داخل بناء معزول
وشديد الحراسة. على المتطوع تسجيل أسمه وإستلام جواز
سفر خاص وهوية بإسم مستعار. يتخلى عن هاتفه النقال،
ويُحرم من أيّ وسيلة إتصال مع العالم الخارجي. يتنازل
المتطوع أيضا كتابياً عن حقّه في الإعتذار أو رفض
القيام بأيّ فعل يراه (أو تراه) ضد الأعراف أوالقيم،
لكن له (ها) الحقّ بترك المشروع والمغادرة نهائياً.
شرع غريجنوفسكي، في العام 2009، ببناء مستعمرته في
مدينة خراكوف الأوكرانية. وحشدها بكل ما هو سوفيّاتي،
من ملابس (حتى الملابس الداخلية حسب تحقيق موسع نشرته
صحيفة "ذي غارديان" البريطانية في 26 يناير 2019)
ومقتنيات وأجهزة وروبلات مالية وقتذاك، وحتى قصّات شعر
وماركات سجائر وعلامات تغليف معلبات غذائية وصحف
ومطبوعات وأكسسوارات تم تجهيزها بتصميمات تلك الحقبة.
وأشاد بنايات على طرز معمول بها آنذاك، كما شكَّل
مجموعات دقيقة التدريب من جيش أحمر وفرق مخابرات
وميليشيات حزبية وغيرها. كلّ أشكال الحياة، هُندست
ببراعة داخل مساحات مغلقة واسعة الأطراف. مركزها معهد
أبحاث غامض أُطلق عليه أسم "داو"، وعُزل مَنْ فيه لمدة
عامين كاملين، قبل نقل التجهيز بأكمله في العام
الماضي، وكما هو، الى باريس كعرض مفتوح للجمهور
"إستعمر" بنايتي مسرح مشهورين في قلب عاصمة النور، قبل
أن يُنقل الى لندن ومن ثم برلين في عام 2020.
بدأ غريجنوفسكي فكرته الطموحة في العام
2005، وقارنها الإعلام الغربي بتجارب سيئة الصَّيت مثل
"اختبار سجن ستانفورد" (1971) و "اختبار ستانلي
ملغرام" (1974) ، كما نعتتها الصحافة لاحقا بـ"ترومان
شو الستاليني"، إستعارة لإسم شريط الأسترالي بيتر واير
"ترومان شو" (1998)، كمشروع سينمائي يدور حول سيرة
حياة عالم سوفياتي مختصّ بفيزياء الكم من أذربيجان
يدعى لِف لانداو (1908 ـ 1968)، يُعتقد إنه ضالع في
برنامج الأسلحة الذرية السوفيّاتية، وحصل على جائزة
نوبل في عام 1962. عاش وعمل داخل منشأة خفيّة من أواخر
ثلاثينات القرن الماضي وحتى وفاته. تركز نشاطه حول
تطوير نظرية رياضية تخصّ الميوعة الفائقة للغازات.
عُرف لانداو بأراء تجريبية حول علاقة الجنس والمخدرات
بالعلم، مروجاً لفكرة أن الزواج يجب أن لا يكون عائقاً
أمام الحرية الجنسية!، وتعرض لاحقا الى الكثير من
التحقيقات بخصوص رؤيته لما أسماه بـ "الفاشية
الحمراء".
كانت هذه المنشأة وملابسات وجودها
ونشاطها وموظفيها وأسرارها سبباً حاسماً في تخلى
غريجنوفسكي عن فيلمه الوليد، مركزاً إهتمامه منذئذ على
إنشاء نسخة طبق الأصل عنها، أسماها "داو"، ضمت 400
متطوع (إضافة الى 10 الآف من ممثليين ثانويين
"كومبارس") من أكاديميين وعمال نظافة ومجرمين خطيرين
ونازيين جدد وعضو سابق في جهاز المخابرات السوفيّاتي
ونادلات وعائلات عادية وفنانين معروفين (من بينهم
الصربية مارينا أبراموفيتش والألماني كارستين هولر
والمخرج المسرحي الأميركي بيتر سالرس) بل وحتى حاخام
وعالم حائز على جائزة نوبل، وأستاذ رياضيات ذائع
الصيت، وعالم أعصاب ومؤلف موسيقي إغريقي شهير!. خلال
تعايشهم المفبرك، لكن شديد الإتقان، للفترة ما بين
2009 وحتى 2011، تم تصوير 700 ساعة بإشراف مدير
التصوير الإلماني يورغن يورغيس، الحائز على جائزة أفضل
إسهام فني في الدورة الـ70 (20 فبراير ـ 1 مارس 2020)
لمهرجان برلين السينمائي. قرر غريجنوفسكي تقسيمها الى
13 فيلماً، إضافة الى مشاريع مستقبليّة تتعلق بإنجاز
مسلسل تلفزيوني وفيلم وثائقي طويل، وأيضا فيلم "داو"
أصلي حسب الصحيفة البريطانية المرموقة، جميعها تدور
حول فكرة "المساهمة في بناء عالم جديد".
أول غيث الأفلام تلك إثنان، عُرضا
منفصلين في مهرجان برلين السينمائي 2020، الأول ملحمي
البناء، ويحمل عنوان "داو. إنحلال " أتمَّه غريجنوفسكي
بمساعدة مواطنه إيليا بِرمياكوف، ويسرد خلال 355
دقيقة، نشاط المعهد الغامض خلال الفترة ما بين الأعوام
1966 ـ 1968، وإجراء تجارب علمية على بشر وحيوانات، في
محاولات مجنونة وقاسية وإيروتيكيّة فاحشة لخلق "إنسان
مثالي". بيد إن "وصول مجموعة شبابية راديكالية إلى
المعهد تنسف التراتب العلمي والسلطوي على حد سواء، حين
تفوَّضهم جهات أمنية عليا ومتأمرة بمهمة قاسية: القضاء
على السلوك المنحل للمثقفين بينهم - وإذا لزم الأمر-
تدمير العالم الهشّ داخل المعهد، ومحوه بلا شفقة".
أما الأخر "داو. ناتاشا" (134 د)، وهو
موضوع هذه المقاربة، فأُنجزه غريجنوفسكي بمشاركة
مواطنته يَكترينا أورتيل. محاكاة تاريخية ثقيلة الوطأة
من دون إيحاءات وإستفزازيّة وصارمة ومهيبة ومهينة.
معنية بالقسوة والإنحطاط اللذين تُمارسهما سيدة
أربعينية، يحمل الشريط أسمها، قبل أن يقعا عليها
بوحشيّة لا مثيل لها. ناتاشا (إداء قوي من ناتاليا
بيريجنايا) نادلة في كانتين المعهد السرّي خلال عامي
1952 ـ 1953. امرأة حيوية ومتسلّطة إلا إنها تعاني من
خراب داخلي، يدفعها الى شعور كراهية وإنكسار، ومن ثم
الميل نحو الإستبداد. سيدة من دون حب أو حنان. كائن
محاط بكثرة رجولية من دون أن يجرؤ أحد على لمس
عواطفها. تخشى الخطأ في حسابات البضائع، لكنها سيئة
التدبير في ما يتعلق بحسابات حياتها. كائن مستوحد حبيس
جدران بلا نوافذ، ومحاط بجحيم من رتب عسكرية وأمنية،
ومثلها خشيات وتلصُّصات ووشايات. تلتقي جميعا في مكان
ضيق، وتمارس آداب مجاملات رفيعة ومقامات مفخمَّة.
هؤلاء نُخبة حكومية لا يمكن مسّها أو الإختلاط بها.
تصبح ناتاشا ذات الطلّة الأمومية والعواطف الجيّاشة،
وهي تحت تأثير الفودكا والمشروبات الأخرى وتدخين
السجائر، مواطناً مضموناً وحيادياً الى حين. ترسمها
"بروليتاريتها" فرداً عاملاً بلا مقام مميَّز، سوى
كونها مدبرة مقصف، تؤمن طلبيات وجبات طعام لمجتمع
مختار.
نلتقي ناتاشا، في المشهد الأول، ليلاً
بصحبة زميلتها أولغا، وهي تُغني وتجري حساباتها
المالية. في اليوم التالي، يعجَّ المكان بجنود
وبيروقراطيين وحزبيين وعلماء سوفيّات يتحدثون عن
تجاربهم الغامضة. إنهم يسعون الى تصميم سلاح
كهرومغناطيسي لا يمكن اكتشافه، يضاهي القنبلة النووية
السهلة الإستهداف. الأكل وفير. الشكوى قليلة. تُلاطف
ناتاشا طفلاً، لأن العائلة المغيَّبة وأواصرها غصّة في
حياتها. الكلّ في رضا كامل. يتناول العلماء، ومنهم
رئيس القسم التجريبي أليكسي بلينوف، الشمبانيا بكثرة.
هذان التمهيدان الدراميان مصوران بإسلوب توثيقي
وبكاميرا محمولة، سيصبح نظاماً بصريّاً للمشروع
بإكمله. هَدَف غريجنوفسكي من تركيبه وإستخدامه، كسر
الإيهام بمشاهدة فيلم مرتَّب ومصنوع داخل إستوديو.
لذا، اخترع مدير التصوير المخضرم يورغن يورغيس نظام
إضاءة طبيعي وخاص التقنيات، موزع بطريقة هندسية، تموه
وجود كاميراته، وتسمح لها بالتنقل بين الأماكن
والشخصيات من دون ظهور ظلال أو إنعكاسات أجهزة أو
أشخاص. هذه حرية ديناميكية ومطلقة للجميع، فسحت المجال
واسعاً أمام إرتجال جماعيّ، نقابله برونق مدهش في
ثنائية ناتاشا وأولغا، وهما وحيدتان في المقصف، يشربن
ما تبقى من الخمور، ويدخن بشراهة، ويتبادلن لوعات حب
خاسر، وأخبار خيبات حياتهن.
تخبرنا الأولى عن عشق لا تستطيع الفكاك
منه لرجل هجرته، فيما تعترف أولغا ذات العشرين ربيعاً
بأنها لم تختبره من قبل، وتناشدها: "علميني كي أُحب".
تتشاتمان بحدّة، قبل أن تمارس الأولى عسفاً وتفوَّقاً
شخصياً ضد الأخرى، لإرغامها على تنظيف المكان. تدخلان
في عراك جسدي عدائيّ وفوضويّ، بعد عناد الأخيرة
ورفضها. صُمم هذا المشهد الصاعق والطويل نسبياً بطريقة
سينوغرافية هائلة التأثير والواقعية. هذا إعلان عن
علاقة معقَّدة وغير سويّة. إن شرّ ناتاشا هو "حدّ
أخلاقي" يحتال كي يشرَّعن تنمَّرها، على إعتبار إنها
حاكمة مكان وليس راعيته. أيّ إن "ثيوديسيا" هذه
الشخصية (إثبات لاعدالتها كامرأة مقهورة)، تعلَّل وجود
باطل، ولا تُحيَّيد جحود أوعواقب. على المشاهد التريث
حتى المقطع الأخير كي نمتحن هذه الثيولوجيا وبديهية
اللا رحمة التي تتفجر في شخصية ناتاشا، قبل أن تصبح
تورية عن نظام شمولي ظالم.
القسم التالي، هو روح الفيلم وضميره
الخَؤُون. يحتفل العلماء بنجاح تجربة علمية، كانت
عصيّة على الإختراق، تضمن "زيادة قدرات تحمل الطيارين
وقادة الدبابات وعمال الآلات الإستراتيجية". يدعو
الرئيس بلينوف عالماً فرنسياً زائراً يدعى لوك (لوك
بيجيه). رجل مديد القامة. أصلع الرأس. ودود ومقدام.
تقترح الشابة أولغا إستضافة الجميع الى حفلة في شقتها.
تزور ناتاشا المكان للمرّة الأولى، وتلتقي بالضيف
الفرنسي. بعد جلسات مديدة الزمن و متشعّبة الهرج نتيجة
سكر مجنون، ينتهي الإثنان الى فراش المضيَّفة،
ويمارسان جنساً بيّناً. يشعّ الحب بينهما. صور الثنائي
غريجنوفسكي/ يورغيس المواقعة برهان شديد الواقعية، حيث
لا فبركة في أوضاع الجماع أو أحاسيسه أو إنفعالاته.
مشهد كامل الطول والفعالية، دليل على حاجة متبادلة من
حسّ شبقي بين كائنين مغتربين. لوك في مكان أجنبي،
وناتاشا في عزلة ذاتية. لحظات اللَّذَّة القصيرة
تُنسيهما وحدتهما، وتردد هي بحنين لرجل غائب: "هو لن
يدعني أذهب"، لكن لوك لن يعيرها إلتفاتاً في مشهد
الفطور. يتحاشاها، ويساعد أولغا (أولغا شاكابارنيا)
للتخفيف من ثمالتها، من دون أن ينال وطراً منها. لوك
رجل معتدّ بنفسه ولا يتحين فرصاً. هو "جنتلمان" فرنسي.
يحمَّمها ويفك خصلات شعرها، قبل أن يدخلها سريرها، كي
تهَمَد في غيبوبتها. هذه الصفات الرجولة، يتم إمتحان
ناتاشا بشأنها لاحقا في واحد من أعنف المشاهد وأكثرها
خسَّة.
في قبو أمني، تُستدعى المرأة الى
التحقيق على يد فلاديمير أزيبو، وهو في الأصل كبير
ضباط التحقيقات الجنائية في وزارة الخارجية
السوفيّاتية سابقاً. تتعرض الى استجواب نفسي ضاري
بتهمة السرقة وممارسة الجنس مع أجنبي. يصفعها، ويرغمها
على التعرّي، ويدفن رأسها في فتحة مرحاض، قبل أن
يجبرها على إدخال عنق زجاجة في مهبلها. تحت الإذلال،
توقع ناتاشا على إعترافات كاذبة تدين لوك كجاسوس. هذا
مشهد جامح ومثير للجدل والغثيان. تمثيل مطلق لموت
"ثيوديسيا" كائن متواضع، يتحول من الأن وحتى نهاية
أجله الى شبح بروليتاري، عديم الإحساس ومأزوم وخائن
للعِشْرَة، بيد انه لن يتوانى من القول لمعذبه، وهو في
قمّة مهاناته: "أنا مغرمة ببريق عينيك"!. نشاهد ناتاشا
سائرة تحت جنح ظلام خبيث، يتبعها عسكري يقود كلباً
بوليسياً. إنها، لدى سلطة شمولية وقمعية، أداة شُبهة
وتجريم وتورَّيط وعداوات مضمرة. هذا الأخير هو عصب
المشهد الختامي الذي تعيد فيه ناتاشا سطوتها ضد
مرؤوستها الشابة. ما أن تبدأ بوادر العراك مجدداً
بينهما، يسقط ظلام قاس على شاشة غريجنوفسكي/ يورغيس،
إشارة الى إن دورة القامع والمقموع دهرية، طالما ماتت
الرحمة فينا، وبقيت حجة الشرّ قائمة بيننا.
يبني شريط "داو. ناتاشا" حجَّجه
الإيديولوجية على أرض تاريخية ـ إستعاديّة بادت. كانت
تفاصيلها الإعلامية، على الدوام، ذات إستهداف غربيّ
دعائيّ، تُشيطن الشيوعيّ، ولا تترك حيّزاً لإنسانيته
ومنجزاته وأسلوب حياته وطرق تفكيره. جعل هذا التقنَّين
المرتَّب من هاجس إنشاء مجتمع يوتوبي مفترض
لبروليتاريا مُتنعّمة ومتطورة وجبَّارة، فكرة خاسرة
مسبقاً لدى أهل الرأسماليات الكبرى ومنظَّريهم
المهووسيين بتسفيه أيّ نجاح للـ"قطب الكافر". إشتغال
غريجنوفسكي/ أورتيل جاء مفاجئاً في إختلاف مسوغاته
سواء الدرامية (كحكاية) والتجهيزية (كصنعة إستعراضيّة
مجيدة)، والمُشادة على ترتيبات محاكاة متداخلة ومُحكمة
ولا تُضاهى. الأمر الذي جعل من تشابهاتها الذكية وطرق
تصنيعها واختياراتها وتوزيعاتها وألوانها وأكسسواراتها
داخل المشاهد الطويلة، عنصراً فريداً وغير مسبوق في ما
يتعلق بظنوننا التاريخية للـ"مرحلة الحمراء" تلك،
والتي قامت في الغالب على كم هائل من التدليس
والأكاذيب والطعون والتزييف والتأثيم والشيطنة. لعل
واحدة من فضائل هذا الفيلم تقديمه شخصياته بمجموعها
كبشر أسوياء طبيعيين، يعيشون عوالم قهرية، لكنهم لا
يخفون أحلامهم، ولا يخافون من سطوات تُنسيهم إن الحياة
قابلة للإختراق والتغيير في يوم ما. |