"قُوَّتك تكمن في قولك لا"، هذه جملة
تختزل الحكايات الأربع في شريط الإيراني محمد رسول اُف
"لا وجود للشيطان"، الحائز على جائزة "الدبّ الذهب" في
الدورة الـ70 (20 فبراير ـ 1 مارس 2020) لمهرجان برلين
السينمائي، حيث إن جميع أبطالها محكومون بعسف قانون
وسطوات وطغيان وقهر وإقصاءات وتعصب، سنّها ويمارسها
وينتصر اليها نظام ثيوقراطي منحرف. يرى إن الرقابة
وصنوفها وتطبيقاتها هي أساس ومرجعية وحصانة لبقاء
إستبداده، وتحييد مناؤييه، وإختراق عصيانهم، وتدمير
مناوراتهم. حكايات رسول اُف بسيطة، ذات منطق شديد
الإعتيادية. جميعها تنطلق من حقيقة يومية واحدة
وسؤالها الآني: كيف يحيا رجل روتينه، ويعايش عائلته
ومحيطه، فيما يعمل موظفاً مكلفاً بإعدام أخرين
أبرياء؟. كيف يرتَّب شخص عادي قراراً صعباً يحسم
مستقبله وحبيبته وهروبهما الى خارج البلاد، قبل إتمامه
تكليفاً رسمياً بتصفية بريء؟. ما ردّ فعل إنسان يكتشف
إن موت رجل مجهول، دفع بأهل حبيبته الى إلغاء حفل عيد
ميلادها، إنما هو ذلك المعتقل الذي سحب إنشوطة موته،
من أجل الحصول على إجازة ثلاثة أيام، كي يصل في وقت
مناسب لإعلان قرانه منها؟. كيف يمكن لتوازن عائلي على
قدر كبير من الإحترام والرقيّ الشخصيّ، إن يعالج سرّاً
مؤلماً وعاسفاً بحق صبية، عائدة من غربتها الأوروبية
لقضاء إجازة سريعة، مع زوجين يعيشان في معتزل بَرِيّ؟.
الشيطان في هذه الحكايات ليس إبليساَ
دينياً بل هو تورية لشرّورنا كبشر. عليه، يصبح عنوان
الفيلم تشكيكاً ضميرياً معكوساً في إن ما نرتكبه لن
يتم بإسمه، وإنما بسبب تراكمات وتعقيدات تخلقها سطوات
ظالمة، تجعل من القاتل إنساناً عادياً، يؤدي واجبه،
ويعود الى حضنه المجتمعي بالسهولة ذاتها التي تفرضها
(السطوات) على العامة وضحاياهم في وجوب قبوله كفرد
أكثر سمواً منهم، كونه أدى تعهّداته، وآمن بمشروعية
مسؤولياته. هذه الفكرة الجوهرية هي التي ختمت النصّ
الجارح لرسول اُف "مخطوطات لا تحترق" (2013)، حين
نشاهد قاتليّ الأستاذ الجامعي المعارض بعد تصفيته،
وهما يختفيان في شوارع مكتظّة وبين مواطنين عاديين.
فأعوان السلطات الغاشمة، تصطادهم منهم، وتعيدهم الى
كنفهم. وهو الجرح الأخلاقي ذاته الذي يضيَّق خناقه حول
حياة المحامية نورا في "وداعاً" (2011)، ويمنع سفرها
من البلاد، بعد أن إلغت السلطات ترخيص عملها. في
المشهد الختامي السوداوي، نرى الشابة مشلولة مع محاصرة
أزلام السلطة لغرفة إتخذتها مكاناً للإختفاء، قبيل
محاولتها مغادرة البلاد. إن الحظر وسياساته "وسيلة
قتل" ناجعة لا تتطلب سفك دّمها. يوسع "لا وجود
للشيطان" (150 د) دائرة الآثام هذه، عبر تساؤلات
إعتبارية مضمرة حول الجُنْحَة والإدانة والظنًّة
والزَعْم. فوقها جميعها، مقاربة الفكرة الباهرة
للمقاومة الشخصية ومعانيها وبطولاتها. يسأل رسول اُف:
إذا أعلنت مقاومتك لسلطة، ما هي المسؤولية التي يتوجب
عليك تكفَّلها؟. هل أنت أَهْل كي تتحمَّل مسؤولية
مقاومتك الشخصية، وقولك علناً وبصوت عال لا؟. ما الثمن
الذي ينبغي عليك دفعه مقابل ذلك؟. هذه المناورة
السينمائية متوفرة بألق إيديولوجي مخفف في حوار قصير
يدور بين أم الخطيبة، في المقطع الثالث، والأفضل في
السلسلة، والمعنون بـ"عيد ميلاد"، وبطله جواد (محمد
ولي زادكَان)، عندما تستمع السيدة الى حجته إن خدمته
العسكرية ستمتد الى عامين قادمين، ولا يعرف ما
سيتبعها. تسأله إن كان بإمكانه الوقوف ضد مثل هذا
القرار. يجيب إن السلطة تعرف ما عليها فعله. لن تقنعها
الإجابة، لإن الفتى الفلاحي الوسيم غير مسيَّس، ولا
يكشف إن كان جباناً أو متخاذلاً. تصرَّ المرأة على
قناعتها بإن: "قوَّتك تكمن في قولك لا"، يرَّد الشاب
المتلهف الى زيجته وفرحتها، كاشفاً عن شيطانه الخفي:
"إذا قلنا لا. فسوف يدمرون حيواتنا جميعاً".
ما يحدث بعد هذا، يفضح ورطته. أن سفرته
الطويلة، وتخلّيه عن لباسه العسكري بين الأشجار،
مجيَّران الى إمر مصيريّ هو استغلال حفلة عيد ميلاد
حبيبته نانا (مهتاب ثروتي)، وتقديم خاتم خطوبتهما.
بدلاً من ذلك، يجد إن العائلة في حداد وتأبين شخص
أُعدم قبل أيام. لن يرى أحد علامات الرعب التي تزحف
على عيني الشاب، وهو واقف أمام صورة معلم نانا وصديق
العائلة والناشط السياسي الذي سحب جواد، قبل أيام،
خشبة الفتحة الخاصة بمنصّة الإعدام ليتدلى أمامه. لا
يقارب رسول اُف ومدير تصويره الدائم أشكان أشكاني،
تفاصيل هذا بل سنسمعه لاحقا عبر اعترافات جواد
وملاماته لنفسه، وسعيه لاحقا الى إغراق نفسه كعقوبة
ناقصة. إن وجع الجريمة ينتقل بحسم الى كيان الشابة،
ويصبح عليها الاختيار. في واحدة من أجمل لقطات الشريط،
نشاهد يد نانا الرقيقة، وهي مغروسة في الطين، قابضة
على حجر كبير. تطَبِق أصابعها عليها بقوّة تتواتر
رويداً مع كل كلمة تتسرَّب من فم القاتل المصدوم: "لم
أكن أعرفه من قبل. قتلته من دون أن أعرفه". تصبح رمزية
هذه اللقطة ضاغطة على اعتبار إن انتقامها وواجبه هما
أمران متداخلان. الأول يعلن عن تحمّلها مسؤولية قصاص
مفاجئ، والثاني الى أيّ مدى ستذهب من أجل تسديد ثمن
قرارها، فيما لو ارتكبته.
رسول اُف مدان رسمياً بتهمتي "تهديد
الأمن القومي" و"نشر الدعاية ضد البلاد". ينتظر القرار
النهائي بسجنه، لكنه غير ممنوع من العمل. مشكلته مع
النظام الإيراني إشكاليّة حسب تصريحاته الى صحيفة
"فارايتي" السينمائية الأميركية. "المشكلة، أنهم
(السلطات) منحرفون للغاية. ليس الأمر أنهم يحظرونك.
أنهم يجعلون حياتك أكثر صعوبة في كلّ مرة من خلال عدم
منح تصاريح، وعدم السماح لك بالعمل. إنه نظام معقَّد
للغاية. لا يقولون ذلك رسمياً". بسبب هذه المناورات،
عرقلة تصوير شريط واحد كامل، كما حدث مع مواطنته رخشان
بني اعتماد وعملها المميز "قصص" (2014)، اضطر صاحب
"رجل نزيه" (2017) الى اختيار تقطيع فيلمه الى أربع
حكايات، ومداهنة السلطات عبرها. الأمر الذي يفسر
الترتيب المميز والحصيف لها ولأجوائها التي تبدأ
بأماكن مغلقة وسوداوية، وتنتهي الى فضاءات مدهشة
بسحرها وبهائها.
في المقطع الأول الذي استعار الفيلم
عنوانه، تبقى الشخصية الرئيسة حشمت (إداء لافت من
إحسان مير حسيني) معتقلة داخل سيارتها، قبل إن تحاصرها
جدران شقة أنيقة، تعكس حياة مرفَّهة لطبقة وسطى، ينتمي
اليها مع زوجته المدرسة وابنتهما الصغيرة. نتابعه وهو
يقوم بأفعال يومية. يتبضَّع، يعود والدته المقعدة،
يصبغ شعر زوجته قبيل حضورها حفلة زفاف، يطبخ، يجلي
صحوناً، وأخيراً ينقذ قطة قادها حظها العاثر الى زاوية
محصورة. كلّ نشاطه إنسانيّ بحت. الجميع يعامله كأب
محترم وكتوم وغير شكّاء، وجار لا يتوانى عن تقديم
المساعدة. لكن ما يتستَّر خلف هذا المواطنة السامية،
عظيم الشأن وشديد الخطورة. حشمت، في الواقع، هو رجل
إعدام، ينتمي الى فريق تصفيات تابع الى سجن طهران
الكبير. شيطان لا وجود له بين أُناس عاديين لا يرون
جرائمه البعيدة عن عيونهم وشكوكهم. يكشف رسول اُف عن
السرّ الفاجع عبر لقطة ختاميّة مزدوجة الفعل سريعة
وصادمة، تصوّر الرجل البدين تحت ماء دشّ بيته، مُطهراً
جسده، إستعداداً لتوجهه الى إداء واجب لن نراه، بل
ترشدنا اليه لقطة لاحقة صاعقة ومفزعة، لجثث جماعية
تهبط من أَناشيط إعدامها. تهتزَّ أبدانها مع زهق
أرواحها. تتبول لا إرادياً، لرعب موت واجهته جوراً
وغدراً.
يتحول هذا الحيف، في المقطع التالي
والمعنون "قالت: يمكنك فعلها" الى إثم ذاتي، يحاصر
المجند الشاب بويا (إداء قوي من كاتب السيناريو
والمخرج كاوه أهنكَر) قبل ليلة من تكليفه بسحب كرسي
صغير من تحت أقدام رجل لإتمام شنقه. يقفز من فراشه
مرعوباً من وخز ضميره. أنه ينتظر إجازة تمكنه من طلب
جواز سفر، وتحقيق حلمه في مغادرة إيران للعيش في
الخارج مع صديقته. تبدأ معضلة الحسم داخل مهجع السجن
وبين زملائه، يختمها بقول مفعم برثاء شيطاني: "شكراً
لله. إن لا أحد من المعدومين كان بريئاً". هذا لن يكفي
لإقناعه بالمزيد من القتل. يتخذ قرار الفرار، بتحفيز
من زميل متعاطف، عبر خطف سلاح وتهديد حراس. تنتهي
مغامرة بويا داخل سيارة صديقته، وهما يغنيان معا
بهيستيرية شبابية كلمات وموسيقى أغنية إيطالية شعبية
شهيرة عن الحب. تورية لجيل جديد إيراني يتوق الى
الالتحام بالعالم وثقافاته وحرياته، حسب تصريح المخرج.
هذا الجيل، هو بطل القسم الأخير
"قبلني"، حيث يواجه خطايا الكبار، وتردَّدهم في كشف
خفايا تواريخ قديمة، وأسرار عائلية لئيمة. يتمثل هذا
الجيل الشجاع بالصبية داريا (باران رسول اُف، وهي
ابنته) العائدة من المانيا، لقضاء إجازة سريعة مع
زوجين أربعينيين، يعيشان في ريف بعيد. يربيان النحل،
ويتماهيان مع طبيعة فردوسية، يعكرها وجود بنات أوى. كل
شيء حول داريا مثير لدهشتها، مع عدم تفهمها قرار
الزوجين بهرام وزمان في اختيار مثل هذا المكان القصيّ.
عقلانية داريا تواجه، من دون أن تعي الشابة، شكوك
المضيفين بانها ستتفهم حقيقة وجودها في هذا العالم.
فمَنْ تسميه عمها هو في الواقع والدها البيولوجي. تم
إخفاء السر عنها، نظراً لفترات اعتقالات طويلة، أصابته
برعب حول مستقبلها من جهة، ومرضه القاتل الذي ينهش
جسده وعمره من جهة أخرى. ان كلمة "قبلة" في هذا المقطع
الملّتبس، رغم حسيته الشديدة، إنما هي "قبلة حياة"
ينشدها الطبيب بهرام (محمد صادقي ميري) من ابنة تملك
شجاعتها وحريتها الفردية في رفض دعوة انقضاضه على
كينونتها: "أبي هو مَن عشت في كنفه ورباني، لا من
ولدني فقط". تصبح "لا" داريا خاتمة لحكاية شيطان يقف
خلف ظهورنا، غارساً فيها مخالب خوف وتعصَّب وموات.
"لا وجود للشيطان" هو فيلم وجوه في
مقام أول. على مشاهده الفطن انتزاع التسيّس الفّج
للنصّ من أولوياته، والتمعَّن بخلاصات الثنائي رسول
اُف/ أشكاني في رسم وجوه شخصياتهم وتقاطيعها وتنوعاتها
الدرامية وثراءات تعابيرها. يشعّ مثالها البليغ في
اللقطة الافتتاحية لحشمت، بوجهه البدين وصلعته الصغيرة
ولحيته الكثّة وعينيه الصغيرتين التي تحوُّله جميعها،
بتناسقاتها الدائرية، الى وجه دمية صغيرة، أو وجه
قراقوزي تلفزيوني (يرفض لجاجة صغيرته وطلبها مشاهدة
برنامج كارتوني!)، فيما تسبغ اللحى الخفيفة والعيون
الواسعة والفكان الحادان لشخصيتي بويا وجواد، ملامح
رجولة ستُمتحن لاحقا، وتتحول الى واجهتيّ قرارين فردين
متناقضين. الأول، أن ينتفض كي يحافظ على ضمير نظيف،
فيما يقبل الثاني انكساره كي يضمن أسرة جديدة. أما
الشخصيات النسائية، فتميزت غالباً بالحُسن، كطلّات
مدينيّة ذات نَضَارة وعيون نجل وصرامة مشوبة بحزن
شفيف. فالأم رضية (شقايق شوريان)، في القسم الأول،
تملك طَّلْعَة سيدة عمليّة، مهمومة بصلافات الأخرين.
لذا فإننا نقابل وجهاً حاداً، قطعياً، لا يهادن. فيما
يصبح وجه الشابة نانا في المقطع الثالث، علامة باهرة
على توافق جمال طبيعة غناء مع خِلْقَة شابة حسناء،
تعمل من دون كلّل بين خضرة وزرع، وتعيش وسط حقول طافحة
بجمال زهورها واحتشاد نباتاتها. إن نانا هي تماثل
بشريّ مع كون سكونيّ ينتظر هزّة كبرى، تدفعها الى رفض
موت حبها ومستقبلها. أما السيدة زمان (زالا شاهي) في
المقطع الأخير، فإن ملامح حزن وجهها هي مؤشرات على
عثرات حياتها التي ستجد أجوبتها في سحنة الشابة داريا
الشديدة الأوروبية، بشفاهها الغليظة وعينيها
الواسعتين. إن اللقطات المقرَّبة لوجهيهما، في مشهد
قرار الفتاة مغادرة المنزل الريفي، تثبَّت تشابهاً
مثالياً بين امرأتين تنتظران غيث أقدارهن، ضد شياطين
مُتَربّصة ورجيمة. |