باكورة الأميركية إلآيزا هِتمَن "أبداً نادراً أحياناً
دائماً" ليست عن الإجهاض بالذات. مَنْ رأها حسب زاويته
الضيقة، إنما قلل من قوّة حجتها، وإستهان بخطاب
تطهيريتها. هذا نصّ من دون إفراط أو تفريط، مُقتصِد
وحساس وبصريّ، يدور حول طوبوغرافيا مكانيّة عدائيّة،
تحاصر صبية في السابعة عشرة من العمر، وتجعل محنتها
الشخصية سُبّة إجتماعيّة مغلَّفة بسخط عميق وصمت غليظ.
كُلّ ما حولها لا يُكمل صورة ألمها المكتوم. وكُلّ شخص
حولها لا يُتمم بيان إثمها الذي يعصف بحنوّها
وسذاجتها.
إشتغال هِتمَن مفعم بفيوض من تفاصيل مشهديّة ولونيّة
ورمزيّة وحسيّة، تحوّل تفاصيل عالم متبدَّل ومتعجَّل
ومتجاهل الى إدانات جماعيّة لأنانيات بشر وقسواتهم. في
المشهد الإفتتاحي، نقابل اليافعة أوتوم (سيدني
فلانغَن) وهي تُجاهد لإكمال وصلة غنائية خلال مسابقة
مدرسية، تجري في حيّز رسمي مرسوم كواجهة حضارية، بيد
إن ما يتوفر فيه لن يكون سوى تصفيق مجاملة، هو مساحة
لؤم تجاه موهبتها، قبل أن تتفجر الضَعَة الإجتماعية في
وجهها لاحقا، عبر حركات جنسيّة بذيئة يرسمها زميل لها
بلسانه، وهم مجتمعون في مطعم للوجبات السريعة. ما يقوم
به الشاب هو تعبير ذكوري للحَطّ من كرامتها ومراهقتها.
تنتقم أوتوم بردّ إهانته بأخرى أكثر إستعراضية، إذ
ترمي كأس شرابه في وجهه وسط الحاضرين. شجاعتها لن تكفي
كي يدَفَع ضرَّر عصيب وسهامه أصابا كرامتها في عمق.
إنها في أقصى عزلتها، وسط مكان عام، ضيَّق ونَكّدي
وتباغضي.
مشكلة أوتوم إنها تعيش إنقلاباً فسيولوجياً، يحتاج الى
قرار سريع وحاسم. في طوبوغرافيا جسدها، داخل رحمها،
يتشكَّل جنين من نُّطفة محرَّمة. قانون ولاية
بنسلفانيا (التي سبق أن شهدت ربوعها ومصانع الصلب فيها
أحداث فيلم "صائد الغزلان" (1978) لمايكل تشمينو) حيث
تقطن، لا يسمح بإسقاط الجنين إلا في حالتين، قرار أحد
الوالدين أو وَصيّ قانونيّ، حسب قرار ما يُعرف بـ"رو
ضد وايد" (1973)، الذي حفظ للمرأة حقّ الإجهاض في
الولايات المتحدة. تقف البطلة اليافعة، على جبهتين،
عند حَدّ جارح وتعجيزي. وحدها، إبنة العم سكايلار
(تاليا رايدر) تكون في عونها ورفقتها وشَدَّ عزمها،
تقول للمكلومة: "إلم تسمعني عمَنْ ليست مستعدة بعد أن
تكون أماً؟. أين ستذهبين؟"، تُجيب أوتوم بغصَّة: "لا
مكان في بنسلفانيا". تردف الأولى بما يُشبه القرار
النهائي: "أظن عليك التوجه الى مكان ثان". هذا المكان،
هو عصب شريط هَتمِن. الإنتقال من مُقَام الى أخر. من
عالم عائلي مأمون ومتجذَّر الى أخر شوارعي عنيف ولا
أبالي. من هنا، تجعل صاحبة "يبدو وكأنه حب" (2013)
المحيط وتضاريسه وطبائعه وألوانه وظلاله وكائناته
وموسيقاه وضجيجه أو سكينته، مقابلاً طوبوغرافيّاً
طبيعيّاً الى تحولات أوتوم الذاتيّة، وإنتقالاتها من
"مربع" حُرْقَتها على مصابها، مروراً بـ"مقرات" طبية
(عيادات) تتكفَّل إنجادها من عُسْرَة هي أقرب الى
جريمة، قبل أن تنتهي وسط جغرافية مدينة جبّارة غير
مألوفة لإبنة طبقة عاملة، تضيَّق عليها بغربتها
وسرعتها وموت ذمم أهلها.
في المقاطع الأولى من الشريط الذي شعّ بروح المخرج
الأميركي جون كاسافيتس وسينماه النسويّة الأثيرة،
تلتزم هِتمَن أسلوباً بطيئاً، هو صدى الى حياة هانئة
لبطلتها. صبية تعمل بعد المدرسة في متجر كبير، تتعرض
فيه مع قريبتها الى تحرَّش جنسي من موظف شاذّ يقبَّل
أكُفُّهن بشهوة، عبر كُوّة، حين يسلمن أموال وردياتهن.
نقابلها وهي تكتشف عن حملها. بما إن المأزق فرديّ،
يتعلق بها وحدها، فلن تعمد هِتمَن بحصافة الى توريطنا
بمشاهد تقليدية لوالدين أو أقارب أو أصدقاء أو زملاء،
يحشدون الفيلم بفقرات ميلودراميّة سطحيّة من ملامات
أوتعاطفات أو مناحات. بدلاَ من ذلك، تضع بطلتها وسط
خشبة مسرح حياتي متقشّفة. خلفياتها، مشاهد باهرة من
توقيع الفرنسية إيلين لوفار (لها "سعيد كما لازارو"
(2018) للإ يطالية أليتشه رورفاكر، و"الحياة غير
المرئيّة لأوريديسي غوسمَو" (2019) للبرازيلي/
الجزائري كريم عينوز) لطبيعة ريفيّة خلاَّبة, ذلك أن
أوتوم هي حوريَّة مهزومة، وقعت في شرَّ عثرات مراهقة،
عقوبتها أعقد من قانون يمنع "طمس" عار نُّطفة محرَّمة.
إنها متهمة، دينياً وإجتماعيّاً وإعتباريّاً، بـ"قتل"
مسبّق، لإنها شرعت في خطوات أولى لإنهاء حمل غير مرغوب
به، ولا طاقة لها كصبية في مواجهة أوزاره.
تختار هِتمَن (نيويورك، 1979)، وجهة نظرنا السينمائية
في إمتحان نيَّات الصبية وعزومها. لذلك، تدفع بكاميرة
لوفار الى الإقتراب بحدَّة من وجه أوتوم في لقطات
"كلوز أب" حميميَّة وتَفَرَّسية، تتضمَّن نظرات
متبادلة أو تشابك أصابع أو عناق بريء. نرى غُمّتها
تغشي دموعها. نلمح، في عينيها، فجيعة خسارتها لكائن
ينمو في رحمها. نراقب أساها وحرائقه، وهما يشعلان
ضميرها وسذاجتها. نشوف رّيبتها بالأخرين، وجزعها من
غلاظاتهم. نلاحظ فشلها في التأقلم مع حالة إستثنائيّة
وتأثيميّة، مثلما نكوصها في مناقشة ردود فعل ممَنْ
يحيطون بها. أوتوم تخشى كثرتهم، وتختار خَرَساً
طوعيّاً، يصاحبها حتى نهاية الـ 110 دقائق طول الشريط،
الذي فاز عن جدارة بالدبّ الفضي ـ الجائزة الكبرى
للجنة تحكيم الدورة الـ70 (2 فبراير ـ 1 مارس 2020)
لمهرجان برلين السينمائي الدولي. ما الكلمات التي
تبرّر خطيئتها؟ ما الكلمات التي تُنصفها؟. ما الجمل
الكافية لتبيان ضَّيمها؟. تحيط أوتوم كيانها بحصانة
غير مرئيّة، هي نَأَي قهريّ لهوانها، يُذّكر بمثيله
الذي تقرَّره الشابة أوتيليا بطلة شريط الروماني
كريستيان مونجيو "4 أشهر، 3 أسابيع ويومان" (سعفة ذهب
"كانّ" 2007)، وتعزل زميلتها الحامل غابيتا في بقعة
ظالمة ومهينة، هي حمام غرفة فندق موبوء بالإسترابات
والذلّ والتُّهمة، قبل أن تلوب بين أماكن عدّة لتأمين
مبلغ إجهاضها. حين تفشل في مساعيها، تجد نفسها أمام
إستحقاق صداقتها، مع طلب طبيب فاسد مضاجعتها
كـ"إستكمال" للمبلغ الناقص، وإنجاز عملية إسقاط
الجنين. تنعكس، هذه الفقرة الجارحة، بشراسة على صبيتي
هِتمَن عند وصولهن الى نيويوك، إثر سفرة طويلة ومضنية،
ولقائهن مع شاب غريب، يجد فرصة صداقة عابرة مع
سكايلار، التي تقرر "تمثيل" دور عاشقة ساذجة، لطلب
مبلغ مالي منه سدَّاً لعجز فاتورة العملية الحاسمة،
وعودتهن الى الديار. ان العلاقة بينهن تتفجَّر بقوّة
دراميّة متباسطة، لأن كلتهما بحاجة الى الأخرى، والى
مزاح مشترك حول مستحقات يوم سريع، على شاكلة تندَّرهن
حول شراء ساندويتش في مقهى صغير والتشارك بإكله،
أوإستخدام مزيل للعرق في مرحاض عام، وغيرها من لمحات
وجوديّة.
تتمَّ أغلب مشاهد هذا المقطع وسط فضاء ديناميكيّ لمحطة
قطارات كبرى والشوارع المحيطة بها، بصخبها وإحتشادها
وفوّرة ألوانها وأضوائها. بشر عابرون، وصبيتان وافدتان
وغريبتان، وحقيبة سفر مشتركة. أما جحيمهم جميعا، فهو
الغَفلة عن جنين ينتظر مصيراً دمويّاً، يُنهي حياته
وسيرورته اللتين إختصرتهما ممرضة عطوف من نظام الرعاية
الصحية، وهي تجسَّ نموه، بقول عذب توجَّهه لأوتوم:
"هذا أكثر الأصوات سحراً. لم يسبق لك أن أصغيت له من
قبل"، لتُسمعها دَقَّات قلبه. لن تستعرض صاحبة "فئران
الشاطىء" (2017) تفاصيل ما يجري على سرير الإجهاض، فهي
غير معنية به كـ"كفالة سينمائية" لخطاب تجريحيّ، على
شريط نسويّ بإمتياز أن يتفاخر بها، وإنما وَكَّدت على
تصوير متمهل ورزين، يستعرض تفاصيل تدابير معقَّدة،
يتوجب على "الفتاة الأم" الخضوع لها، رغم إشارات
مَذَلَّة كثيرة، تطاول خصوصياتها، وتنطوي على مسّ خفيّ
بحقوقها المدنيّة، بيد أن لا فكاك من التجاوب معها.
أوتوم هي أُضحية جماعية لمجتمعات تتفاخر بإنفتاحها،
إلا أنها لن تتسامح بخصوص "تصحيح" زلاَّت شرف، أو"قتل"
أجنة مدنَّسة. تمهَّد السيدة ذات الصوت الرهيف لها
الأمر بقول أشبه بدعوة لـ"تبديل مسار جريمة": "أريد
التأكد إنك في آمان"، وهي جملة تستكمل ما تترجى به
امرأة أخرى الصبية فى "البحث عن خلاص رَّبانيّ بالعودة
الى حقّ الحياة"، حين تعرض لها شريط فيديو دعائياً
يساوي الإجهاض بالقتل. كلتا السيدتين تؤديان واجباً
نبيلاً لا ريب فيه، لكن ما ستواجهه البطلة لاحقا، في
حالة إحتفاظها بالوليد، يقع في حكم إنتحار قصدي
لمراهقتها ومستقبلها. أن الخطيئة لا يمكن تصحيحها بجور
أعظم.
تجري "المَنَاعَة الأخلاقية" لهذا التصحيح في
طوبوغرافيا مغلقة وحياديّة وبلا شفقة. عيادة في
مانهاتن بجدران منمَّقة وكلاسيكيّة، ترمي النزيلة داخل
لُجّة غامضة لكآبة ضمير محموم وملتاع ومشوَّش. هذه
وسيلة نَّفسية لدفعها الى إعادة تدوير قرارها. في حالة
أوتوم، نواجهه عبر لقاء مع مسؤولة عيادة، تُعلِمها
بكلمات بطيئة وتَّلقينية: "سأطرح عليك بعض الأسئلة،
منها شخصيّ جداً. يمكنك الإجابة عليها بواحدة من هذه
الإختيارات: أبداً نادراً أحياناً دائماً". تستعلم
السيدة عن كُلّ ما يتعلق بعلاقاتها الجنسيّة مع شريكها
أو أخرين. هل يستخدم (ون) الواقي الذكري عند الجماع؟.
هل أُرغمت على ممارسة الجنس أو تعرَّضت الى عنف جنسي؟،
لتصبح الكلمات الرباعية ومخاضات إجاباتها
وآلامها،عنواناً ضميريّاً وتحريضيّاً بشأن حماقات
تستسهل متعاً عابرة، قبل أن تواجه إستحقاقات قاسية،
تُجرَّم جنايتها على حيوات مُسْتَضْعَفة، تملك حقّها
المطلق في أن تعيش. شريط هِتمَن لن يدعو الى التوبات،
وإنما يستحث ما نعمد الى تغييبه في إن "الجسد الفاسد
يثقَّل النفس" (سفر الحكمة 9: 15). |