تسكن القُدوة الإيديولوجية في جديد الغواتيمالي خيرو
بوستمانته "السيدة الباكية" (97 د)، المعروض ضمن
المسابقة الرسمية للدورة الثالثة (18 ـ 27 سبتمبر
2019) لمهرجان الجونة السينمائي، في دَّم لا يرتضي
النسيان أو الإستهانة. ضحايا الطُغم العسكرية في
العالم لهم أساليبهم في القصاص. تارة يخطون نحو
إنتفاضات جماعية. في أخرى، ينظمون كتائب تستهل العمل
النضالي، بيد إنهم ـ في كلتيهما ـ ينتظرون عدالة قد
تُغيّب في نهاية المطاف، بسبب تواطؤات السياسيين
وخسَّاتهم. ما هو موكد، إن أرواح المغدورين وأطيافهم
لن ترحل عن عالمنا المليء بالا إنصاف والقهر وسهولة
الغدر، قبل إسترداد خياناتها ومقاضاة مجرميها الذين
أهدروا أقدار بشر أبرياء بشكل مجاني. هذا العزم يتألق
بمشهديات مدروسة وخاطفة بهدوئها وتوازن إتهاماتها: هل
تكفي رصاصة إعدام تصوَّب الى رأس ديكتاتور، أو حبل
مشنقة يلتف حول رقبته كي يأخذ ضحايا الإبادات الجماعية
ثأرهم حقا؟. يذهب نصّ "السيدة الباكية"، الذي حاز عن
جدارة على جائزة "أيام فينيسيا" في الدورة الـ76
لمهرجان المدينة الإيطالية العريقة (أغسطس/ سبتمبر
2019)، درامياً نحو ضفاف أخرى، مفعمة بالأسى والتشفّي
والسخط لتاريخ جواتيمالا الدمويّ. يرى إن الضيم
السياسي لن يُمحى، لأن عويل الضحايا لن ينتهي، مهما
دارت أزمنة القهر، أو تغيَّرت وجوه قُسَاتها. هذا فيلم
سياسي بإمتياز، من دون جعجعة إيديولوجية أو تحاملات
غوغائية. يمزج بحصافة وقائع وإعترافات مريرة، مع
إستعارات سحريّة لتواريخ وأشخاص، تتجلّى كأرواح
إنتقامية تطارد بعد 30 عاماً، الجنرال المتقاعد إنريكه
مونتفيردي المصاب بالزهايمر (تورية عن الرئيس إيفريين
ريوس مونت الذي أُدين في العام 2013 بتنظيم مذابح ضد
السكان الأصليين جرت في ثمانينات القرن الماضي، قبل أن
يُطلق سراحه في جلسة إستئناف مشكوك بصدقيتها
القانونية) وهي تبكي بمرارة، من دون أن يراها أو
يقابلها. يبدأ الشريط بمشهد صلوات للأسرة كي يفلت
المجرم من عقابه، وينتهي بلقطة سوداء نسمع فيها سيدة
تصرخ بلوعة: "أبنائي". بين الأثنين، تطوَّق الأصوات
شخصيات الفيلم وتقمَّصاتها بنحيب متواصل وهتافات
وأغنيات وحوارات مشدودة وشكوك حادة، تحيل المحيط
المغلق، الذي لن يغادره الفيلم إلا قليلاً، الى معتقل
لإفراد عليهم دفع ثمن رفاهية، نالوها فوق جثث مغدورة
لمواطنين سعوا الى حقوقهم وكراماتهم. الأم الشابة ألما
(الممثلة ماريا مرثيدس كوروي، التي قدمها المخرج
بوستمانته في عمله الأول "بركان إيشكانول")، هي واحدة
من سبايا المجازر، تستغل توظيفها كخادمة في القصر
المحاصر من قبل المطالبين بمعاقبة الجنرال القاتل، كي
تُحقِق عدالتها الشخصية التي لن تقبل الغفران، فدّم
طفليها اللذان قتلا غرقاً أمام عينيها لن يذهب هدراً،
وتهديدات القتلة لها: "إن بكيتِ، سنقتلكِ" لن يموت
صداها أبداً.
خيرو بوستمانته، وهو من أصول قبائل المايا، ولد عام
1977. نالت باكورته الروائية "إيشكانول" جائزة الدب
الفضي في مهرجان برلين السينمائي (2015)، كما ترشحت
الى جوائز الأوسكار لإفضل فيلم أجنبي في العام ذاته.
بعد أربع سنوات، عاد بوستمانته الى برلين، للمشاركة
بشريطه الثاني "هزّات"، الذي عُرض ضمن خانة "بانوراما"
في الدورة الـ69، يصوغ مقاطع فيلمه كشهادات متداخلة،
منفّذة بثراء بصريّ ودراما مجيدة، محتشدة بإفكار
سينمائية صادمة حول إستبداد متوالد ومحاصر بضجيج
إستفزازيّ (وموسيقى حادة من توقيع باسكوال رييس)،
ومشاهد كثيرة لمياه، تُباركها أغنية ختام تُخاطب
"السيدة الباكية"(لا جورونا) بكلمات شجية، تدعوها الى:
"إغسلي حسرتك بماء النهر المبارك. حوَّلي حزنك الى
سكينة، وفجرك الى ندى".