التواصل بين البشر وإشتراطاته وتناقضاته. الذاكرة
وبلاياها وخطاياها. العواطف وسلوكها وتراكم لعناتها.
أقدار وحشية تقود ضحاياها الى جحيم أرضي غارق برزاياه.
حروب بشعة تطال عزوماً شابة، وتحوَّلها الى رهان وجودي
مُهدَّد الى ما لانهاية. نساء في مواجهة إنقلابات
العائلة والحقوق والمصير الأسود. حيرة بين عالمين، تضع
إرادات إنسانية أمام القرار الصعب. الأعراق حين
تُستفز، وتستسهل سفك الدم. الذمَّم حين تُمتحن
بالإيمان، كي تجد قياماتها المتأخرة. الحياة عندما
تتعرف على مساراتها الإنسانية لتُفشي أسرارها، وتكشف
عن عوراتها. التسلَّط وكيفية الفكاك من أسره. المذابح
الجماعية بين ضحاياها والقانون والحق وقدرة جناتها على
الإفلات من القصاص بالخيانات والتواطؤ.
هذه هي ثيمات رئيسة ستشعّ على شاشات الدورة الثالثة
(19 ـ 27 سبتمبر 2019) لمهرجان الجونة السينمائي،
والتي تقاربها أفلام مسابقتها الرسمية المميزة هذا
العام بروحية شباب مخرجيها، وحداثية جمالياتها، وشجاعة
طروحاتها الأيديولوجية والوجودية والإجتماعية. شباب
مغامرون، تواصلوا مع حقائق الحياة وإنسانها المحاصر
بالقهر السياسي وشياطينه. الشعوبية ومناورات حكامها
المضللين. التنافرات الدولية وتناقضات مصالح قادتها
الرُعْن. الفاشيات الدينية وأزلام حروبها العبثية.
السطو الإقتصادي وخبراء تدليساته وتزويراته... وفوق كل
هذا إهتزاز الإيمان الجماعي من تحقيق عصر جديد ومتوازن
ومنصف وخلّاق. في "أغنية بلا عنوان"
(97 د) الذي عُرض ضمن جدولة تظاهرة "أسبوعا المخرجين"
في مهرجان كانّ السينمائي
(مايو 2019)، تضع المخرجة البروفية ميلينا ليون في
باكورتها التي أثارت إعجاب النقاد، قوّة الشَّكيمة
مفتاحاً دراميّاً لبطلتها القرويّة جيورجينا التي تخطف
عصابة مجهولة طفلتها حديثة الولادة، من عيادة إنجاب
وهميّة في العاصمة ليما. يقودها بحثها اليائس، إلى مقر
صحيفة محلية واسعة الإنتشار، لتستجير بصحافي شاب يدعى
بيدرو كامبوس، يعاني من الوحدة، كي يعينها على إيجاد
الطفلة المنهوبة. حين يتعاضد التعاطف بالواجب، يصبح
طريق الشخصيتين مشتركاً لإنجاز مهمة بحث مضنية،
على خلفية أزمة سياسية خانقة، وضعت ندوبها على البلاد
ومؤسساتها، ما يجعل عودة الثنائي الى القانون مضيعة
وقت، وخيانة عهد. هذا العهد، هو بطل باكورة المغربية
مريم التوزاني "أدم"
(98 د)، الذي يرغم السيدة عبلة التي تدير مخبزة بدائية
من منزلها،على إزاحة قنوطها بوفاة زوجها، والفقر الذي
يحيط بها وبإبنتها وردة، حين تطرق بابها صبية حامل
بوليدها، وهاربة من قصاص أخلاقي في قريتها النائية،
بعد أن خذلهما والد الجنين. تطلب سامية الأمان والمأوى
والعمل. امرأتان وقدران. واحدة غارقة في عزائها، وأخرى
تركت عائلتها، وجاءت إلى الدار البيضاء كي تُنجب طفلها
سراً، قبل أن تتخلى عنه للتبنيّ. بيد إن الفطرة تفرض
بالضرورة قانونها، وتنتصر الى حياة وليد جديد، كادت
الفتاة أن تضحي بها بجبن ولا مسؤوليّة.
تتألق الحياة ومعانيها الكبيرة وإستحقاقاتها الإيمانية
في شريط السوداني أمجد أبو العلا "ستموت في العشرين"
(103 د)، الحائز على جائزة "أسد المستقبل" لإفضل عمل
أول في الدورة الـ76 لمهرجان فينيسيا السينمائي
(سبتمبر 2019)، عبر حكاية الشاب مُزمل الذي يأتي الى
هذا العالم المضطرب في قرية نائية، "بعد أعوام من
الإنتظار، ملعوناً بنبوءة درويش، تفيد بموته عند بلوغه
سن العشرين. يكبر مُزمل، وسط نظرات الشَّفقة، التي
تجعله أسير الظنّ بأنه ميت بالفعل، إلى حين ظهور
المصور السينمائي سليمان في حياته. يبدأ الشاب بمقايسة
العالم بشكل مغاير، بعد ما شاهده من تسجيلات عبر جهاز
عرض الأفلام السينمائية القديم الخاص بسليمان. لكن
وبعد العديد من الإنكسارات التي طالته ومنها افتقاده
لإبيه، يبلغ مُزمل عيد ميلاده العشرين، ليواجه حيرته
بين إختيار الموت أو ركوبه الحافلة التي تنقله إلى
عالم يتلهف الى معرفته"
(لنا عودة نقدية لاحقة لهذا العمل الذي أشاد به
النقاد).
لئن إلتبست أقدار الحياة على الشاب السوداني، فإن ما
يواجهه الزوج العجوز في شريط البلغاريين بيتر فالشانوف
وكريستينا غروتزيفا "الأب"
(87 د)، الفائز بجائزة "الكرّة الكريستالية" في الدورة
الـ54 لمهرجان كارلوفي فاري السينمائي الأخير
(يوليو 2019)، هو بحث محموم وشبه مريض حول معنى فقدان
الإحبة ورحيلهم الأبدي. يجد فاسيل نفسه وحيداً، إثر
وفاة زوجته إيفانكا بعد شراكة عمر مديدة. بيد إن عالمه
ينقلب فجأة، عندما تُعلِن جارته خلال مراسم الجنازة إن
الفقيدة تحادثها عبر الهاتف!. بسبب إيمانه بالقوى
الخارقة للطبيعة، يطلب فاسيل مساعدة وسيط روحاني
محترف، ليسهل تواصله مع زوجته الراحلة، رغم محاولات
إبنه الدؤوبة إلى إيقافه، وإعادته الى رشده. كوميديا
عائلية بزّخم حميميّ حول سفاهات الناس، وصعوبة تواصلهم
الإجتماعي.
هذا الأخير
(التواصل)، هو ما يقود البطل دانييل ذو السوابق
الإجرامية في الشريط الثالث للبولندي يان كوماسا "عيد
القربان"
(116 د) الى عالم فاجع وإنقلابي، يخترق حياته ووعيه
المتباسط. بعد أعوام من التأهيل الأخلاقي والروحي في
سجن للأحداث، تحت إشراف قس متعاطف، وعزم لا يلين كي
يترسَّم كاهناً. يجد الشاب حلمه مستحيل التحقق، نظراً
لسجله الإسود. إلا إن الأمور تأخذ مجرى مفاجئاً، عندما
يصل إلى قرية صغيرة للعمل في ورشة نجارة. يقرر دانييل
التخلي عن الواجب الروتيني و"عبوديته"، ويرتدي زيّ
كاهن سرقه من كنيسة الإصلاحية قبل مغادرته. يجد دانييل
نفسه قائداً للأبرشية المحلية، مقلداً ما تعلمه
سابقاً. وبسبب حادث تراجيدي، أودى بحياة عدة أشخاص،
وقوض تناغم حياة القرية النائية، يرى الأهالي في وصول
"الكاهن الشاب" فرصة ذهبية الى تحقيق وئام غائب، وغسل
ضغائن، وإعادة الطيبة والسلام الى قلوب مكلومة.
على طرف نقيض، تصوغ باكورة التونسية هند بوجمعة "حلم
نورا"
(90 د) هذه النوايا بإتجاه درامي أكثر شراسة، فيما
يخصّ قرار شابة الإمساك بحياتها ومساراتها، حين تجد
الحب ثانية، متجسداً في كائن أكثر إنسانية، من طليقها
الذي يُمضي سنوات عقوبة سجنه. إلا إن هذه "الفرصة
الذهبية" تتعرض للخطر، مع قرار إطلاق سراحه فجأة،
وسعيه الى الإنتقام، ووأد حلمها بحياة متطامنة. هذا
التطامن ذاته، سيواجه إمتحاناً عصّياً في الشريط
الثالث للروائي والمخرج الأفغاني عتيق رحيمي "سيدة
النيل"
(93 د)، الذي أفتتح الدورة الـ44 لمهرجان تورنتو
السينمائي الدولي، والمقتبس عن رواية "نوتردام النيل"
(2012) للرواندية سكوالستيك موكاسونجا، حيث تتحول
مدرسة كاثوليكية داخلية، تضمّ خليطاً عرقيّاً من
طالبات، غالبيتهن من قبيلة "الهوتو"، مقابل 10 في
المائة فقط من قبيلة "التوتسي"، يشكّلن نخبة نسويّة
لقيادة البلاد، الى ساحة تصفيات دموية على خلفية حرب
عنصرية، تُنهي حلماً في بناء نهضة بلد دمَّرته بغضاء
مستديمة.
في "المرأة الباكية"
(97 د) للغواتيمالي خايرو بوستامانتي، الحائز على
الجائزة الكبرى (أفضل مخرج) في تظاهرة "أيام فينيسيا"
في الدورة الـ76 لمهرجان فينيسيا السينمائي
(سبتمبر 2019)، هناك حرب أخرى يخوضها منكوبو جرائم ضد
الإنسانية، مارسها عسكر فاشيون ضد السكان الأصليين في
البلاد خلال حكمهم الديكتاتوري. هنا حكاية أحدهم، وهو
الكولونيل المتقاعد إنريكي الذي يفلت من عقابه
بتواطؤات سياسية وحكومية، بيد إن أرواح الضحايا
وأهاليهم لا تني تطارده حتى قبره. فيما تقف باكورة
الجزائرية مونية مدور "بابيشا"
(105 د) التي عرضت في تظاهرة "نظرة ما" في الدورة الـ72
(14 ـ 25 مايو 2019) لمهرجان كانّ السينمائي الدولي،
على الطرف الإتهامي ذاته، لكنها توجه سهامها ضد تطرَّف
ديني كاسح، يسعى الى فرض هيمنة جائرة، توقف الحياة
والإبداع والحرية. حكاية نجمة، البالغة من العمر 18
عاماً، وشغفها في تصميم الأزياء والموضة. صبية مبدعة
وعصرية وشجاعة، لن تدع الأحداث المأساوية للحرب
الأهلية في بلادها، أن تنال من فرصها وتمتعها بشبابها،
برفقة صديقتها وسيلة. ومع تصاعد قبضة الجماعات
الإسلامية، تأبى البطلة ذات الطلّة المتحرّرة الإنصياع
الى فروضها التعسفية، وتقرر خوض مواجهة غير متكافئة من
أجل توكيد إستقلالها الشخصي، عبر تنظيم عرض جماعيّ
للزيّ التقليدي للمرأة الجزائرية المعروف بـ"الحايك".
أما اللبناني وليد مؤنس فيرصد في فيلم "1982"
(100 د) عواقب هجوم جويّ شنته إسرائيل في العام 1982
على عزم صبي
(11 عاماً)، إبلاغ زميلته في الصف بحبّه، بيد إن وقع
القنابل وإغلاق المدارس، ينذر بفواجع أكبر لحرب
متصاعدة وضروس.
في شّريطي "الفتاة ذات السِوار"
(95 د) للفرنسي ستيفان ديموستيه، و"لارا"
(96 د) للألماني يان ـ أوليه جريستر، هناك حالتان من
سوء الظنّ العائلي وإذلالاته، وخبايا نفوس تعوَّض
هزيمتها بالهيمنة. في الأول، تصبح محاكمة الفتاة ليز
(16 عاماً) المتهمة بقتل أعزّ صديقاتها أرضاً جماعيّة
لإستجواب الحقائق الذاتية وخيانات أبطالها، ومقاربة
الأجيال وإختلافاتهم وصراعاتهم المفتوحة، ولعن
المفاهيم المتنافرة للطهارات النفسية. فيما يستعرض
الثاني، الخطط اللئيمة لسيدة في الستينات من عمرها،
وعزومها في تثبيت تحكّمها بإبنها الموهوب موسيقياً،
ورسم مسارات حياته
(أو تصويبها على الدوام)، وإختيار صحبته(حيث لا مكان
للدخلاء والكسالى)، وتنظيم أجندات حياته
(أي إن التفوق واجب أزلي)، قبل أن يفرقهما قدر أعمى،
لا يخشى تفوُّق السيدة المتحجّرة لارا، ولا يشفق على
خنوع فيكتور.