يرسم التونسي محمد بن عطية في شريطه الروائي الثاني
"ولدي"، المعروض ضمن تظاهرة "أسبوعا المخرجين" في
الدورة ال71(8 -18 أيار 2018) لمهرجان كانّ السينمائي،
مسارات عائلية، تنال من تطامن أفرادها، قرارات رعناء،
تؤدي الى إنهيار قيمها ووحدتها وآصراتها. حكاية أسرة
تونسية تعيش على حد كفافها، تصارع يوميات إقتصادية
صعبة، تجعل من أب وأم ضحيتين مزمنتين، تحاصرها أزمات
متوالية، تجبرهما على مراعاة مصاريف الدار، وإستحقاقات
إبنهما الوحيد الذي يمر، كما يدعي، بأزمة كرب نفسي.
يعمل الأب رياض(إداء لافت من محمد ظريف) في ميناء تونس
العاصمة، فيما تجاهد زوجته نازلي(منى مُرجي) للحفاظ
على عمل إداري متواضع المردود. هذه عائلة تسيّر
يومياتها بقدر هائل من الصبر والعناد، لإن ما يحيط بها
هو نذور أزمة عصيّة. نتابع نشاط رياض بتفاصيل كثيرة
ومتأنية، يعطيها صاحب "هادي"(2016) حيزآ دراميآ
معتبرآ، إعتبره الكثيرون فائضآ، من دون الإلتفات الى
حقيقة ان تراكم هذه الوقائع، إنما هي هندسة درامية
حصيفة لمتن سينمائي شديدة الواقعية، عن خراب آت بخفية،
وضرر هائل.
ان الروتين العائلي هنا، هو إستعارة الى مبدأ مسيس
وفاجع، يقوم على حقيقة ان الفقر يُسّهل تبرير الخطايا.
فما بالنا في ان يخترق التوحشّ كيانات فتيّة، بطرق
خفيّة ولئيمة ونهائية، ويقودها الى جحيم لن تخرج منه
حيّة. لن يسعى بن عطية الى إدانة ظروف هذه العائلة بل
يصّر على ان النظام المستتر( أو المغيّب في شّريطه)،
يساهم الى حد كبير في إشاعة "وجل إقتصادي"، يحوّل
الوالدان الى كائنين متلهفين على تأمين فيوض الأمان
لولدهما. يدفعان به تارة نحو الإندماج مع أصحابه من
دون نجاح، قبل ان، يحرضانه على قبول جلسات علاجية من
دون فارق يُذكر. ان القدر يرسم لسامي "سقطة ذاتية" من
نوع أخر، لا تقوده نحو جغرافية اخرى وحسب، بل تسحبه
نحو شياطين ممسوسة بسفك الدم، تؤدي الى إنهيار مدو
لعالميّ رياض ونازلي. الى ذلك، يتحول صدود الأخرين
عنهما، بمثابة نذير شؤوم لذلك الآتي الحالك الظُلمة.
يصنف بن عطية شخصياته الثلاث على أرضية سينمائية،
تستلف إيقاعها وتشخيصاتها من إشتغالات الأخوين
البلجيكيين لوك وجان بيير دردان( وهما منتجا فيلم "
ولدي")، الحريصان على جعل نصّوصهما ميالة الى حس
طبيعي، يعتمد على مشهديات مطوّلة، وإدارات عفوية،
وحكاية متباسطة الدراما، لا تميل الى شرح، بل تحرض
متفرجها على تخمين ومشاركة وجدانية. عليه، فان
جيلانات رياض بين مواقع متباينة، بحثا عن ولده، كما
هو حال الأم الشابة ساندرا( ماريون كوتيار) بطلة فيلم
دردان "يومان، وليلة واحدة"(2014)، تُعرض أمامنا
كتحولات ذاتية، تنتقل من حال التشوش الى الصدمة، قبل
ان تنتهي بالإنهيار الشامل. وبسبب هذا الإسلوب، تقسّم
فيلم "ولدي" الى حركات أربع، الأولى الخاصة بتقديم
الأسرة، والثانية الخاصة بعوالم الأب رياض الممسوس
بولده، والثالثة الخاصة برحلته الى تركيا، وأخيرا ما
يخص تفكك العائلة، و"هجرة" رياض الى العمق التونسي، كي
ينسى محنته بموت إبنه سامي على جبهات الدولة
الإسلامية وحروبها في سوريا.
فيلم بن عطية ليس عن إرهاب ديني. فقضيته أبعد من
ذلك، تصيب هدفها في المقام الأول، قلب تراتب طبقي،
يجعل من أفراده طرائد سهلة لعصابات "داعش" ومخابراته
وخلاياه. وهو بالتالي يتقاطع في منهجية دراميته مع
شّريط مواطنته سارة عبيدي "بنزين"، الذي امتاز بشحنات
تبريرية أكثر إقناعآ من عمل بن عطية، فيما يخص جهادية
أب في الوصول الى فلذة كبده، وإنقاذه من مصابه. فكلتا
العائلتين تعيشان تغيّيبآ قسريآ للإبن، ولكن بدوافع
مختلفة. تنظر عبيدي الى منازلات سالم وزوجته حليمة مع
نظام متشابك، قاد ولدهما أحمد الى هجرة بحرية نحو
إيطاليا، لتختفي آثاره إثناء عبور المتوسط. وبدلآ عن
ملاحقته، يركز بطل العبيدي همٓه على التقصي، ويبقى
أسيرآ لتقولات غرباء من دون تحديد أكيد لخاتمة شابه.
أما صراعات الثنائي رياض/ نازلي، فستكون على وجهتين
متضادتين: جبهة فاشية دينية خطفت ولدهما، وحوَلته الى
قاتل. وجبهة داخل رسمي لا يخجل من التنصل من
مسؤولياته، ويحولهما عبر سياسة التحقيق الجنائي الى
عدوين، يحمّل أحدهما الأخر وزر موت وريثهما.
بان الخلل الكبير في إشتغال بن عطية، بشكل مفاجيء،
خلال رحلة رياض الى تركيا، حيث يقابل كائنات متواطئة
وفاسدة ولصوصية، قبل ان يصدمنا برعونة غير مبررة، مع
مشهد مطاردة رياض لولده، الذي يسقط علينا من السماء،
مرتديآ القميص الأزرق ذاته الذي أهداه له قبل
إختفائه. يلعن الشاب أباه، ويرفض مرافقته والعودة معه
الى تونس، لأنه "ما نحبش نكون مثلك، ونعيش زيّك"، بيد
ان هذه الخطابية لا تسوغ وجود الشاب على الأرض
الغريبة، مثلما لن تجعل من مشهد الأبن الملتحي لاحقا،
وهو يقدم الحفيد الى جديه، ذَا حجة درامية.
تزداد سقطة بن عطية، مع قراره تفكيك العائلة، ونقل
رياض الى مكان أخر، بعيدا عن نازلي، وأكثر قربآ من
عمال شبان، يشعٓون حيوية، لأنهم، كما يبدون، إختاروا
وجهاتهم الصحيحة، في البقاء كمواطنين صالحين. اما قضية
عوزهم المالي، والذي لا بد ان يقودهم ذات يوم الى
أحضان " داعش"، فيتبخر في هواء فيلم حادت سهامه عن
هدفها للأسف.