زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ77

Black Dog (GOU ZHEN)

جائزة قسم "نظرة ما"

"كلب أسود" للصيني غوان هو... تغريبة المواطن الخانس

بقلم: زياد الخزاعي/ خاص بـ"سينماتك"

 
 

عند حَوَاف بريَّة نائية وشرسة في صحراء غوبي الصينية، كأن الرَّبّ غَفَلَهَا منذ أنْ خلق أكوانه، يقع طريق مترَّب يمتدّ الى اللّا منتهى، يقود حافلة نقل قديمة ورُكّابها نحو حتْف مكتوب. سبب حادث انقلابها، نراه لاحقاً في لقطة عامَّة مُفخّمة بلون كامد، وحركة أفقيَّة لكاميرا تتوجَّه نحو اليمين، مع فاصل صامت ومرَّيب، ينتظر وقوع مفاجأة بصريَّة خاطفة لن تتأخر كثيراً، حين تغزو الشاشة والمنطقة الوحشيَّة تلك عشرات متنوِّعة السُّلالات والألوان والأحجام من كلاب سائبة، تعدو بجنون وكأنها أسراب شيطانيَّة ظهرت من اللّا مكان، تتّجه بإرادة خفيّة وعناد جماعي نحو جحيم أرضي غامض، يقع خارج إطار الصُّورة العريضة.

هذا المُفْتَتَح الخاطف والباهر للشّريط العاشر للصيني غوان هو "كلب أسود"، الحائز على جائزة خانة "نظرة ما" في الدورة الـ77 (13 ـ 25 أيار 2024) لمهرجان كانّ السينمائي، يُلخِّص تقبيحات بشريَّة تنال بعسفها ودمويتها وجنونها من أناسيّ وحيوانات على حدّ سواء. تضع تلك الشّراسة مواطنيها تحت وطأة عوز ودم وجريمة، فيما تقع حصَّة البهائم ضمن تصفيات جماعيَّة مخبولة، تتحرَّك مجاميعها كفرق موت جوالة. نصّ المخرج غوان هو مركّب بذكاء بين مصيرين غريبين لرجل وحيد ومنعزل ومهزوم وكلب طريد يكشف عن وفاء متأصِّل وشجاعة وثبات، بيد أنَّ النّادر الدَّرَّامي في هذا العمل المتألق يكمن في مقاربته العقائدية لزمان أحداثه ومكان وقوعها، إذ يملكان (التاريخ والبقعة الجغرافيّة) نبوءة مشتركة عن صين اليوم والتغيّيرات الجبّارة والعميقة والمتعجلة والكاسحة التي غيَّرت كُلّ شيء فيها، وسرعت في عصرنة بلد حاول الإعداء الأزليون إبقاءه ذليلاً ومتخلفاً و"مَسْطُولاً".

لن يكتفي حضور البطل الشاب كوجود قصصي، وتبرير لحكاية "صداقة" أنساحيوانية، بل هو عنوان ملعون عن مواطن قديم لصين قديمة. كائن ارتكب جريمة قتل وهو يافع، يعود الى قريته الصحراويَّة وهو رجل أربعيني معدم ونكرة، رغم ماضيه كنجم روك سابق. ما يواجهه البطل لانغ (أداء قويّ من الممثل والموسيقي أدي بِنغ) كمعضلة حياتية أنَّ مسقط رأسه تبدَّل تماماً. هناك نيَّة حكوميَّة لشطب المكان برُمَّته من الوجود، وإطلاق حملة بناء شاملة، وتحويله حاضرة صناعيَّة مستقبليَّة. إذن، يُصبح غرض عودته ليس إعادة ألفة عائلية بل ليشهد على موت قيّم وطرائق حياة وتراتب ولاءات. أنَّ زمنه السابق ولى، وما بقاياه المتمثلة بزعيم عصابة هرم يدّعى "الجزار هو" (المخرج الطّليعي جيا جانغ ـ كي صاحب "لمسة خطيئة"، 2013)، وهوسه للإنتقام منه بسبب تورُّطه في قتل ابن أخيه سوى شعرة أخيرة، يُعلن عبر انقطاعها عن إزاحة مطلقة ونهائيَّة لمجتمع بائر.

الزّمن، طوال الفيلم، خطي المنحّى بلا شروحات تاريخيَّة أو معلومات أو أشارات مسيسة، لأنَّ المشاهد يعرف مآلات الأمر الصينيّ كقوّة عظمى شامخة، لكن ما هَدَف له المخرج غوان هو إشاراته البصريَّة الى "كيفيَّة حياتيَّة" كان أهل البلاد يألفون عيشها قبل اكتساح فورة التَّنمية الاقتصاديَّة السَّريعة. من هنا، نفهم لماذا اختار قرية نائية هالكة، تعيش أيامها الأخيرة على وقع الإستعدادات لأولمبياد بيجين 2008، معززاً فضولنا بجَلَبة إعلاميّة رسمية عبر شاشات التلفزيون حول تنظيمها، وكأنَّها مقارعة غرب رأسمالي بِنَعَم الكفاءات الصينية. يَذْكُر المخرج غوان هو أنْ هذه البلدات كانت مزدهرة في ستِّينيَّات القرن الماضي، قبل أن تنضب مواردها ويهجرها سكّانها. بقيت المباني تحكي مصائر قرويّين خضعوا الى تحوُّلات اجتماعية هائلة ليضحوا مهاجرين داخليّين، تاركين خلفهم قطعان مخيفة من كلابهم، كما يتّهكم مدير شرطة البلدة، وهو يقود سيارته الفارهة (دفع رباعي)، متجولاً في شوارع ميتة.

يفسّر هذا دوافع المخرج غوان هو (1968) في اختياره المشهد الافتتاحي المذهل لغزوة كلابه، الذي يشترك بفرجويته الوخَمة مع  نظيره الختاميّ الأيقونيّ في شريط الهنغاري كورنيل موندروتشزو "أله أبيض"، الفائز بجائزة خانة "نظرة ما" لكانّ (2014)، حيث تنتصر الكلاب على قانون أبادتها، وتنفذ اعتصاماً لا مثيل سينمائيَّاً له، مع فارق أنْ أدبارها في الفيلم الصيني يأتي إشارة الى فكرة "التخلف عن الركب"،  حسب تعبير غوان هو، التي ساوت ما بين النّاس وكلابهم. المُخْتلف هنا، أنَّ الأُول يغادرون سعياً الى إقامات أمينة وحيوات جديدة، فيما تواجه الأخيرة قدر تطهيرها من الوجود بقرار منظومة حكوميَّة، لا تجد حرجاً من الاعتماد على زعيم عصابة عجوز وفاسد في تشكيل زمر مطاردة ومحو، مقابل جزيات ماليّة عن أيّ روح تُسْفك. لن تجد الكلاب سوى فرارها نحو اللّا مكان، ذلك أنَّ قرار التحديث و"التنظيف" مسّ كُلّ زاوية في بلاد ماو تسي تونغ ورفاقه اللاحقين والواعين الى أنْ "صينهم" لن تنال حظوتها الكونيَّة إلّا بـ"تنقية" ما خلفه القائد العابر للتاريخ وكتابه الحزبيّ الأَفِل.

 
 

الوصف الأخير، ينطبق أيضاً وبقوّة على الشاب لانغ. أنَّه مواطن أفْل مكانه وزمانه، بل وحتى موسيقاه (الروك التي أنجز غوان هو باكورته الوثائقية "وسخ" (1994) عن أشهر فرقها المقلدة لما ينتجه الغرب) لم تعد تجد راغبيها. ما يتبقّى له هو ولع أصيل في صيانة دراجات ناريَّة وقيادتها، حيث تصبح إحداها لاحقاً رمز شخصية طوَّافة وعدائية. فمن أجل إبعاد مخاطر زواله أو هلاكه على يد أزلام الجزّار، على لانغ التسلح لمرّة أخيرة بإدوات زمنه القديم، وأوَّلها الصمت لتحرير نفسه، "رغم أنَّه  قادر على التحدّث، لكنّه لا يرغب بذلك، وكأنّها طريقته في رفض مجتمع عاد إليه، لكنّه لا يشعر حقاً بأنه ينتمي الى أهله بعد الآن"، كما يلاحظ غوان هو. ثانيها، أنْ يَخْنِس ويتفادى المواجهات باعتباره سجيَّناً سابقاً، عسى أنْ يجد سلواه في رفقة لاحقة. المدهش أنْ لانغ يحقق صحبة مزدوجة مع صبية حسناء، تعمل في سيرك يعبر البلدة، وهي روح فوارة تعاني من حكم عائلي جائر يغفل حرّيَّتها، ويربطها كسلعة عرض في مهنة تتعرَّض بدورها الى اندثار. تجد غرَابي (تونغ ليا) في كتمان حبيبها لوعة ناريَّة مشتركة، لن ينفع معه اقتراحها في الزواج ليبنيا عالماً "يلحق بالركب"، وهي إشارة تعكس صوابيتها ونضج نظرتها إلى الحياة، وتصميمها المدروس لمستقبلها. حياة لا يحتاج لها لانغ، كونه يضمر انتقاماً متأصِّلاً، عليه أنْ ينجِّز قدره، أيْ إنْ آصرته البشرية محكومة بالقطع والبتر والشَدَف.

تعويضاً عن ذلّ عزلته، يتآلف البطل بسهولة أسرع مع كلب أسود سائب، يرعاه بعد ما أنقذه من مطاردة قتل. يصرف غوان هو (وشريكاه في كتابة النصّ جي روي و وو بِنغ) زمناً أطول في بناء هذه العلاقة، مقارنة بما تمّ ترتيبه مع الفتاة الراقصة، ذلك أنَّ ترويض حيوان برّيّ يتطلّب معرفة فطريَّة بأسرار السَاس، يجهلها لانغ لكنّه يمارس فيها فطنته، ليتحوَّل الكلب الرشيق (والقليل النباح!) أثرها الى صديق ومنجد وعضيد. من هنا، تصبح ثيمة "كلب أسود" (110 د) في مقاطعها الأخيرة أكثر إشراقاً، وتتفَّجر مشهدياتها التي صورها مدير التصوير الموهوب جاو ويجي بنفس ملحمي يُلمِّح الى تدمير مقنّن وأزليّ وغليظ، وشاشة عريضة تستعرض بهاء طبيعة لا حدود لجمالها رغم يباسها وبربريّتها، وهويَّة بصريَّة تمتاز بصبغة لونية ترابية مغتمّة مأخوذة من محيط قَفْر وشرس، تتفَّجر رونقاً مرئيّاً وكأنَّه يحتفي بلقاء روحين مستوحَّدتين، تسعيان الى نجاة من حتوف، يقررها أخرون بصلافة واللّا ذمَّة.

لن تُفهم خصوصيَّة علاقة لانغ بكلبه السلوقي إلّا حين معرفة ما ذكره المخرج غوان هو في اعتماده "أسطورة صينية قديمة تحكي قصة الإله إرلانج، وهو إله الأساطير الصينية  الشّهير بعين ثالثة على جبهته، والمرتبط بأبطال قاموا بحماية السكان من الفيضانات خلال سلالات تشين وسوي وجين. يُصوَر إرلانج غالباً برفقة كلب نحيف جائع، يقف الى جانبه مخفّفاً من وحدته أثناء سفره في السَّماء" لصوغ الحكاية المشتركة بين بطله وحيوانه (عن كتيب الفيلم). الى ذلك، لطالما احتفت نصوص المخرج المبرز من بين أعضاء الجيل السينمائي السادس في الصين، الذي حقق فيلمه الحربيّ الملحميّ "ثمانمائة" (2020) سقف أرباح قياسياً وصل الى461 مليون دولار، بصنوف عديدة من الحيوانات، كمقابل استعاريّ لأبطال يواجهون محنهم بجلادة نادرة. ففي كوميدياه المعقدة "بقرة" (ضمن عروض خانة "أفاق" في مهرجان فينيسيا السينمائي، 2009) يتورَّط الراعي المغفل نيوأر (الممثل القدير هوانغ بو) بعلاقة عدائية مع بقرة هولندية، تبعثها الحكومة لتحسين نسل أبقار المنطقة، معتبراً ايَّاها منافساً لبقرته الصينية الضئيلة، بيد أنَّ مصيرهما ينقلب حين تصبح قريته القصية والبائسة في قلب معارك المقاومة ضد الغزاة اليابانيين، ليتحتّم على البطل الأشعث أن "يلحق بالركب"، مطوراً أساليبه البدائيَّة للحفاظ على حياة بقرة ثمينة، هي عنوان بقاء جماعي. أما في شريط "السيد 6" (فيلم الختام للدورة 72 لمهرجان فينيسيا، 2015)، هناك طائران يرافقان البطل العجوز الشبيه بملامح بطل "كلب أسود". يتورَّط رجل عصابات متقاعد ومثالي النّزعة أخلاقيّاً (الممثل الذّائع الصِّيت فِنغ شياوغانغ) بعداوة قسريَّة من قبل كارتل أثرياء، إثر خطأ إرتكبه ابنه الضال. هناك عصفور دوري يردِّد كلمة "غباء"، وكأنَّه يلعن عفونة نظام حياتي متحلل، وطائر نعامة هائلة الحجم تهرب من قفصها، وتركض في شوارع العاصمة من دون أنْ يفلح أحد في إنقاذها، تسبَّيقاً لما سيحدث للسيد 6 حين يسقط ميتاً بسكتة قلبيَّة فوق بحيرة متجمدة حاملاً سيفه، خاسراً رهانه في تحقيق قصاصه من سارقي نعم الصين المتعجلة في حداثاتها. قبل هذا، قدم غوان هو في شريطه الأكروباتيكي الذي يمزج، بمهارة وضجة سينمائيتين مجيدتين، خليطاً متنوّعاً من الجندر، سواء رعاة بقر وتآمر (فيلم نوار) ومسرحة وحرب مع استعارات كثيرة من كوميديّات البريطاني نورمان وزدم في "الشيف والممثل والوغد" (2013) الذي توافر فيه حشد حيوانيّ لافت من حصان أبيض وطائر حسون وأسماك وكلاب وغيرها، تداور وجودها ورمزيتها الأسطوريّة مع أربع شخصيات من المقاومة الشعبيَّة، تواجه جيشاً يابانيّاً يسعى الى إستعادة عبوات جراثيم وباء كوليرا!. يشرح صاحب "التضحية" (2020) وجود هذه الحيوانات بكثرة في إشتغالاته السينمائية بقوله: "إذا كانت هناك حيوانات في أفلامي، فهذا لأنّني أعتقد أنَّ هناك جانباً حيوانيَّاً نائماً في كُلّ منا. حيوانيَّة، يمكن أن تتجلى عندما نحتاج إلى إظهار الشّجاعة أو تحدّي السلطة. مثل نوع من طبيعة بدائيّة، نختار في الغالب أن نتركها كامنة، وهو أمر يدعو للأسف".

*****

حافظ "كلب أسود" على روح دراميّة واقعيَّة محكمة البناء. تُسرد وقائعها بأسلوب متجوّل نابض بالحركة والحيويَّة، يثبت أنَّ الأنتروبيا السينمائيَّة فيه لا يعود مقياس طاقتها الى تبسيط جارف ومقصود لحكاية رجل تخلف كثيراً عن رفقة طرائد الحزب الأبديّ، إنّما بسبب إخلاص الرؤية الانتقادية لدى المخرج غوان هو وبسالة تحاملها ولا تهاونها ضد قباحات البشر وشنّاعاتهم، ومثلها إبتعاده عن الدّعائيّ الحكوميّ وسفاهاته، الذي حتم عليه اختيارات حصيفة لشخصيات قليلة غارقة بشعبيتها وتقاليدها وأساليب معيشتها، وفوق كُلّ هذا دأبها للفوز بحريّة مفتقدة، ولعلّ المشهد الختاميّ المذهل لكسوف الشمس، والتّجمع البشري المبهوت لرؤية حدث فلكي وقع بالفعل في شمال غربي الصين قبيل إنطلاق أولمبياد بيجين، والذي تزامن مع هروب جماعيّ لحيوانات حديقة البلدة، وتجولها وسط خلاء أبوكالبتي، كافية رؤيوياً للتّعبير عن توقّ البطل الشاب الى "انعتاق كامل من حياة روتينيّة ورتّيبة تخنقه وتدفعه إلى العثور على كرامته كإنسان".

سينماتك في ـ  19 أغسطس 2024

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004