عند حَوَاف بريَّة نائية وشرسة في صحراء غوبي الصينية،
كأن الرَّبّ غَفَلَهَا منذ أنْ خلق أكوانه، يقع طريق
مترَّب يمتدّ الى اللّا منتهى، يقود حافلة نقل قديمة
ورُكّابها نحو حتْف مكتوب. سبب حادث انقلابها، نراه
لاحقاً في لقطة عامَّة مُفخّمة بلون كامد، وحركة
أفقيَّة لكاميرا تتوجَّه نحو اليمين، مع فاصل صامت
ومرَّيب، ينتظر وقوع مفاجأة بصريَّة خاطفة لن تتأخر
كثيراً، حين تغزو الشاشة والمنطقة الوحشيَّة تلك عشرات
متنوِّعة السُّلالات والألوان والأحجام من كلاب سائبة،
تعدو بجنون وكأنها أسراب شيطانيَّة ظهرت من اللّا
مكان، تتّجه بإرادة خفيّة وعناد جماعي نحو جحيم أرضي
غامض، يقع خارج إطار الصُّورة العريضة.
هذا المُفْتَتَح الخاطف والباهر للشّريط العاشر للصيني
غوان هو "كلب أسود"، الحائز على جائزة خانة "نظرة ما"
في الدورة الـ77 (13 ـ 25 أيار 2024) لمهرجان كانّ
السينمائي، يُلخِّص تقبيحات بشريَّة تنال بعسفها
ودمويتها وجنونها من أناسيّ وحيوانات على حدّ سواء.
تضع تلك الشّراسة مواطنيها تحت وطأة عوز ودم وجريمة،
فيما تقع حصَّة البهائم ضمن تصفيات جماعيَّة مخبولة،
تتحرَّك مجاميعها كفرق موت جوالة. نصّ المخرج غوان هو
مركّب بذكاء بين مصيرين غريبين لرجل وحيد ومنعزل
ومهزوم وكلب طريد يكشف عن وفاء متأصِّل وشجاعة وثبات،
بيد أنَّ النّادر الدَّرَّامي في هذا العمل المتألق
يكمن في مقاربته العقائدية لزمان أحداثه ومكان وقوعها،
إذ يملكان (التاريخ والبقعة الجغرافيّة) نبوءة مشتركة
عن صين اليوم والتغيّيرات الجبّارة والعميقة والمتعجلة
والكاسحة التي غيَّرت كُلّ شيء فيها، وسرعت في عصرنة
بلد حاول الإعداء الأزليون إبقاءه ذليلاً ومتخلفاً
و"مَسْطُولاً".
لن يكتفي حضور البطل الشاب كوجود قصصي، وتبرير لحكاية
"صداقة" أنساحيوانية، بل هو عنوان ملعون عن مواطن قديم
لصين قديمة. كائن ارتكب جريمة قتل وهو يافع، يعود الى
قريته الصحراويَّة وهو رجل أربعيني معدم ونكرة، رغم
ماضيه كنجم روك سابق. ما يواجهه البطل لانغ (أداء قويّ
من الممثل والموسيقي أدي بِنغ) كمعضلة حياتية أنَّ
مسقط رأسه تبدَّل تماماً. هناك نيَّة حكوميَّة لشطب
المكان برُمَّته من الوجود، وإطلاق حملة بناء شاملة،
وتحويله حاضرة صناعيَّة مستقبليَّة. إذن، يُصبح غرض
عودته ليس إعادة ألفة عائلية بل ليشهد على موت قيّم
وطرائق حياة وتراتب ولاءات. أنَّ زمنه السابق ولى، وما
بقاياه المتمثلة بزعيم عصابة هرم يدّعى "الجزار هو"
(المخرج الطّليعي جيا جانغ ـ كي صاحب "لمسة خطيئة"،
2013)، وهوسه للإنتقام منه بسبب تورُّطه في قتل ابن
أخيه سوى شعرة أخيرة، يُعلن عبر انقطاعها عن إزاحة
مطلقة ونهائيَّة لمجتمع بائر.
الزّمن، طوال الفيلم، خطي المنحّى بلا شروحات
تاريخيَّة أو معلومات أو أشارات مسيسة، لأنَّ المشاهد
يعرف مآلات الأمر الصينيّ كقوّة عظمى شامخة، لكن ما
هَدَف له المخرج غوان هو إشاراته البصريَّة الى
"كيفيَّة حياتيَّة" كان أهل البلاد يألفون عيشها قبل
اكتساح فورة التَّنمية الاقتصاديَّة السَّريعة. من
هنا، نفهم لماذا اختار قرية نائية هالكة، تعيش أيامها
الأخيرة على وقع الإستعدادات لأولمبياد بيجين 2008،
معززاً فضولنا بجَلَبة إعلاميّة رسمية عبر شاشات
التلفزيون حول تنظيمها، وكأنَّها مقارعة غرب رأسمالي
بِنَعَم الكفاءات الصينية. يَذْكُر المخرج غوان هو أنْ
هذه البلدات كانت مزدهرة في ستِّينيَّات القرن الماضي،
قبل أن تنضب مواردها ويهجرها سكّانها. بقيت المباني
تحكي مصائر قرويّين خضعوا الى تحوُّلات اجتماعية هائلة
ليضحوا مهاجرين داخليّين، تاركين خلفهم قطعان مخيفة من
كلابهم، كما يتّهكم مدير شرطة البلدة، وهو يقود سيارته
الفارهة (دفع رباعي)، متجولاً في شوارع ميتة.
يفسّر هذا دوافع المخرج غوان هو (1968) في اختياره
المشهد الافتتاحي المذهل لغزوة كلابه، الذي يشترك
بفرجويته الوخَمة مع نظيره الختاميّ الأيقونيّ في
شريط الهنغاري كورنيل موندروتشزو "أله أبيض"، الفائز
بجائزة خانة "نظرة ما" لكانّ (2014)، حيث تنتصر الكلاب
على قانون أبادتها، وتنفذ اعتصاماً لا مثيل
سينمائيَّاً له، مع فارق أنْ أدبارها في الفيلم الصيني
يأتي إشارة الى فكرة "التخلف عن الركب"، حسب تعبير
غوان هو، التي ساوت ما بين النّاس وكلابهم. المُخْتلف
هنا، أنَّ الأُول يغادرون سعياً الى إقامات أمينة
وحيوات جديدة، فيما تواجه الأخيرة قدر تطهيرها من
الوجود بقرار منظومة حكوميَّة، لا تجد حرجاً من
الاعتماد على زعيم عصابة عجوز وفاسد في تشكيل زمر
مطاردة ومحو، مقابل جزيات ماليّة عن أيّ روح تُسْفك.
لن تجد الكلاب سوى فرارها نحو اللّا مكان، ذلك أنَّ
قرار التحديث و"التنظيف" مسّ كُلّ زاوية في بلاد ماو
تسي تونغ ورفاقه اللاحقين والواعين الى أنْ "صينهم" لن
تنال حظوتها الكونيَّة إلّا بـ"تنقية" ما خلفه القائد
العابر للتاريخ وكتابه الحزبيّ الأَفِل. |