هؤلاء، وبرفقة أخرين، هم سكّان غابات غناء فسيحة وبكر،
يمارسون بين أدغالها حياة برّيّة مطلقة، تبدأ بالنسبة
لنا كمشاهدين لحظة انطلاق مطاردة مثيرة لخمسة كلاب،
يستهدفون الفتك بالقطة الرماديَّة التي تتفوق عليهم
بالمكر والمراوغة، لتنتهي داخل فسحة فردوسيَّة
المعالم، تضمّ عشرات التماثيل بأحجام عملاقة لقطط
متنوّعة السّلالات. حين تدلف الى منزل خشبيّ وترقد على
فراش أبيض، نخمّن إن المُقام كان ملكاً لفنان موهوب
غائب/ متوفّى، وزع منحوتاته في أرجاء محلّ معزول بسرعة
قياسيَّة قبل فنائه، محوَّلاً ورشته الى إعلان شغف
بحيوان أنيس وذكي رغم أنانيّته وتوحّده.
تالياً، تواجه الأمكنة ورعاتها من الأحياء إنذاراً
أوّليَّاً لنازلة مقبلة بعجالة مدمرة، حين تكتسح قطعان
غزلان مستثارة الحيّز المرسوم بروح الهولندي ياكوب فان
روسيدل, وزميله الأميركي توماس كول، ومثلهما الفرنسي
تيودور روسو، مدبرة من تدفّق وحشيّ لمياه تسونامي
عارم، يُغرِق ما يقف أمامه، رافعاً منّاسيب هلاكه بلا
هوادة. وحدها البطلة/ القطة تستخدم نباهتها في الوصول
الى أعلى نقطة مرتفعة (هناك نقاط أخريات منها أعالي
منزل وصاري قارب وأبراج صخريّة عالية جداً وغيرها)،
وهي أذن تمثال قط ضخم يقع على شاطىء قصيّ، قبل أن تفلح
في صعود قارب دفعته تيّارات غاضبة نحو مقر تحصّنها
المؤقّت، لينقذها من غرق محتوم.
المدهش في هذه المقدّمة الطويلة نسبيّاً أن
زيلبَالوديس وفرّيقه المكون من خمسين فنّاناً قديراً،
تعمّد في (أ: جعل حركة حيواناته معقولة وإنسيابية وذات
طابع كلاسيكي على منوال المعلم الياباني هاياو
ميازاكي، متبعداً عن كليشيهات تصويرها وهي تتصرّف أو
تفكر كما البشر. (ب: جعل أهداف تلك الشّخصيات أكثر
بساطة وذات جوهر مُشَكَّل لكنه نقيّ وقابل للتّحقّق
كونه معني بالحياة والتّشبُّث بها. (ج: جعل المجموعة
كتلة من أرواح بدائيّة لا مكان فيها لعدو أو خصومات أو
تنافسات. يتشارك الجميع متن قارب واحد، وعليهم أن
يقرّروا بملء إرادتهم أما البقاء أو المغادرة، ما
يفسّر عدم تغيّر الشخصيات وتحوّلها بصور متطرّفة، حيث
يبقى الخنزير ودوداُ، ويصبح الكلب أكثر حماسة ونجابة،
ويوسّع الليمور مساحات التّودُّد والتّضحية
بـ"إستهلاكيته" وغنائمها!.
وحدها القطّة الرماديَّة التي تقودها أرواحها التسعة
الى الحكمة ونذورها لتحصل عبّرها على معرفة وحَزَر
النّكبة الإيكولوجيَّة من حولهم، وتستجمع شجاعتها
لتواجه العالم ونكباته. فالخوف من الماء يختفي ويتحوّل
الى ولع سباحة ومطاردة خلائق المياه، وصيد الأسماك
يتحوّل من غلّة فردية الى وجبات مشتركة، تتبرّع بها
حتى الى طائر صقر الجديان العملاق، الذي يقود دفّة
المركب!، ويحمل جروح معركة خاسرة سابقة، حين دافع عن
القطّة ضد رئيس سربه العنيف والقاسي والرّافض للتّشارك
والمساعدة. يختار الخالق هذا المخلوق النّبيل،
تبجِّيلاً لإيثاره ومرؤته، ويّرْفَعُه الى السّماء،
وسط قيامة من نور باهر قبيل نهاية الشّريط. أنّها
الشّخصية الوحيدة التي يضفي عليها زيلبَالوديس هالة
ربوبيّة، تلمح بشكل ضبابي الى طوفان نوح من دون أن
يكون مرجعاً حاسماً للفيلم، فهي من الإضافات
والتّطويرات التي طالت الحكاية الأصليَّة التي بُذِرَت
في "أكوا" (12 د)، وبالذّات محنة قطّ خلال فيضانات
مدمرة، وصعوده وحيداً الى قارب شارد، وإنقاذه لاحقاً
بمبادرة من طائر أصفر.
صنع زيلبَالوديس في باكورته القصيرة هذه رؤية
ديستوبية، رسمها ونفذها بنفسه ببعدين بصريّين، وضمنها
مقاربته الأوليّة لمفاهيم مثل الأمانة والمُوَاثَقَة
والجُود والجرأة واليقظة. لئن جاءت هذه التّجربة
مجروحة التّنفيذ ببدائيتها، وتقنيّتها المتواضعة جداً،
إلّا أنّها كانت كافية فنياً في إثبات موهبة شابّ يعمل
بشكل فرديّ، قادته صلابته وإيمانه بكفاءاته الى توسيع
تلك الرّؤية في، ما يحبّ تسميته بـ"فيلم تخرجي"،
باكورته الطّويلة "بعيداً" (2019) وجعلها فورة بصريَّة
مفاجئة، مستخدماً النظام المجّانيّ لرسوم الكمبيوتر
والواقع الإفتراضي المسمّى "بلندر" في تنفيذ
"إصطناعيَّة أنيميشن" أكثر تماسكاً تقنّياً وبتأطيرات
فرجوية أصيلة، حول فتى يسقط من طائرة حربيّة ضمن غارة
لقوات جوية غامضة، ويبقى وحيداً في جزيرة يحرسها عملاق
مظلم، يلاحقه طوال الفيلم كي يبتلعه، قبل أن ينقذه
طائر صغير. يصف صاحب "أشياع" (2015) الغول باعتباره
"روحاً، قوّة بدائيَّة من الطبيعة، ليست جيدة ولا
سيئة، خالية من العاطفة أو النيَّة البشريَّة"، مشيراً
الى أنَّه طور هذه الشخصية الغامضة لاحقاً الى ظاهرة
تهديد وإنذار (الطوفان) بأبعاد ثلاثية متقدمة الصنعة،
وتدفّق صوريّ لكاميرا لن تتوقّف عن الإنسيّاب والحركة،
فاسحة بتجوالها الفرصة لخبير الرسوم المتحرّكة
المتعدّدة الأبعاد الفرنسي ليو سيلي بيليسييه الى
استعراض مهاراته في إنجاز لوحات طبيعة خلّابة ذات
تلاعب لوني متّفجرة، وتشكيلات جغرافيّة معقّدة وغامضة
ومتضاربة التّصميمات.
لن يصل بطل "بعيداً" الجائل على دراجته النّاريّة،
والذي يلتقي بشخصيّات مستوحدة عدة (سلحفاة، أبن آوى،
قطط سوداء ترتوي من ماء بركة بركانية فوارة آيسلندية
الطابع، طيور بيضاء وغيرها) الى نهاية رحلته لولا
الرّحمة التي قادها ذلك الطائر الذي تتكرّر عوداته
بعزوم فطريّة نادرة، وهي المرحمة ذاتها التي تتوسّع
بركاتها في نصّ "طوفان"، شاملة الجميع بما فيهم حوت
عظيم البدن تنقذه القطّة الرماديَّة وشركاؤها، بعد أن
جنح الى يابسة ظهرت حين انزاحت المياه فجأة وبإرادة
غامضة، لتكشف عن مدن وحواضر بشريّة بائدة، عن أثار رقي
تنابز أهله في حروب عبثيّة حتى أندثروا، عن بقايا
كائنات لم تكف عن التّعنت والخسَّة والهوس بالهيمنات،
لتقودها أنانيّتها وسفالاتها العقائدية الى خراب شامل
ورَدِي دمويّ هلك سلالاتها. إن المشهد الختاميّ، رغم
انفتاحه على أيّ تأويل، لتيارات المياه تحت أنوار شمس
الغروب البشريّ، وذلك الذّيل الكبير للحوت البحريّ وهو
يختفي ببطء بين الأمواج، لن يقول في قنّاعتنا سوى
شتيمة واحدة لا لبس فيها: "تبّاً للبشر وحماقاتهم". |