" *ماذا تعني كلمة "نحن" في العنوان (بالإنكليزية)
بالنسبة لك؟.
بايال كاباديا: جميعنا. ليس فقط في الهند، بل في كُلّ
مكان. الكثير من النساء لا يستطعن التَّفكير في طريقة
للخروج من حالاتهن، أو إيجاد خلاص آخر يُمكنهنَّ بفضله
عيش حياتهن. سعيت الى أن أتخيل مسابر أخرى، رغم أنَّ
الحكايات قد لَّا تكون قصتي تماماً، لكن هناك الكثير
من النساء المختلفات اللَّواتي أعرفهن، وربما يقمن في
مكان ما، تلح معاناتهن على أن تروى. بالنّسبة لي، تدور
السينما حول فهم العالم من حولنا، وفهم أنفسنا. لذا،
يجب أن يكون هناك جزء منّي في الفيلم أيضاً"(حديث الى
منصة "أي ربِت فوت" الإلكترونية، 25 مايو 2024)
*****
"رحم شرّير"، هو وصف صاعق وغير مسبوق اخترعته المفكرة
النسوية الأسترالية جيرمين غرير في كتابها التأسيسي
"المرأة المخصيّة" (1970)، لتوصف به وعبره وصمة أزليَة
ومتوارثة بالمرأة، حين تفكر وتحاول وتبادر وتتكلم، إن
لم تتجرأ وتعترض. فالحتمية البيولوجية التي خُلقت بها
وعليها، تفرض تحيزاً جنسياً بينها والرجال الذين "هم
بيدهم أمر الكلام" حسب الدنماركي أوتو جيسبرسن، بمعنى
أن حياداً مزيفاً يرعى تكويننا(وتدرجنا) الاجتماعيين،
ويحقق بإرادته ذلك المفهوم المائع للملائمة بين
الجنسين (أو كما أسمته غرير بـ"توافق الناس"). مائع،
لإن الشائع في احترام المرأة كأم وزوجة وأخت وابنة
وغيرها لن يمنع من وضع معايير صارمة تنظم أسبقيات
القوة والهيمنة الجنسانية. مائع، لأن المكانة الجندرية
رُسمت وفُرضت بقوانين نظام أبويّ قديم، توارثتها سلطات
وضعية لاحقة، جعلت منها سلوكاً رعائياً، تكون فيه
المرأة كائناً تابعاً (أو ناقصاً لا فرق) بلا وجاهات
وعرضة للشكوك والمسَّ السهل بالطهارات والرزانات
والأعراض. مائع، لأن خِيار المرأة لحياتها يتطلب
اشتراطات جمعية هي في الغالب بيد أولياء أمر سواء
أفراداً كانوا أم قيادة أم إفتاء... وجميعها ذكورية،
ولن تحكمها أبداً نزعتها الشخصية الصافية التي تنتهي
عاراً على ألسنة وشاة وقوالين وأهل ضِرار وحيل سيئة.
عن هذا "الحكم العاسف" تحديداً، صاغت الهندية الموهوبة
بايال كاباديا باكورتها الروائية الهجينة بروح الفيلم
الوثائقي "كُلّ ما نتخيَّله كما الضوء"، الحائزة على
الجائزة الكبرى للجنة تحكيم الدورة الـ77 (13 ـ 25
مايو 2024) لمهرجان كانّ السينمائي، متناً سينمائياً
سجالياً وطموحاً حول الانتقاص الاجتماعي والعائلي
كأداة جَبْر، واضعة بطلاتها الثلاث بأعمارهن المختلفة
داخل دائرة إرهاب مستتر، متتبعة خطوات احترازهن من
الزلات وويلاتها، مضيفة على نصّها وحكايتهن تعميماً
إنسانياً كونياً، لن يخص مواطنات هنديات مجالدات في
حاضرة متضخمة بلا تواصل، وعدائية بلا جَمَام، وسالبة
للاستقلالية الفردية والقوت الشخصي، إنما ينطبق على
نظيراتهن في أي مجتمع آخر، وإن اختلفت الظروف
والبيئات.
إنها نظرة جارحة ـ لكن متفائلة ـ لسراري مدينيات، نظن
إن مسراتهن خاسرة سلفاً، قبل أن يفاجأن أقدارهن بحسم
نبيه، يقودهن الى الفوز بمساحة تأمل شديدة الأهمية
لحيواتهن ومستقبلهن، تنتخب كاباديا له حيّزاً بحرياً
على الطرف الغربي لشبه القارة، ينأى بهن عن مومباي
ووحشيتها، وتحوله الى يمبوس شخصي لبطلاتها، تنصب فيه
حواراتهن القليلة حول خلل اجتماعي يضطهدهن علناً وبلا
هوادة، وهن عاجزات على مواجهته أو إلغائه أو التحايل
عليه.
تسأل حكيمتهن بَرابها (كاني كوسروتي) زميلتها الصغرى
المتحرّرة، أو عديمة الحياء كما تصفها امرأة غيور،
وتدعى آنو(ديفيا بَرابها) وهن في مواجهة المحيط
الشاسع: "أتهجسين المستقبل؟"، تجيبها: "أشعر أن
مستقبلي هنا في هذه البقعة، لكنني لست مستعدة له".
ردَّ ثقيل من فتاة ريفيّة هندوسيّة، تصرف شبابها في
عمل مضن كممرضة، وتراوغ أعرافاً عائلية بمواعدة شاب من
عائلة مسلمة. يمكن اعتباره (الردّ) تحاملاً غير مباشر
على فصل عرقي يقمع حريتها في الحب، وجندرة فاسدة لأنها
ضحية مؤامرة أهلها لتزويجها ضمن صفقة مرتبة من شخص
دخيل، وضيم معيشي كونها "عبدة" راتب شحيح وحياة
متقشفة.
إن جواب آنو هو شجب مبطن لـ"مدينة أوهام وتناقضات"،
تغوي مهاجري أرياف برغد حياة كاذب، قبل أن يجدوا
أنفسهم رهينة شوارع مكتظة وجريمة وفساد وعبودية
يومية... "مدينة تسلبك زمنك وحياتك"، كما يقول تعليق
أحد المواطنين الذين تستعرضهم كاميرة مدير التصوير
رِنبير داس في مفتتح قصير ذي طابع وثائقيّ، يصور أصحاب
بسطات يستعدون لضنى يوم جديد في متروبوليس رأسمالي،
يشهد طفرة عقارية وحُمّى تغيير خرائط وهيكلة أحياء على
يد مطوريّ بناء شرهين ومخادعين، يرغمون فقراء مومباي
على هجرة قسرية، والاستيلاء على مناطق سكنهم لإنشاء
ناطحات سحاب فارهة، وتأسيس مستعمرات عمرانية ترفض
تواجدهم، وتخشى وضاعاتهم.
الشابة آنو، ثالثة زمرة نسوية جمعتها المخرجة كاباديا
(1986)، هي وجه درامي إشكاليّ ومباشر بتورياته الى
مجتمع متضخّم وعقائدي وعرقي بامتياز، ينظر الى المرأة
كعِلَّة اعتبارية، يُذكرها بواجبها في الحفاظ على عفّة
جماعيّة، ويحاصرها بحزمة قوانين ضُرّ، تهددها على
الدوام باستحقاقات وقِصَاص إن تجاوزت الأعراف، أو شكّل
سلوكها فضيحة، أو خالطت "ديانات مشبوهة". من هنا، تصبح
مشاهد عري آنو وبُوسَاتها الحارة التي تجمع شفاهها
بمَبْسِم شاب من غير ملتها، اختراقاً هائلاً من صاحبة
"وماذا يقول الصيف" (2018)، لمحرمات تقليدية هندية،
وهي جرأة تفجرها حداثات وافدة، تخترق ببطء لئيم
تراتبات أخلاقيّة وعائليّة ضاربة في القدم. توكد تلك
المشاهد القصيرة غير المسبوقة على أن نفاذ التحرّر
كسلوك عام في نسيج شبابي لا مناص منه، وإن عدّته
قوانين أكبر منظومة ديمقراطية في العالم، جرماً لا
يُغتفر. |