هناك ترتيب سينمائيّ غريب المنهج في جديد الأميركي شون
بيكر "أنورا"، الحائز على جائزة السَّعفة الذَّهب
للدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو 2024) لمهرجان كانّ
السينمائي الدولي، يُشَاد على أساس مخادع، قبل أن
نكتشف أنَّ رزمته تحوي أوراقاً أخلاقيَّة، وتحاملات
مبطنة وذات صلافة مغلفة بوفرة كوميديَّة فاقعة، تنال
من أحوال القوة الأعظم على وجه الأرض. خلاصة ذلك
التَّلاعب أنَّ النَّص وأحداثه تدور داخل مواخير
وقاعات رقص جنسي ونوادي تعر، غاوياً مشاهده للتَّحلّي
بصبر الانتظار والتفاجؤ لاحقاً بثورة خارج جدرانها!.
ضمن تلك العوالم، نلتقي بالشابة الأميركية الأوزبكية
أني (أداء فريد من الممثلة ميكي مَدِسون التي ظهرت في
دور عابر ضمن عائلة القاتل تشارلز مَنسُن في شريط
كونتن تارانتينو "كان يا مكان في هوليوود"، 2019)،
العاملة كراقصة تعر في بلدة برايتون بيتش من ضواحي
نيويورك، ويجعلها الفيلم رمزاً مبطناً لمزيج عرقي
يستفيد من وجوده مواطناً أميركيَّاً مهما كانت أصوله
وسحنته وديانته، ألَّا إنَّ عليه/ ها المجاهدة من أجل
البقاء كائناً حيَّاًّ ومنعماً وصحيَّاً، بل وقابلاً
لتحمُّل صدمات الفرص الضَّائعة، أو العيش عند "هامش
جحيميّ وشظف يوميّ مُستَذَلّ ومستقبل بلا أفق".
يمتد هذا الفصل التَّعريفي طويلاً، وكأن بيكر يوثّق
عالماً موبؤاً وملعوناً ومعزولاً، يقدم خدمات سريعة
لرجال أعمال يفرغون أعباءهم بين سيقان فتيات بائسات
ومُحْتَدمات بالتنافس والكسب والفوز بذكر هشّ لكنه
شديد الثراء، كي يخطفن فرصتهنَّ والإنتماء الى عالم
"نظيف"، خال من الضَّنى وأثقاله، والسُّخرة
وتأجيراتها، والعيش بهاجس الأخذ بالشّدَّة من زبائن
يصرون على نيل مبتغاهم الجنسي بأيّ ثمن. هناك قوانين
زجريَّة تمنع الذكور العابرين من التَّمادي في اللا
تقيّد بعدم مسّ أجساد الفتيات الممتهنات، بيد أنَّ
كابينات مغلقة تفسح المجال قليلاً لصفقات مستورة، تبدأ
كمساومة مالية بين أثنتين: دلعها من جهة وتَوَغَّنه
الشبقي من أخرى والتي تنتهي ـ في غالب الأحيان ـ برزمة
سمينة من الدولارت بين يدي الفتاة المستأجرة.
بقي المخرج بيكر في هذا المقطع الجامح والضَّاج
بالألوان ووهجها، الموسيقى وضجيجها، الأجساد البضَّة
العارية وغواياتها، الوجوه والعيون وملامح الفسق التي
تتفجَّر عليها وفيها ومنها، أميناً الى صبغة
ديكودراميَّة، صنعها بدأب منذ باكورته "ستارلت" (2012)
التي دمج فيها بين الدراميّ وخطوطه السَّرديَّة، وتلك
الروح التَّسجيليَّة لمواقع لن تُزيف أو تُجمّل أو
يُعاد تأهيلها ديكوريَّاً أو بصريَّاً. تمَّ تصوير هذا
الشريط في ضاحية متواضعة في لوس أنجيليس، وأختار شقة
أشدّ وضاعة كي يسرد حكاية الشابة جين التي تكتشف كنزاً
ماليَّاً، بعد ما أشترت ترمساً من سيدة عجوز غريبة
الأطوار. أنَّ سعي البطلة الى إعادة المال يجري ضمن
وسطين حياتين متغايرين: شارع اميركي بتضادات
إجتماعيَّة ماحقة، وعوالم صناعة أفلام البورنو بفجورها
وإستغلالها، قبل أن تجد جين حياتها أكثر قرباً من فوضى
وجوديَّة، ويصبح عليها أن تصحح مساراتها. هذا
التَّقويم هو عصب دراميّ آخر في "تانجرين" (2015)،
المنجز بواسطة هاتف نقال "أيفون س5" في شوارع هوليوود
كاليفورنيا، بطلاه عاملتا جنس متحوّلات جنسيَّاً،
تلتقيان عشية عطلة أعياد الميلاد في متجر دونات (الذي
سيعود اليه المخرج بيكر لاحقا في عمله "رد روكيت"،
2021)، قبل أن تتعرضان الى سيل من مهانات واعتداءات
وغلو جنسي. يجري كُلّ هذا في شوارع خلفية خالية ومواقع
شديد الفقر والضَّغينة. انها صورة قاتمة لأميركا سريعة
الإيقاع وجارفة للقيم والأخلاق والتَّكافل. في
"ستارليت" نرى جين بصحبة المرأة العجوز في مقبرة،
تقفان أمام شاهدين حجرين، الأول للزوج والثاني
لإبنتهما التي توفيت وهي في عمر البطلة التي تعي الأن
وبرعب مغزى الحياة وعظمتها!، في عمل بيكر الثاني، نرى
سين دي وصديقتها ألكسندرا تقفان أمام ألة غسل ملابس،
تنتظران عدتهما التي "تدنست" ببول افراد زمرة شباب،
رموها عليهما في مشهد صادم وإتهامي ومهين، تتَّفقان
على أن ما جرى لهما هو أشارة حاسمة بوجوب الإنتقال الى
"جنَّة" أخرى.
*****
أمتلك كلا الفيلمين قوَّتهما العقائديَّة من خليط
إنتاجي باهر وشديد الإمتاع. حكايات يومية بأبطال
حقيقيين وكربات عائلية وغمم حياتية، يجري تصوير
عوالمها بنفس تسجيلي، وكاميرا محمولة، ومونتاج تراتبي
متباسط، وشخصيات قليلة تتقاطع حيواتها بعنف وخدائع
وجَبَريَّة اجتماعيّة. من هنا، فإن صيغة بيكر على
تباسطها تمتلك لمسة سينمائيَّة تصل الى ضمير العموم
بيسر لا يضاهى، ولعل أبلغ مثال على هذا تلك الأمثولة
الفيلميَّة غير المسبوقة للطفلة موني (بروكلين برنس)
في "مشروع فلوريدا" (2017) التي تعيش مع والدتها
الشابة في موتيل (نُزُل) يُدعى "القلعة السحرية"،
والمُطلّ على مُتنزّه "العمّ" والت ديزني الشهير في
أورلاندو كاليفورنيا. يصبح هذا الموقع الفريد حيز شقاء
جماعي لـ"جيش من عائلات شديدة الفقر تتخذ من البناء
المعزول مؤولاً ووسيلة تحايل ضدَّ أعوان حكوميين يسعون
الى إرغامها على قبول إسكان إجباري. هؤلاء هم نزلاء ما
يمكن نعته بـ"معسكر غوانتانامو فلوريدا" حيث كل شيء
يتحرك ضمن مناورات لا تنتهي من كرّ وفرّ" ("سينماتك"،
14 يوليو 2017). ما الذي على المخرج بيكر القبول
والتَّقيُّد به كعنصر مرئي؟ الجواب: التَّمسُّك بطقوس
النّور الطَّبيعي لفلوريدا و"المحافظة على حركيَّة
الكاميرا وتحرّرها كمرافق دؤوب لموني وزعرانها، ما جعل
من طريقة التصوير بكاميرا الـ"ستديكام" ذات
ديناميكيَّة حاسمة، رفعت الى حد بعيد من إيقاع شريط
جوَّال ومتطفّل بامتياز لن يخشى عرض المَزْرِيّ في غرف
موني ووالدتها هالي، مثلما يحتفي برغد مطاعم ولوبيات
الفنادق الفخمة حينما تقتحمها الأم الشابة وطفلتها
للحصول على وجبات فاخرة تحت ادعائهن أنهما نزيلتان!".
هذا الادّعاء/ الحيلة هو ما تقع بطلة "أنورا" ضحيَّة
هينة له، هذه المرة على يد يافع متفجر بالحياة
والتَّوقُّد، يصل فجأة الى ناد للتَّعري حيث تعمل أني،
لتصاغ حكاية كوميديا سريعة الإيقاع، محتشدة الأحداث مع
وفرة لا حدود لها من اللون والضَّوء والأزمنة. قصة
مطاردات تتوالد بعضها من بعض في سلسلة تمتد 139 دقيقة،
لا مكان فيها لهنات دراميَّة، أو فعل غير مبرر، أو
شخصية عابرة غير معياريَّة، تشوّه سياقات محنة ذاتية
لصبية على قدر من الحيلة، تجد نفسها وسط قَتَام عراك
قانوني مع أفراد عصابة تابعة لأوليغارشيَّة روسيَّة
ساعية ـ بلا هوادة ـ الى إنقاذ فتاها من رعونته
وإسرافه ومكائده التي تقوده بعد مواقعات جنسيَّة حامية
بينه وأني الى زواجه منها بعقد كنسي رسمي في لاس
فيغاس!.
***** |