عبر إلقاء رتيب من الممثل ماثيو أمالريك (بطل "بدلة
الغواص والفراشة" (جائزة أفضل ممثل، السيزار 2008)،
ومخرج شريط "رحلتنا" (جائزة أفضل أخراج، مهرجان كانّ
2010)، ننصت أيضاً الى اعترافات المعلم ألبرتو الذي
يُقدم نفسه ذلك "الصبي الذي يكذب بشكل مكشوف، ويخون
بلا ندم لكن رغباته المحتدمة لا تفتأ تعذبه"، والتي
تقوده نحو البطل الشاب ومساعدته في تطوير مهنته
كبستانيّ، قبل الوقوع معاً في "طعم الخطيئة". يشهد هذا
الفصل الطويل تقاطع شهادتيهما كُلّاً حسب خطه الدرامي.
ينصب كلام ألبرتو على رِفْعَة مقامه كأكاديمي ورجل
ثقافة، يُرشِد تلميذه الى التَّرانيم الرُّوحيَّة
للرومانسي الألماني نوفاليس (1772 ـ 1801)، ويمارس
عليه أبوة ملتبسة عبر تقويم رسوماته لورود، تتماهى
خطوطها مع أشكال أعضاء تَّناسليَّة ذُّكوريَّة، قبل أن
يذعن الى رغبة بيير جوزف في سفرهما الى الهند وتصوير
فيلم وثائقي عنوانه "ذكريات حديقة"، حول جهودهما في
دراسة وجمع معلومات لأنواع فريدة من الزهور، وكذلك
التّعرف على قاطني شعاب الهمالايا وثقافاتهم وأساليب
معيشتهم وتكافلهم البيئي، وهي مغامرة تستنفر كوتا، حين
جرى عرضها في مدرسة البسْتنة، كونها مسَّاً بهويَّته
وسرها!. على طَّرف آخر، نسمع مكاشفات البطل (بصوت
الممثل غريغوري غيدبوا) عن حياة غير سويَّة لأمّ
مدمنة، تمارس عنفاً ضدّ زوج/ أب سيء الطالع (نراها في
لقطة متوسطة جالسة أمام صفّ من بنادق صيد وزجاجة
ويسكي!). نعلم أنَّ بيير جوزف الذي "يرتعب من مشاهد
ذبح الأرانب البرّيَّة" هو نتاج فوضى أسرية، تجعله
سريع الشَّغف بأيّ رجل، يجد أنَّ فالوسه مثاليّ، وأنَّ
"طعم نُطفته مثل جوز الزَّان". هذه الخيارات لا تجعل
منه شخصاً ناقصاً أو مختلاً أو منحلاً، بل تثبت أنَّ
تطوره ـ على خلاف نباتات الطبيعة ودقَّة نموها ـ تمَّ
كسره بحدَّة ولؤم، ما يبرّر عزلته وفساد ماضيه، والى
حدّ ما سذاجته الريفيَّة التي تتكامل لاحقا مع نظيرتها
لدى الأمير الآسيوي كوتا. هذا الأخير، لن يتفوَّه
بكلمة واحدة رغم مركزية شخصيَّته، لِأنّه في الواقع
"وعد شرقي" يملك خبيئة جسديَّة لا مثيل الى فتنتها
وشدَّة إيروتيكيتها.
نرى العجوز الأبيض الفرنسيّ عارياً ولائباً أمام مدفأة
مشتعلة بنار كبيرة تُشيع دفئاً مطلوباً، ونافذة كبيرة
تكشف عن بدر منير تحرسه غيوم خفيفة، لا تمنع سحر ضيائه
من الوصول الى لحيته الكثَّة، كما لو أنَّ المخرج
كريتون يتفكَّه على المشهديات الباذخة لمسلسل "لعبة
العروش" (2011 ـ 2019)، التي يعترف الأمير الآسيوي إنه
مدمن على متابعة جميع حلقاته الـ73!. ولئن أحتشد هذا
العمل التلفزيونيّ الذائع الصيت بشخصيات خيالية
تحديداً، فما الضَّير أن يكشف كوتا عن "عرشه" المكون
من "سيوف" تنبض بها الحياة، هي في الواقع سبعة روؤس
عظيمة الحجم لسبعة قضبان ذكوريَّة، تتراقص بهياج فاجر
وسوريالي بين فخذيه، وتحوّله جنّياً وافداً، يرفع
المُحرم ويرتكب الشَّهوة الخفية ولذاتها في أرياف
النورماندي البهيّة.
*****
اِستعار كريتون، ومعه مسؤول المونتاج فيليكس ريم،
أمارة خالصة بالسينما: الزَّمن، موظفاً عبره حالة
نادرة من تباعد سردي بين محيط وحيّز وشخصيَّات أربع
وحكاياتها ومفاهيمها وأزمانها. في مشهد افتتاحيّ سريع
نكون في التبت عبر لقطات فيديو سيئة التَّوضيب لجبال
جرداء، وفجأة ننتقل الى ريف ساحلي أوروبي مقنَّن بشاشة
عريضة، وصوَّت سيدة تقصّ "رؤيتها". المقارنة حتمية لكن
ما يجعلها غير سويَّة يكمن في أنَّ حجم لقطاتها
ونوعيَّتها وتركيبها لن تُفهم مغازيها إلَّا في مقاطع
متأخرة من الشريط، حين يصبح الرجل الآسيوي بمثابة
إشارة ضمنيَّة لـ"معضلة" مشاهد فيديو آخر، نعرف أنَّ
ألبرتو هو من بادر في صنعهما، قبل (وبعد) علاقته
الشاذة مع بيير جوزف التي تقود البطل تالياً، وهو في
منتصف عمره، الى عرين كوتا والاِنبهار بفالوس متعدد
الكَمَر.
نموذج آخر أكثر راديكاليَّة فيزيائيَّاً، هو ما ظهر في
مشهدين سحريَّين، نرى في الأول البطل مُشاركاً الفراش
مع خليله مينو (أوليفير شوفال)، ثمَّ ينهض عارياً
ويغادر الغرفة، ليدخل بغتة في مكان مختلف، ويرقد الى
جنب معلمه ويتدثر بشرشفه! في الثاني، نشاهد سريراً
واسعاً يضم كُلّ من المدرس وزميله مدير المشتل
والمتدرّب الشاب وهم راقدون عراة في ظهيرة صيف، قبل أن
ينهض الأخير ويترك المشهد الثابت، لكن على حين غرَّة
يعود رجل خمسينيّ ليستلقي في مكانه، وسيحتاج المشاهد
الى لقطات جديدة وصوَّت معلق، ليتنبه الى أنَّ الرجل
العائد لم يكن سوى البطل، وقد نالت منه شيخوخة لم تقض
على بلوى ميوله!.
هذا الأسلوب التَّدميريّ وقفزاته الزَّمنيَّة البتّارة
أثرا بشكل حاسم على الوصف البصريّ للفيلم الهجين،
مثلما شحناه بقدرة خفيَّة على كسر منولوغاته العديدة
التي شكلت بناءه الحكائيّ، ما جعله أقرب الى أحلام
مفتتة أو صورة/ زمن متشظية (في اِستعارة لفكرة جيل
دولوز). أنَّ حدس الأشياء حول كائنات كريتون، تصيبها
لعنة غموض شعري لا مكان فيه لسياسة أو محازبة
نيوليبراليين أو قوانين حشمة دينية ـ مجتمعية أو شرطة
أخلاق أو موظفين حكوميين عصابيين، بل وتمَّ إغفال أيّ
إشارة الى ملامح دولة عميقة ما، مثلما توارت أذرُع
سطواتها بشكل لافت واستفزازيّ. عليه، ففيلم "أمير"
غارق في أنانية سينمائيَّة ومكانيَّة، حولتا ذلك
الكُفر الرّيفيّ الأوروبي الى "كمونة مثليّين"، تحرسها
قوى لا مرئية، تضمَّن لهفة ذكورها الدَّائمة للباءَة،
كما هو حال دأبهم في حماية الأرض ومراقبة ما تُنْبِته
من حولهم. هؤلاء الذكرَان، جزء لا يمكن إنكاره أو محقه
أو شطبه من كون ينمو ويتزاحم ويتعادى ويتنافس ويتمايز
ويتفرَّق ويُشيطن... ورغم ذلك عليه الخضوع الى قداسات
تنظّم النزوات وتضبط محاورها وتعدّياتها، وما عليهم
سوى التمسك باِستدامة طبيعة يساكنون مكرماتها. |