"بطلتي مُجبرة على العمل بشكل متواصل وبلا مستقبل ولا
يقين، بشأن ما إذا كانت ستحصل على وظيفة في العام
المقبل أم لا. أعتقد أنَّ أحد الأمور التي أخطأت فيها
رومانيا، وما زالت ترتكبها، هو أنها بعد سقوط النظام
الشيوعي، تبنَّت نوعاً وحشيّاً من رأسماليَّة
نيوليبراليَّة لا يمكن السَّيطرة عليها مع عدم وجود
إمكانيَّة لتنمية اجتماعيَّة، بسبب ارتباطها أيضا
بالفساد السّياسي. كلما زاد فقرك، قلَّت الفرص المتاحة
لك. لم يكن من الضَّروري أن نصبح على هذا النَّحو. كان
من الممكن أن يكون لدينا سوق حرَّة ومجتمع أكثر
إنسانيَّة في الوقت نفسه".(رادو جوده ـ حديث مع موقع
"سينيورب"، 8 أغسطس 2023)
هنا نصّ جامح في هويَّته السينمائيَّة وبنيويتها
ومجازها. شريط مقالب بربريَّة، صاخب في أسلوبه
التَّجهيزي المجيد الذي يستدعى كُلّ أشكال التَّدفق
البصريّ. صرح فيلمي مُعقَّد يقوّض المشاهدة الكسولة،
ويحرّض بشراسة على فرجوية تفاعليَّة داعية الى
الاستنفار في وجه رياء سياسيّ، ومكر إمبرياليّ، وخديعة
أوروبيَّة، قادت بلاد ما بعد حقبة نيقولاي تشاوشيسكو
الى ارتكاب زلَّة تاريخية، حين أغوت زمرة "الناتو"
قادة بوخارست الجدد بوعود الأوربَّة ونعمائها، السُّوق
الحرة وغنائمها، البنتاغون وهداياه، "الدَّولرة"
ومياسرها، لتنتهي الجمهورية حسب جديد المخرج الروماني
الإشكاليّ رادو جوده "لا تتوقَّع الكثير من نهاية
العالم" ضحية سرقات بنوك أميركيَّة شرهة، ومؤامرات
شركات متعددة الجنسيَّات، اجتمعت على "خطف" مواردها
بالمراوغة أو بالقهر، فيما تحولت مقاطعاتها الزراعيَّة
وغاباتها الى قواعد متقدمة ضدَّ العدوّ الشرقي،
وإنسانها الى "عبد حداثي" للـ"شُوبنْغ" وصيد فرص العمل
والسُّخْرة!. قد يبدو هذا الكلام عموميَّاً وغير منصف،
بيد أنَّ الدقائق الـ163 طول هذا الشريط الهجوميّ
النَّزعة، تعوم على بحر متلاطم من الاتهامات
السياسيَّة بشأن غرق رومانيا في عنصريَّتها وفتنتها
المتأصّلة بديكتاتوريَّات مخفية، وولعها المبطن
بالانتهازيَّة والحيل والمداهنات والعرقيَّة واللا
ضمير العقائديّ, ومثلها كَلِفها بـ"البقرطة" كوسيلة
اقتصاديَّة جماعية لإخْفَاء الفساد والإقصاء المتعمَّد
للشغيلة، وإنكار طبقتهم وحقوقها.
******
هذان عيبان أخلاقيَّان، يضعهما صاحب "مُضاجعة مَنحُوسة
أو بورنو مَسعُور" (أقرأ نصنا حول هذا العمل الفائز
بجائزة الدُّبّ الذَّهب في مهرجان برلين، "سينماتك"، 7
مارس2021) كهداية أيديولوجيَّة لفيلم شجاع وناري
بامتياز ضدَّ دولة رخوة، تقود شؤونها مجموعة أشرار
مجانين ومتزلّفين فاسدين وجهلة إدارات. لن يُدخل
المخرج جوده مشاهده في أروقة حكوميَّة أو مكاتب شركات
مرفهة، بل يُرْغِمه على جيلان محموم وعصابيّ وقلق في
شوارع وأحياء وشقق وضيعة لبشر نال منهم عسف اجتماعيّ
وحشي وعدائيّ وقهري، ما جعلهم أشبه بكتل من بؤس حيّ،
تنوح وتشكو وتندب حظَّ مواطنتها في دولة، تتناسى عن
عمد تضحياتهم خلال حقبة مشؤومة.
هؤلاء أضاحي عهد شراكات أوروبيَّة كاسحة، تنظر لهم
كتوابع وعمالة رخيصة، عليهم تطبيق اشتراطات بروكسل كي
يدخلوا جنَّة "معاهدة شنغن". من هنا، يستدعي نصّ "لا
تتوقَّع..." مذلَّتي عالة الفرد الرومانيّ وحطّه
الشخصي كمقاربتين استفزازيَّتين لحالة عامَّة ضاغطة
بعوزها، تُحاصر مواطنها بوفرة إعلانات تبضّع وتسفير
عملاقة، تبتهج برفاهية كاذبة، وتغطي بصلف على تردّي
أحواله، وتفكُّك أواصره، وانتهاك عدالة معيشته التي
تتفجَّر بألم عميق في مشهد ختاميّ طويل لعائلة، تسرد
تفاصيل تعرُّض ابنها الوحيد الى غبن واستغلال، أنجزه
مدير التصوير ماريوس باندارو بلقطة واحدة ثابتة، في
إشارة الى أنَّ المهانة لن تتزعزع، ولن ترحم.
******
تحرق هذه المهانة مشاهدها، وتجبّره على الشَّراكه
فيها، حين يلتقي بطلة الفيلم أنجيلا (أداء متفجر من
إيلينكا مانولاكي) التي يبني المخرج جوده (1977)
تركيزه الدراميّ حول سفرها الدَّائم وشكواها من قلَّة
النوم والإرهاق والمضايقات اليوميَّة التي تتعرَّض لها
من سائقين متهوّرين في شوارع همجيَّة. تسعى مساعدة
الإنتاج الشابة الى تنفيذ أوامر رئيسها في شركة صناعة
أفلام وفيديوهات محليَّة، و"اصطياد" ضحايا حوادث عمل
لسرد تفاصيل إستهاناتهم في ارتداء الخوذ أو معدات
الأمان، واستخدامهم لـ"ترديد" نصائح حول اتّباع قوانين
السَّلامة التي تفرضها المجموعة الأوروبيَّة عبر عمولة
شركة نمساويَّة "لا تريد دعاية بل استعراض الرعاية
التي تقدمها الى عمالها، وجعلهم على دراية بالأخطار!".
هي، وجه أخر وعملي وديناميكيّ لفكرة عبوديَّة فرص
العمل الشَّحيحة، مع إصرار على قولها: "سأبقى امرأة
حرَّة". ليس أمامها سوى الانصياع والتَّجوال بلا
توقّف أو تفرّغ طوال يوم كامل (المساحة الزَّمنيَّة
للأحداث) كي لا تفقد منصبها، مستخدمة هاتفها الخليويّ
للتَّواصل مع "زبائنها"، وعقد صفقات سريعة معهم،
وتنظيم جلسات أداء ميدانيَّة وعفوية، لاختيار الأكثر
إعاقة عمل منهم مقابل 500 يورو!. لهذه المرأة عواطفها
الخاصة لكنها ليس في وارد التَّعاطف مع الضحايا، أو
على الأقل إنَّ زمن الكشف عن إنسانيَّتها لم يحن بعد.
في كُلّ جلسة تتحوَّل أنجيلا الى ضابطة زوايا،
ومنسَّقة مناظر وخلفيَّات، وخبيرة إلقاء جمل ونبرات:
"أوَّلاً عليك أن تعرّف عن نفسك، ثم تحكي قصَّتك،
وأخيرا كيف حدث مصابك". تبدو وكأنها مرجل مركّب من
مفاصل متعددة، تعمل على تحقيق أغراض منفصلة لا علاقة
لها بحياتها الخاصَّة. أنجيلا التي ترتدي ثوباً قصيراً
مغطى بالترتر، ما يجعلها تبدو أقرب الى طلَّة راقصة
ديسكو منها موظفة شركة إعلاميَّة، قِنْ للشَّارع
وازدحاماته ومنغّصاته وعداواته. تبدو كعابر سبيل، بيد
أنها في الواقع جزء من تكوينه الشعبي. تستخدم لغة
شوارعيَّة صرفة رغم إنَّنا نلمح نسختين من رواية "توم
جونز" (1749) للإنكليزي هنري فيلدنغ، و"البحث عن الزمن
المفقود" (1913 ـ 1927) لمارسيل بروست قرب مخدَّتها.
تردّ على الشَّتائم بأقذع منها. ترفع أصبعها الوسطى كي
تفحّم رجلاً مبتذلاً، ومع ذلك تنوء كرامتها تحت ثقل
واجب لا نهاية له. لا تحيد عنه إنَّما تتذمَّر من
بختها.
****** |