مخرجو المسابقة الرّسميَّة، التي ترأس صاحبة "باربي"
للأميركية غريتا غرويغ لجنة تحكيمها (من بينهم
اللبنانية نادين لبكي) في الغالب مستقلّون. يشيع
تجمهرهم روحاً حماسية الى إن نادي النخبة آخذ في
التَّداعي كفلسفة تنظيم، وبنية اختيارات. لا ريب أن
"كانّ" يستخدم منصَّاته، خصوصا سوق الفيلم الى جعل
المنتجع الفرنسي الهاديء، الذي سيشهد كالعادة حملة
أمنية مشددة تحسّباً ـ ربما ـ لتظاهرات احتجاج ضد
جرائم الإبادة في غزة، صُرَّة توزيعيَّة لا تُنافس،
ونوع من الفجوة الإداريَّة بينه والمهرجانات
الأوروبيَّة الأخرى، وبالذات منافسه المتضخم في جزيرة
ليدو فينيسيا.
صحيح أنَّ الثلاثي كوبولا (83 عاماً) وشريدر (77
عاماً) وكورنينبرغ (81 عاماً) لم يعودوا شباباً، إلا
أن أشرطتهم المشاركة هي خارج الفم الهوليوودي، ما
يجعلهم قوَّة مستقلَّة ومنافسة. لعلَّ فيلم
"ميغالوبولس" (138 د) المكتوب والمنجز من قبل صاحب
"العرَّاب" الأكثر إستقطابا للاهتمام. بعد سنوات طويلة
من الانكفاء منذ العام 2011، يعود الحائز على سعفتين
ذهبيَّتين عن "المحادثة" (1974) و"أبوكالبيس ناو"
(1979)، بنصّ فلسفي ملحمي وبرؤية تحامليَّة على خرابنا
الإنساني. مستعيراً روح النَّباهة الرومانية القديمة
التي نظَّرَت الى مفاهيم الفناء والتَّحوُّل والقيامات
وتلك اللَّحظة الإنسانيَّة العصية على الإنقلاب.
يشيد الفيلم عالماً تصادميَّاً بين إرادات ليس في
حساباتها كلمة هزيمة. حكاية أميركا الحديثة
والمتخيَّلة، وهي تنازع بعثها من جديد (تصوير ميهاي
ماليماري الابن، المعروف بمنجزه البصريّ الرائع في
شريط الأميركي بول توماس أندرسن "المعلّم") . روما
الحديثة يجب أن تتغيَّر وأن يعاد عمرانها باعتبارها
مدينة فاضلة مستدامة "ممَّا يتسبَّب في صراع بين سيزار
كاتيلينا (آدم درايفر)، الفنان العبقريّ والمهندس
المعماريّ الطَّموح الذي يسعى للقفز إلى مستقبل طوباوي
ومثاليّ، وبين غريمه العمدة فرانكلين شيشرون
(جيانكارلو إسبوزيتو)، الذي يبقى ملتزماً بالوضع
الراهن المهادن والنكوصي، الذي يديم الجشع والمصالح
الخاصَّة والحروب المتحزبة. بينهما، تقف الشابة جوليا
شيشرون (الممثلة نَتالي إيمانويل) اِبنة العمدة، ممزقة
الولاءات بسبب حبها الى سيزار وسأمها من هوس القوة
والهيمنة، الأمر الذي يحرضها على البحث عن معنى
لحياتها، واكتشاف ما تعتقد حقّاً أنَّ الإنسانية
تستأهله". وصف درايفر الفيلم بأنه "جامح وملحمة جريئة.
كونها تنطوي على مخاطرة"، أما الكلمتان الوحيدتان
اللَّتان تفوه بهما مخرج "مالكوم أكس" (1992) سبايك لي
بعد أن شاهد 30 دقيقة من الفيلم كانتا: "يا إلهي...
مذهل!".
أمَّا بول شريدر الذي عانى من تهديدات صحية، جعلت من
تحرُّكاته عملية صعبة، فيستكمل ثلاثيته المستلهمة من
رؤى المعلم الفرنسيّ روبير بريسون التي بدأها بـ"
إصحاح أول" (2018)، ثم "عداد ورق القمار" (2021)،
وأخيراً "خبير البستنة" (2023)، بإقتباس حُرّ ومحكم
لرواية الكاتب الراحل راسل بانكس "السالف" (2021) تحت
عنوان حزين هو "أواه، كندا"(91 د)، يؤدي فيه الممثل
ريتشارد غير دور الكاتب اليساريّ المعذب ومخرج الأفلام
الوثائقيَّة ليونارد فايف اللاجىء الى كندا هرباً من
التَّجنيد، ورفضاً لحرب فيتنام. يختار شريدر تلك
اللَّحظة الإستبطانيَّة والوجوديَّة في حياة بطله، وهو
"يصارع مرض السَّرطان في مونتريال في خواتيم حياته،
موافقاً على إجراء مقابلة أخيرة. عازماً على الكشف عن
أسراره التي طال كتمانها، وإزالة الغموض عن حياته
الأسطوريَّة. يتكشَّف اِعتراف فايف الصادم وسط حضور
زوجته إيما (أوما ثورمن)، وطالبه السَّابق المخلص
مالكولم ماكلويد، وفريق من صانعي الأفلام الذين
يلتقطون هذه اللحظة العميقة". قال شريدر، الذي تحسنت
حالته الجسديّة بشكل ملحوظ منذ العام الماضي، في
مقابلة صحافية مؤخراً: "لقد صنعت الآن فيلمي عن مواجهة
الموت. أنا الآن مستعد للانتقال إلى أمور أخرى".
أما مخرج "الذبابة" (1986)، و"اصطدام" (1996) و"تاريخ
العنف" (2005) الكندي ديفيد كرونينبِرغ ، فحافظ على
أسلوبيته الفنطازيَّة وإستفزازياته السينمائيَّة عبر
"الأكفان" (119 د) الذي إعتبره الفيلم الأكثر شخصياً
في صنعته، ويلعب فيه الفرنسي فَنْسُن كَسيل دور رجل
أعمال مبتكر وأرمل مكلوم يُدعى كارش، يخترع ويصنع
جهازاً مبتكراً لمساعدة الأشخاص على التَّواصل مع
موتاهم.
*****
هناك مخرجون مميزون آخرون، في مقدّمتهم الإيطالي باولو
سورينتينو الحائز على أوسكار أفضل فيلم عن "الجمال
العظيم" (2014)، ويتنافس بعمله العاشر "بارتينوبي" وهي
امرأة تحمل اِسم مدينتها، على حدّ تعبيره الى مطبوعة
"فارايتي" السينمائية الأميركية المتخصصة، "لكنها ليست
حوريَّة أو شخصية أسطورية". يصوّر الفيلم مسار البطلة
منذ ولادتها عام 1950 حتى يومنا هذا، برفقة شَّخصيات
متنوعة المشارب والأصول والنوايا، على خلفية المدينة
الأصلية التي ولد فيها المخرج، "تلك الحاضرة المتوسطية
القادرة على إطلاق السحر أوالتَّسبب في أذى بشرها في
آن".
بعد ثلاث مشاركات سابقة في "كانّ" عبر "ناب" (2009)
و"جراد البحر" (2015) و"قتل الآيل المقدس" (2017)،
يعود الإغريقي يورغوس لانثيموس مع "أنواع اللُّطف"
(164 د) مع إيما ستون وجيسي بليمونز وويليم دافو وهونج
تشاو ومارغريت كوالي. حكاية ملحمية ثلاثيَّة المقاطع،
تتتبع "رجلاً بلا خيار يحاول السَّيطرة على حياته،
وشرطي يشعر بالقلق من عودة زوجته المفقودة في البحر
وظهورها ككائن مختلف، وامرأة مصممة على العثور على شخص
محدَّد يتمتع بقدرة خاصة، مَقْضيّ له أن يُصبح زعيماً
روحيّاً مُذهلاً".
الفرنسي جاك أوديار الحائز على السَّعفة الذهب عن
فيلمه "ديبان" (2015)، يمتحن حظوظه ثانية مع "إميليا
بيريز" الذي تدور أحداثه في المكسيك اليوم حيث تعيش
المحامية الشابة ريتا، التي تتمتَّع بمؤهلات كبيرة،
تهدرها في عمل لدى شركة محاماة كبرى، متورطة بعمليات
تبييض أموال عصابات إجراميَّة، أكثر من خدمة العدالة.
فجأة، يُطرح عرض نادر وغير متوقَّع لا يمكن أن ترفضه،
والمتمثل بمساعدة رئيس كارتل عنيف وشديد المراس يدعى
خوان "ليتل هاندز" ديل مونتي - المعروف أيضاً باسم
مانيتاس - على ترتيب خطوات تقاعده من عمله والاختفاء
إلى الأبد، بيد أنَّ لدى الرجل خُطَّة قام بترتيبها
سراً على مدى سنوات: أن يُصبح، أخيراً، المرأة التي
طالما حلم أن يكونها... مظهراً وأنوثة وسلوكاً وشهوة!.
على المنوال ذاته ولكن بنفس تهكمي ساطع، يعرض مواطنه
كريستوف أونوريه في"مارشيلو خاصتي" (أو "مارشيلوي")
اِضطراب حياة الممثلة الحقيقيَّة كيارا ـ اِبنة الممثل
الإيطالي القدير الراحل مارشيلو ماستروياني والفرنسية
كاترين دونوف ـ ذات صيف، لتقرّر فجأة "أن تتلبَّس
شخصية والدها، فترتدي ملابسه، وتتحدَّث مثله، وتتنفَّس
مثله، وهي تفعل ذلك بجدية خاطفة للإهتمام الى درجة
أنَّ الآخرين من حولها يصدّقون ذلك في نهاية المطاف،
ويشرعون في تسميتها مارشيلو"!. (هناك مشاركتان
فرنسيتان لجيل لولوش " قلوب نابضة"، والأخرى لأغاث
ريدنير "الماس الخام").
هناك سيرة دراميَّة أخرى ذات طابع هجائي وفضائحي،
حقَّقها الإيراني المقيم في الدنمارك علي عباسي حول
الرئيس الخامس والأربعين، والمرشَّح الحالي في
الانتخابات الرئاسيَّة الأميركيَّة دونالد ترامب
(الممثل سبَستيان ستان)، مركزاً في "المتدرب"، وهو
عنوان مستوحى من اِسم برنامج شهير لتلفزيون الواقع
إستضافه ترامب لسنوات، على الحقبة الأولى لصعوده
المهني خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي،
وتحقيقه ثروات طائلة. يسرد الفيلم، بشكل أساسي، تفاصيل
صفقة فاوستيَّة بين ترامب ومعلمه الشُّوفينيّ روي كوهن
المدعي العام في نيويورك (إداء جيرمي سترونغ) ،
المعروف بالتَّعاون والعمل مع السيناتور السيء الصّيت
جوزيف مكارثي خلال فترة ما يُعرف بـ"الرُّعب الأحمر
الثاني". قيل عن جديد مخرج "حدود" (2018)، و"العنكبوت
المقدس" (2022) أنه "مسرد سينمائيّ يُوثق بداية سُلالة
أميركيَّة مهووسة بالسّلطة والفساد والخداع". (هناك
أيضاً مشاركة لها وقع خاص للإيراني محمد رسول أف "بذور
التين المقدس" الذي بقيت قصته وتفاصيلها طيّ الكتمان
حتى كتابة هذه السطور).
*****
من العناوين الأخرى نذكر بعجالة شريط البرازيليّ
الجزائريّ الأصل كريم عينوز "فندق ديستينو" (112 د)،
حكاية فندق جنسي يديره رجل فظ، تقع زوجته بحبّ شاب
هارب من الشرطة وعصابة تلاحقه، ويبحث عن ملاذ، قبل أن
تتشابك الولاءات والرَّغبات والعنف بين الجميع. بينما
يذهب "جولة كبرى" (129 د) للبرتغالي الموهوب ميغيل
غوميز الى رانغون في بورما عام 1917, ليسرد محنة موظف
حكوميّ في الإمبراطوريَّة البريطانيَّة، يهرب من
خطيبته في يوم وصولها للزَّواج. "أثناء أسفاره، يفسح
الذعر المجال لكآبته. متأمّلاً في فراغ وجوده، يتساءل
إدوارد الجبان عمَّا حدث لمولي التي تتبع بدورها أثره
في جولة آسيويَّة كبرى".
يرصد "الفتاة ذات الحُقنة الطبيَّة" (120 د) للسويدي
ماغنوس فون هورن، علاقة غريبة بين عاملة مصنع شابَّة
حامل وامرأة غامضة تدير وكالة تبنّي سرّية، تساعد
أمَّهات معدمات في وضع أطفالهن حديثي الولادة وغير
المرغوب فيهم في دور حضانة في كوبنهاغن بعد الحرب
العالمية الأولى. تنخرط الشابة في العمل معها كممرضة
من أجل العثور على الحب والدفق الأخلاقي.
تتجلَّى المحنة العائليَّة بقوة في شريط البريطانية
أندريا أرنولد "بيرد"، وهو اِسم شخصية تقود عائلة
فقيرة في شمال مقاطعة كنت. بينما يختار الصيني جيا
جانغ ـ كي في "بين مدّ وجزَّ" قصَّة حب هشّة بين
الشابين جوا بين و كياو كياو. حين يختفي الأول، ليجرب
حظَّه في الحصول على فرصة عمل في مقاطعة أخرى، تقرر
الحبيبة البحث عنه مهما كَّلف الأمر. قيل عن الفيلم
"من خلال متابعة المصير الرومانسيّ لبطلته طوال
حياتها، يقدّم لنا مخرج "الجبال تتحرك" (2015) و"لمسة
الخطيئة" (2013) "ملحمة سينمائيَّة فريدة، تغطي جميع
أفلامه و25 عاماً من تاريخ بلد في خضم التَّغيير".
في "ليمونوف. أنشودة" للروسيّ كيريل سيريبرينيكوف
اِحتفاء سينمائيّ بشاعر شاب ثوري ورحلته الديناميكية
عبر شوارع موسكو الصاخبة الى ناطحات سحاب نيويورك
منفيّاً، من أزقة باريس صعلوكاُ إلى قلب سجون سيبيريا
معتقلاُ خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
أمَّا الهندية الموهوبة بايال كاباديا، فتشارك للمرَّة
الأولى في المسابقة الرسمية بعملها الروائي "كُلَّ ما
نتخيله كالضوء" (115 د) حول ممرضة في مومباي، تتلقَّى
هدية غير متوقعة من زوجها المنفصل عنها، الأمر الذي
يقلب حياتها رأساً على عقب، ما يدفعها الى القيام
برحلة بريَّة إلى بلدة ساحلية حيث تتحقَّق أحلامها
داخل غابة غامضة. أخيراً، يدخل الرومانيّ إيمانويل
بارفو في "ثلاثة كيلومترات الى أقاصي العالم" (104 د)
تاريخ "كانّ" للمرَّة الأولى عبر أنشودة حزينة عن يافع
مثلي يعاني من عسف الجميع في قرية تحرسها دلتا
الدانوب. |