حتى فيروس "كوفيد 19" لم يفلح في قتل إنسانيتنا. كان
العامان العسيران على التحمل للجائحة أقرب الى رهان
معقد ومنهك ومخرب، مس علاقات البشرية جمعاء. جعلها
متوجسة وأنانية وجشعة للبقاء على الحياة، وعلمها
فنوناً لمخاتلة الموت، لإن الإنتصار عليه كان لعبة
كونية لم تكن في صالح مغدورين كثر. شريط بارينته مفعم
بفطنة سينمائية ورؤية متمهلة لتداعيات تلك المحنة
المريرة. حكايته البسيطة لن تكون متأخرة أو بالية،على
إعتبار أن الجائحة ولت، ذلك أن الفقدان لا زمن له،
وليست له هوية مزورة. من هنا يربط هذا الشريط بحكمة
بين السينما كفعل تحريضي يوكد على أن النوائب البشرية،
من حروب وحتى الجوائح لن تنتهي أبداً، وبين إنتماءاتنا
كوحدة ضمير، تجبرنا على إيجاد حصانة دائمة وقوية
وأصيلة لعواطفنا ومروءاتنا. هذه الأخيرة هي ما يبحث
عنها مخرج الافلام التجريبية الشاب ديفيد (لوكس
ليميرا) العائد الى مسقط رأسه في البرازيل، بعد غياب
عشر سنوات من العيش والعمل في لشبونة، لعرض فيلمه
الأول ضمن فعاليات مهرجان سينمائي محلي، ليجد نفسه
"سجين كوفيد" وإغلاقاته التي تدمر خططه، وتقوده الى
عتبة دار والده (كارلوس فرانسيسكو) الذي لم يره طوال
تلك السنوات، وتحقيق مصالحة واجبة، وإن كانت عبثية
وغير متكافئة، مع أب كاتب يعيش عزلة لن تمنعه من إسداء
نصائح الى قرائه، تهديهم الى دروب صحيحة لنيل نخوات
آخرين وموداتهم. يحاصر الوباء الابن ووالده في مأوى
ضيق، سرعان ما يتحول الى ساحة عداء من رجل عجوز حريص
على خصوصياته، ضد شاب يفتقد بشدة حنوه. يصبح "كوفيد"
شخصية ثالثة تغير تفكير الناس وتصرفاتهم, بيد أن
للسينما سحرها النقي الذي تقلب مزاج الأب الحرون، حين
يطلب مشاهدة فيلم ابنه.عندها يشعّ وجهه بنور غريب
مدركاً، عبر صور سوريالية الطابع لرجل عجوز يحاول
مراوغة موته، إن نهايته أصبحت أقرب مما يظن, ويتم
تعميد خاتمته لاحقاً بصوت ابنه، وهو يقول عند مثواه:
"أي درب غريب قادني اليك يا أبي؟". شريط بارينته (84
د) شبابي وديناميكي وطازج، يعتمد على روح شعرية باذخة
الألوان، ودقيقة في توازناتها البصرية (إنجاز لافت من
مدير التصوير لينجا إيكاسيو) . نال أربع جوائز في
مهرجان "ترايبكا" السينمائي في نيويورك، منها جائزة
أفضل فيلم روائي.
*****
جوتو بارينته
Guto Parente
صانع أفلام مستقل، ولد في مدينة فورتاليزا البرازيلية
عام 1983. درس السينما في "إسكولا بي أومبليكا دي
فورتاليزا". كان عضواً في "ألومبرامينتو"، وهي مؤسسة
فنية جماعية تضم فنانين محليين من كل المشارب حتى عام
2016، قبل أن يشارك لاحقا في تأسيس شركة "تاردو فيلمز"
التي أنتجت شريطه "درب غريب". قدم العديد من الأفلام
القصيرة، من بينها "تقاطع"(2007), و"جوال أزرق"
(2009)، و"الطريق إلى إيثاكا" (2010)، و"يقال أن
الكلاب ترى الأشياء" (2013)، ليكرس جهوده الفنية
لاحقاً في إخراج أشرطته الطويلة مثل: "أميانتو اللطيف"
(2013)، و"الموت الغامض لبرولا" (2014)، و"الجحيم
الخاص بي" (2018), و"نادي آكلي لحوم البشر" (2018).
*****
"ولا حتى كلمة واحدة" للسلوفينية هانا
شلاك... ضد الضنى والجفو
Not a Word
(Kein
Wort)
دراما عائلية مفعمة بقسوة مبطنة، تستكشف فروقاً حساسة
في علاقة أم وابنها، حين يصبح هذا الأخير ضحية شكوكها
في تورطه ـ بشكل أو أخر ـ بموت زميلة له في المدرسة.
يتعاظم هذا الخط العام في محتواه النفسي مع مقاربة
مفهوم الإلتزام الشخصي للوالدين، وعواقب صمت يحيط
بحادث عنيف. نينا بلاتشك موسيقية ذائعة الصيت، وتقود
أوركسترا برلين الفيلهارمونية، تستعد الى تقديم
السمفونية الخامسة للموسيقار النمسوي جوستاف ماهلر
(1860 ـ 1911). خلال التدريبات يتم اعلامها بإصابة
ابنها بعد حادث سقوط مزعوم من نافذة قسمه الدراسي،
إدعى إنه في صدد إصلاحها. بين فاجعة موت الصبية الغامض
وتنمر الفتى، تُزيح نينا إلتزامها المهني جانباً،
وتسافر معه الى بيت العائلة البحري في جزيرة نائية.
وسط طبيعة خلاقة وصمت رباني مجيد، يأخذ سوء الفهم
بينهما سبيلاً غليظاً، يحول علاقاتهما الى منابزة في
المهانة والتسلط والضيق والجَهَامَة الفردية. تجعل
المخرجة شلاك من الفضاء الوحشي وعواصفه وهيجان أمواج
بحره، وبتصوير فذ من الفرنسية كلير ماتون (لها
"سبنسر"، 2021 و"صورة سيدة تشتعل فيها النيران"، 2019)
حاضنة مرئية بألوان كابية لحالة إنفصام يعاني منها
الصبي، بسبب عدم تصالحه الداخلي مع طلاق والديه، ما
يُفشل محاولات نينا في رأب الصدع الأخلاقي في دواخله،
أو معها كقيمة أمومية وتربوية. يبدو لارس في عزلته
أقرب الى كائن ميت، لذا سيكون لزاماً عليه أن يمر
بتطهير ذي قسوة، يوجهه بقصد ولؤم الى كيان إنثوي أعطاه
الحياة. هذه المفارقة الحسية تجد صداها الصوتي وبتصميم
متداخل في سمفونية ماهلر التي ألفها بعد موت أطفاله
الستة بأمراض أستعصت وقتذاك على علاج وشفاء، حيث يتم
تقطيع فصول منها وجعلها خلفية لكل فقرة تأزم بين نينا
(إداء قوي من مارين أيجيرت الحائزة على جائزة أفضل
تمثيل في مهرجان برلين السينمائي عن دورها في فيلم
"أنا رجلك"،2021) ولارس، وكأنها دعوات موسيقية الى
تحقيق معافاة وعزاء وإنعتاق من عذابات صدام دائم وجارح
ومهين، وهي أفعال إنسانية لم يتجاوزها ماهلر نفسه إلا
عبر نوتات غاضبة، تجعل مشاهد "ولا حتى كلمة واحدة" (87
د) يعي أن هذا العنوان الحصيف، يمثل تحريضاً ضد الضنى
والجفو والخصومة.
*****
هانا شلاك
Hanna Slak
مخرجة سينمائية وفنانة وسائط متعددة ومؤلفة من أصول
سلوفينية، إذ إن والدها هو المخرج السينمائي والناشط
السياسي المعروف فرانسي شلاك. ولدت في وارسو (1975)،
وتقيم حالياً في برلين، ألمانيا. درست الأدب المقارن
ومن ثم السينما في أكاديمية السينما التابعة لجامعة
ليوبليانا، سلوفينيا. عملت كمساعد مخرج ومسجل صوت
ومشغل كاميرا على أفلام طلاب وكذلك في أشرطة وثائقية
وروائية قصيرة وإعلانات فيديو، قبل أن تخرج أول
أعمالها الروائية "حياة مزدوجة" (2000)، والذي تبعته
بنص "بقعة عمياء" (2002) وكلاهما عن فواجع الإدمان على
المخدرات. رُشح شريطها "عامل المنجم"(2011) الى جوائز
الأوسكار الأميركية، كما هو حال فيلمها الرابع "ولا
حتى كلمة واحدة" الذي تم ترشيحه باسم سلوفينيا.
*****
"ليلة مظلمة - وداعاً هنا، في أيّ مكان" للفرنسي
سيلفان جورج...
ملائكة المدائن المحتلة
Obscure night -goodbye here, anywhere
(Nuit
obscure – au revoir ici, n’importe où)
على منوال شريطه السجالي "لينعموا بثورة ـ أرقام
الحروب"
(2007 ـ 2010) حيث
عايش يوميات ظلم يومي وإقصاء مجتمعي وعداء حكومي
متنام، لجحافل من مهاجرين ذكور من أفريقيا، يتكدسون في
ميناء كاليه، مواجهين موجات جوع وخوف وغضب، بلغت
ذروتها في تدمير المخيم من قبل قوات الشرطة الفرنسية
لاحقا. يراهن المخرج الفرنسي الشاب على بقعة أخرى في
"ليلة مظلمة" (183 د)، يحياها يافعون وهم يخططون بلا
كلل في اختراق الحدود و"حرق" البحر. إنها مليلية،
الجيب الكولونيالي الإسباني على أرض المغرب. المدينة
المحتلة التي تحولت الى خط فاصل ما بين آمال العبور
لشبيبة مغربية، يحلمون في نيل حصتهم من رفاهية
أوروبية، وبين قوانين هجرة هي سلاح عنصري غادر لوقف
غرباء من "تدنيس" أرض أحلامهم. شريط وثائقي تراكمي لا
يخشى زمنه الطويل (3 ساعات و3 دقائق)، ويزخر بفصول
قصيرة مصورة بالأبيض والأسود، تتابع جيلانات يافعين،
يرصدون المدينة الساحلية، ويناورن الشرطة من أجل عبور
أسوار حديدية، تُحصِن جغرافيا الميناء وسفنه، وتمنعهم
من "الحرقة" نحو الطرف الأخر من المتوسط. لن يلتفت
الشريط الى حكاية معينة، إنما يرافق الزمرة ـ وكأنهم
عائلة صغيرة يحملون اسماء مختزلة هي أمين س.، إبراهيم
ف.، حسن م.، حمزة س.، هشام د.، مالك ب.، مهدي هـ.،
أسامة إ.، ريد أ. ب.، صلاح ز ـ في ألعابهم وشقاواتهم
ومناماتهم وبحثهم عن الأكل أو أماكن بياتهم الليلي. هم
أولاد مليلية اليتامى حيث السلطات الإسبانية التي
تنعتهم بـ"أراجا"(مَنْ يحرقون بطاقات هوياتهم الخاصة)،
ترغمهم بشكل غير مباشر على التشبه بكائنات ليلية تسيطر
على المدينة، وهم عالقون بين سوء معاملة ولا انتماء
وقسوة وعزلة وعنف ومهانة. نسمعهم يغنون عن مكناس وفاس،
فيما هم سجناء اللا مكان العامر بنصب وتماثيل وأيقونات
تمجد رموز استعمارية. بقعة لا تسمح لهم بوداع نهائي
سوى الموت، الغريب إنهم لا يشكون ولا يتحدثون عن
ماضيهم، بل يسردون مغامرات وخططاً وأحلاماً، ويمارسون
نشاطاتهم بروح تكافلية، مسبقين روح الصداقات بينهم.
يقول سيلفان جورج إنه "لم يرد تصوير شهادات دامعة" عن
فتيان ينكرهم القانون والأهل والحظوظ، ولا يبقى لهم
سوى حسرات كثيرة ومؤلمة. مضيفاً: "لم أكن أصنع فيلماً
عنهم. كانت الفكرة هي اكتشاف هذا الواقع معهم. اتُهمت
بصنع فيلم عن الأطفال "المتوحشين "، لكن النظام
والماضي الاستعماري لهذه المدينة هو الذي وضعهم في هذا
الموقف، وليس أنا".
*****
سيلفان جورج
Sylvain George
مخرج ومؤلف سينمائي فرنسي متعدد الكفاءات. ولد في
مدينة ليون (1968). متأهل في الفلسفة والقانون والعلوم
السياسية، ودرس السينما في جامعة السوربون. منذ عام
2006، أنجز أفلاماً وثائقية حول الهجرة والحركات
الاجتماعية واللجوء والتمييز. تعاون مع عدد كبير من
الفنانين المنخرطين في شؤون الفن والسياسة أمثال أرتشي
شيب، ويليام باركر، أوكيونغ لي وغيرهم. تم تكريم
أعماله على نطاق واسع ببرامج خاصة في "السينماتيك
الفرنسي"(2008)، و"السينماتيك السلوفاني" (2011)،
و"مهرجان بينتو دي فيستا للسينما الوثائقية" (2012)،
و"ميد فيستفيل روما" (2013)، و"مهرجان فورم دوك"
(2017)، إضافة الى مهرجانات في المانيا وإيطاليا
والبيرو وكولومبيا وبلغاريا. يدرس حاليا في "معهد
الدراسات السياسية" (أي إي بي) ـ باريس، وينظم ورش عمل
في مؤسسات أوروبية مرموقة. من أعماله "المستحيل ـ قطعة
غضب" (2009)، "الإنفجارات" (2011)، "باريس وليمة
متحركة"(2017).