وجد "كانّ" في المنصة دفقاً لا يضاهى من الدعاية،
وبجهود فئة عمرية شديدة النشاط على هذا التطبيق
الدولي، والتي ستغطي فعاليات الأيام الـ12، لكن
صدياتها تبقى في تعاظم الى فترة أطول لاحقة، وتستهدف
في الوقت نفسه قطاعات جديدة من المهتمين بإخبارها.
"تيك توك" ليست وحيدة في ما يخص الخط الإعلامي،
فللمهرجان شراكتان مع كل من كارتل "تلفزيونات فرنسا"
والمؤسسة الأعلامية الجديدة "بروت" (وهي تميل أيضا الى
مخاطبة الشببية) اللتين تحلان مكان شركة "كنال بلوس".
الموكد، أن الصينيين سيغيبون عن الكروازيت بسبب كوفيد
العائد الى الواجهة محلياً، ومثلهم الكثير من
الأسيويين، الأمر الذي سيجعل من سوق الفيلم النافذ أقل
ألقاً وأضعف حضوراً (جيروم بيلارد مديره أعلن عن
إستقالته في وقت سابق)، فيما يتداول الأميركيون أمر
حضور "كتائبهم" الى الكروازيت، مع ميل غير معلن على
إبقاء سياسة المخاطبة عن بعد، أو تكليف أعداد حصرية من
مدراء تنفيذيين بصلاحيات واسعة لإتمام الصفقات.
إذن، هل "كانّ" بخير؟. هل المراهنة على مسابقة تزخر
بمخرجين شباب هي خلاص مرحلي، يدوار به فريمو
إستمراريته، قبل قرار متوقع من وزير الثقافة الفرنسي
في الحكومة الجديدة يحدد فيه مستقبل "القيصر" أو
إزاحته بعد 21 عاماً من صناعة القرار؟.
في كل الأحوال، فإن الرقم 75 له وقع خاص ليس لـ"كانّ"
وحسب بل للضمير السينمائي العالمي، الذي يتحصّن داخل
تواريخ المهرجانات الأوروبية الثلاث الكبرى (كانّ
وفينيسيا وبرلين) لإبقاء جذوة الفن السابع متوقدة
وديناميكية ومتجدّدة في عالم يشهد إنقلابات إستراتيجية
مهولة وشديدة الخطورة، ذات أبعاد جيوـ سياسية تنذر
بخراب إقتصادي عارم وعام، نعيش هذه الأيام بوادره في
نقص الغذاء والإرتفاع المجنون لأكلاف الحياة اليومية
لملايين البشر.
تبقى السينما وأشرطتها وحكاياتها ومغازيها خيارنا
الأمثل للإحتفاء بإنسانيتنا وقدرتنا على مواجهة محن،
مهما قست تداعياتها.
أفلام المسابقة الرسمية للدورة الـ75 ذات وهج شبابي
وزهو طليعي سيشعّ على شاشات المنتجع الفرنسي، ويجعل من
قرار لجنة تحكيمها برئاسة الممثل الفرنسي الموهوب
فنسان ليندون في منح السعفة الذهب لجيل حداثي أقرب الى
إعلان نبوة سينمائية، تقلب حساب مهووسي التوقعات
والمناورات في أروقة المهرجان العريق.
نصوص تزخر بحكايات إبطال عاديين لا تخلو حيواتهم من
عزوم تغيير. هنا إطلالة حول نبذ أفلام المخرجين الشباب
حصراً، قبل أن نقارب العناوين الأخرى نقدياً لاحقا
خلال تغطيتنا الخاصة لـ"سينماتك".
* * * * *
لعل أكثر الأصوات الجديدة إثارة للإهتمام هو المخرج
الدنماركي الإيراني علي عباسي (1981) الذي نال جائزة
خانة "نظرة ما" عن باكورته "حدود" (2018) التي أعلنت
عن طاقة إبداعية ذات خيال خصب. يقارب جديده "العنكبوت
المقدس" واقعاً شخصياً ملّتبساً بين إرادة تسعى الى
النقاوة وتعميم العفَّة، ومجتمع شرس لا يرحم، يقف في
وجه إشخاص يحاولون الخروج عن سراط جمعي تقليدي صدامي.
يشرع المواطن سعيد حنايي، وهو شخصية حقيقية شغلت
الإعلام المحلي قبل عقدين وربّ أسرة متواضعة وعامل
بناء أجير، في مسعى ديني خاص من أجل "تطهير" شوارع
وأحياء مدينة مشهد الإيرانية (تم تصوير الفيلم في
الاردن) من بائعات هوى ونساء فاسدات.
بعد قتل العديد منهن، يصبح يائساً أكثر من أي وقت مضى،
حين يكتشف عدم إهتمام أيّ كائن بمهمته الإلهية، ما عدا
صحافي مغمور يقرر التحقيق في جرائم متسلسلة، تقوده الى
عنكبوت قاتل. هذه الثيمة كانت أساس شريط مواطنه
إبراهيم إيرج زاد "عنكبوت" (2020) الذي غلب عليه طابع
تشويقيّ خفيف، وموقف سياسي مائع ومهادن، لم تمنعا من
جعل إداء الممثل محسن تنابيده، الذي رأيناه في عمل
أصغر فرهادي "بطل" (راجع
"سينماتك" بتاريخ 2.2.2022)، فرجة هائلة
للتمعن في موهبته وحضوره الطاغي، إضافة الى التشكيل
البصري المعقد والمبتكر الذي صاغه مدير التصوير القدير
محمود كلاري لعوالم رجل أسرة عادي ينتابه القتل وهوسه،
مثلما لوثته بكل ما يتعلق بالناموس.
في حين تأخذ مهمة أخرى في مكان قداسيّ أخر طابعاً
صدامياً في "فتى الجنة" للسويدي المصري طارق صالح
(1972) حين يواجه اليافع أدم، وهو صياد سمك تُعرض
عليه فرصة شبه مستحيلة لإكمال دراساته في جامعة الأزهر
في القاهرة، صراعاً وحشياً بين نخبة دينية وأخرى
سياسية للفوز بالمركز النافذ لسلطة الإسلام السني في
العالم. تتعاظم الأمور وتتصاعد حدة المواجهات إثر وفاة
رئيس الجامعة فجأة بعد وقت قصير من عودته الى العاصمة
المصرية من سفرة خارجية. هذا النصّ هو وجه أخر ليوميات
قاهرية، بدأها صالح في عمله الإستفزازي "قضية هيلتون
النيل" (2017).
فيما يصور صاحب "فتاة"، الحائز على جائزة الكاميرا
الذهب (كانّ 2018) المخرج البلجيكي لوكاس دونت (1991)
في "حميمي" (105 د) تفاصيل جارحة لصداقة وثيقة بين
صبيين يبلغان من العمر ثلاثة عشر عاماَ، هما ليو
وريمي، بيد أن العلاقة تقع فجأة في حالة فوضى بسبب
إنتقالهما نحو المراهقة. في محاولة لفهم الخطأ الذي
حدث، يبحث ليو عن تطامن داخلي، ويقترب من السيدة صوفي
والدة صديق عمره. تستكشف هذه الرحلة السينمائية طرائق
المغفرة والضعف والحب.
حصد الإيراني سعيد روستايي (1989) إهتماماً نقدياً
دولياً حين ترشح فيلمه الروائي الثاني "ستة أمتار ونصف
متر" (2019) الى جوائز "السيزار" الفرنسية ضمن خانة
إفضل فيلم أجنبي، وهو صدى سينمائي مطول لإشتغال
الإميركي ويليم فريدكن "الوصلة الفرنسية" (1971)، عن
أفة مخدرات تنتشر بشراسة بين قطاعات شعبية واسعة، صوره
روستايي بنفس لاهث ومعقد ومحتشد بالشخصيات مع جلبة
أحداث. يضع جديده "أخوة ليلى" بصيرته الواقعية على
عائلة تتعرض الى تفكك ممنهج، يحاول العجوز حشمت أن
يدفع بمصائر أسرته الى أمان غير محسوم، سلاحه إخفاء
عملات ذهبية معدودة، يمكن أن تعينهم في يوم عوز.
ينصب هاجس البطل على حصانة إبنته ليلى التي يفرض
عليها التخفّي في مخبأ سريّ. في غضون ذلك، يواجه
إخوتها الأربعة مشاكل إقتصادية خصوصا شقيقها البكر
عليرضا الذي يخسر راتبه بعد إفلاس مصنع كان يعمل به.
يحلم العجوز حشمت بلمّ شمل عائلي، لكن جميع أبنائه
يعيشون في فقر مدقع، ويحتلون أماكن عيش بائسة في مناطق
متفرقة وبعيدة، تجعل من إجتماعهم ضرباً من خيال.
في العام 2017، قدمت الفرنسية ليونو سيراي في
باكورتها "امرأة شابة" نصّاً ديناميكياً وتهكميّاً حول
معنى أن تتحول فتاة الى امرأة ناضجة في عوالم باريس
اللئيمة، وتنال عنه جائزة "الكاميرا الذهب" عن جدارة.
بشر هذا العمل الخاطف للإهتمام بموهبة إخراجية، أجبرت
الجميع على الإنتظار أعوام خمسة كي يشهدوا على صنعتها
وتجلياتها في عملها الجديد "أم وإبن" (116 د)، وهي
سيرة معقدة لإسرة أفريقية من ساحل العاج، تفلح في
الوصول الى ضواحي باريس، وتشهد تحولات كل فرد منهم من
ثمانينات القرن الماضي وحتى يومنا الحاضر. حكاية
السيدة روز وإبنيها جان وإرنست وصراعهم الجماعي للحفاظ
على أصرة عائلية مهددة بالإنفصام، مع مواجهاتهم
اليومية للمعتقد الأوروبي والمتغير الإجتماعي والثقافي
والبيئي.
أما الثنائي الفيلمنكي شارلوتا فنديرميرش (1983)
وفيليكس فون غرونينغن (1977) فيحضرا الى كانّ، وهما
معززان بسيرتين خصبتين. الأولى، وهي مؤلفة موسيقية
وكاتبة نصوص وممثلة ذائعة الصيت تُنجز باكورتها
الإخراجية هنا، أما زوجها فعرف شهرة دولية مع شريطه
الميلودرامي المحكم الصنع "إنهيار الدائرة المكسورة"
(جائزة الجمهور لخانة "بانوراما" في مهرجان برلين
السينمائي 2013)، ولاحقا "بلجيكا" (2016)، قبل أن ينجز
شريطه الأميركي الأول "فتى رائع" (2018) مع الكوميدي
الشهير ستيف كاريل والنجم الشاب تيموتيه شلاميه. عملها
المشترك هو أفلمة ملحمية لرواية إيطالية شهيرة تحمل
عنوان "الجبال الثمانية" لمتسلق الجبال الشهير الذي
تحول الى كاتب ذائع الصيت وصانع أفلام الإيطالي باولو
كونيّتي، حول "بيترو، فتى المدينة المستوحد الذي يقضي
الصيف في واد منعزل في جبال الألب. هناك، محاطًا
بالمروج والقمم، يبدأ في التعرف على أحلام والده
وشغفه. وهناك أيضا، يلتقي ببرونو، ابن أحد قاطعي
الأحجار المحليين. بينما تتألق آصرتهما، فإنهما يشكلان
صداقة لمرة واحدة في العمر. ثم بعد عام، تتوقف
الزيارات الصيفية. ينجذب بيترو إلى المدن حول العالم.
لكن ذكرى الجبال لا تتركه أبداَ. وبعد رحيل والده،
يعود بحثاً عن حرية وصداقة حميمية كان يعرفهما من قبل"
(عن دار بنغوين للنشر). |