يفور الدم في جديد الأميركي روبرت إغرز (1983) بلا
هوادة. يغطى الحُرْمَات ويدفع الى قصاصات جماعيّة. ما
يتجسَّد كصور بربريَّة على شاشة مدير التصوير المتمكن
جيرن بلاشكي حول قبائل فايكنغ متناحرة، تعيش عند حافة
عالم وعريّ في العام 895 بعد الميلاد، حيث أربابه
مهووسون بخثارات دم مقاتلين لا يرتضون إلا بقطع
الرؤوس، وكأنها توكيد متوالد على أن البشر مخولون حتى
في ألفيتنا الثالثة على إرتكاب المجازر ذاتها،
بتبريرات مُعدّة وشيطنات منسَّقة.
يبدأ إغرز شريطه بوجه مضيء لصبي، يصرخ بجذل معلناً
أوبة والده من جبهات الفتوحات والغارات، وينتهي به
شاباَ معفراً بجدايا الدم، وسكين منصول يخترق صدره.
* * * * * *
حكاية معروفة ومُرَدّدة عن إنتقام إبن لإغتيال أبيه
على يد عمه الذي تزوج أمه، وهي البذرة الأساسية
لـ"هاملت" المسرحية الأثيرة للإنكليزي وليم شكسبير،
بيد أن الثنائي إغرز/ بلاشكي في تعاونهما الثالث،
يجعلاها مسند إحتفاء بصريّ خلّاق لعوالم سحريّة، يزدحم
بالميثولوجي والغرابات العشائرية والأحلام، وجماليات
ضياء ناريّ ووهجه الذي يخترق سواد قلوب وأماكن ونَّجيع
دماء، ومثلها الوسع الممسرح لمعارك لا تنتهي بجموع
بشرية مَذْبُوبة بجلسات نحر.
عمل الإثنان على جعل مشهديات الشعائر الطوطميّة
البائدة التي تتضافر في توجيه مصير البطل أملث (الممثل
السويدي ألكسندر سكارشغورد) ذات وقع سورياليّ
فلكلوريّ، تحوَّله من كائن ولد بين الوحشيّة
وسلالالتها الى غول شرس يسعى نحو منيَّته بعزم غليظ،
له وعد يُكرَّره مرات: "سأثأر لك يأبتي، وسأحررك يا
أمي، وسأقتلك يا فيولنر (عمه)". هي جملة / لازمة لرباط
دراميّ يقوده عبر الأزمان من أجل الوفاء بما أقسم
عليه، حين شهد قطع رأس والده الملك أورفانديل
(الأميركي إيثان هوك)، على يد أخيه غير الشقيق فيولنير
(الدنماركي كليس بانغ المعروف ببطولته فيلم "المربع"
(2017) للسويدي روبن أوسلند). يفلت الصبي من موت
محقَّق بجدع أنف جندي يُدعى فينر، يلتقيه لاحقا،
ويعتبره عتبة أولى في تحقيق مراد وصوله الى عم آثم.
رؤيا هذه المغامرة، ستخبره بها عرافة ضريرة (المغنية
الإيسلندية بيورغ). تحمل نولاً تغزل به ذكوريته وقدره،
وتُمكَّنه من رؤية "تصورها" الى شجرة عائلته الحاملة
لجثث أجداده ولاحقا كابوسه الشخصي، ومساعيه في إنجاز
العهد. يحدث هذا كله في مقطع إفتتاحي باهر عنوانه
"شمال الأتلانتك"، تميَّز بوفرة من مشاهد تعريفيّة
ولفتها البريطانية لويز فورد بإيقاع موسيقي، يحافظ على
دينامية كاميرا محمولة متحركة (ستدي كام)، ستتفجّر
بمشهد من لقطة واحدة طولها ست دقائق، يوثق هجوماً أول
يقوده أملث الشاب على مستعمرة سلافية، ونتعرف عبره على
ضِرام الجزع في عداواته، يقول: "لا يعرف قلبي سوى
الإنتقام". في نهاية هذه الدقائق، يصوّر إغرز مشهداً
بطيئاً وإتهاميّاً، يحمل بصمات شناعات شهدتها أوروبا
خلال الحرب العالمية الثانية، لبرابرة أملث يقودون
أطفالاً ونساء وعجائز الى كوخ ويحكموا البوابة، قبل أن
يضرموا النيران في الجميع وهم يستغيثون.
نصّ إغرز (بمشاركة الروائي والشاعر الإيسلندي شون الذي
كتب فيلم "حمل" (2021) لمواطنه فالديمار يوهانسون)
ملحميّ متشابك لكن من دون تعقيد. المتعة فيه أولوية
لإن حكاية فايكنغ ودمويتهم قد تثير الخيال إلا إنها
تصبح لعبة فارغة حين تُخضع لوجهة نظر واحدة، كما
رأيناه في التجهيز السينمائي للدنماركي نيكولاس فيندنغ
ريفن "قيامة فالهالا" (2009)، أو الفيلم الهجين
"بيوولف" للإميركي روبرت زيميك. في "الشّماليّ" (140
د) هناك إشتغال دقيق على قتامة النفس البشرية وسوداوية
بصيرتها، وعيشها ضمن هاجس فريد، يصوغ رؤيتها للحياة
والعائلة والفناء وغرض الجسد والخلاص الذاتي: " الخيار
بين طاعة مليكي، والحقد على أعدائي. إخترت كلاهما"،
يقول أملث لحبيبته أولغا (أنيا تايلر جوي) التي ستنجب
له لاحقا تؤاماً ملكياً، وتخفي بين طيّات ملابسها
الرثّة فطراً سحريّاً يمدها بمناعة، تُعرَّفها له
بحكمة وحيدة: "قوتك تكسر عظام الرجال. أنا لدي المكر
لكسر عقولهم". لاحقا، "تصعد" الشابة ذات الشعر الأبيض
بولديها الى مجد سماويّ خياليّ وهم على صهوة جواد
أبيض، كما يفعل المخيال الإنجيليّ (هناك إشارة يتيمة
الى المسيحية ترد على لسان الجندي المجدوع الأنف عن
"رجلهم المصلوب على شجرة!").
عليه، فإن ما يتم ترتيبه بشأن رجل إسكندنافي مفتول
العضل هو تفخَّيم فحولته، وتقديمها كمَهَابَة
بيولوجيّة لجسد قاهر وبطولة لا تضارع، نجد صداها اليوم
في صور وأخبار فرق عسكريّة لجنود إمبرياليين "خارقيّ
الشجاعة"، يتم تدريبهم بمواصفات تصبُّر وحيلة وبسالة
ماحقة وقوّة غاشمة. وللمزيد من التعزيز المثيولوجي،
ينثر إغرز تمكينات غيبيّة على شخصية أملث، تقوده الى
سيف مسلول مقدس لجد صنديد، يلقَّنه فنون المُسايَفَة
في مشهد حُلميّ غامض الأجواء، خلاصته "لا تتعرض الى
غدر". هذا الأخير يصحَّ في حالة الجد حين يقف ـ غفلة ـ
تحت ضوء خؤون، يحوله الى هباء من رماد.
المؤكد أن أملث ليس بطلاً خارقاً. يجعله بأسه الجسدي
يسير كماكنة قتل، رافعاً كتفيه ومقوساً ظهره، بينما
تحمل خزرات عينيه على الدوام شرارة فناء لا راد له.
يعاود الثنائي إغرز/ بلاشكي تصويرها بلقطة قريبة
أماميّة لوجه سكارشغورد حاملاً تعبيراً كئيباً الى ما
يُبصره. ناظراً الينا مباشرة وكأنه يعجز عن التدخل في
مصائب وفظاعات يراها، ولن يتمكن من إخبارنا عن
تفاصيلها على خلفية موسيقى جنائزية من طبول ووتريات
حادة وأصوات ثكلى ألفها بفطنة كل من روبن كارولان
وسيباستيان غينسبوره. تقابل هذه الموتيفات البصرية
(ومنها لقطات شجرة فردوسيّة، وطلّات مهيبة لملكات،
ووجه بملامح "نوسفيراتو" للممثل ويليم دافو بدور جني)
مشهداً قصيراً صاعقاً لعشيقته أولغا وهي تتكلم الى
الكاميرا، بلقطة تغريبية مركبة العوالم من مياه محيط
وسماء خفيضة وجبال كالحة وقارب فارغ يُبحر بها نحو
مملكة جديدة، لتولول بنفس شعريّ: "إركبن معي يا بنات
الرياح الشماليّة. إحملوني و ما في بطني، الى أرض
أسلافيّ. سأزرع لكم هناك غابة بتولا بأغصان كثّة
تهزّها رياح عاصفة، تخطف أنفاسكم الزكيّة". تمهد هذه
الترنيمة الوداعية التي تؤديها الممثلة البريطانية
الصاعدة بأصابع متشنَّجدة جازعة، تعكس فظاظات عالمها
الحالي، ونشدانها الى أمان خسرته بمغادرة رجلها الى
ظلمة رداه.
* * * * * *
يُعارك الشاب أمواج المياه السوداء. يعبر المحيطات
كعبد. يقاتل كمرتزق محترف. ينادي إنتقامه بعواء ذئب
ويعتمر رأسه فوق هامته، كوصاية روحيّة كاملة لحيوانيّة
متوارثة ومحروسة بمعتقدات غيب، تبرّر سفك الدم وقطع
الحناجر بالأسنان. يهرب أملث وهو غِرّ من مملكة
هرافنسي الخياليّة، تتبّعه صرخة والده المغدور:"إنتقم
لي أو سيلحق بك العار الى الأبد"، أيّ أن خطّ حياته
رُسِم مسبقاً، وما عليه سوى الفوز بوسائل قتل تُقدّم
له كـ"عطايا".
عبر خمسة فصول ذات عناوين مباشرة وشارحة لمضمونها،
نخضع كمشاهدين الى هلوسة بصرية قاتمة بين حقّ الأب
كضحية، وتآمر الأم الـ"أوريستية" (نسبة الى ثلاثية
الدراماتولوجي الأغريقي أسخيلوس عن كليتمنسترا
وتواطؤها على قتل زوجها أغاممنون، وقرار إبنهما أوريست
الإنتقام منها وعشيقها أيغيست). بينهما، يناور الوريث
العوائق محروساً بشبيهات إيرينيات أسخيلوس (أو
الحاميات الشيطانيات) اللواتي يوحين له درب جلجلته عبر
بريّات غبراء، مروراً ببشر بلا رحمة، وتحت سماوات
ملبَّدة بمصائر محسومة: "ستموت باليدين اللتين قتلتا
والدك"، يُنذره عمه وزوج والدته فيولنر، غير أن أملث
يصف لنا عصمة رابطة دمه بجملة غارقة بشجن إنسانيّ
ملعون:"قدري أوصلني الى هذه الديار كي أستردّ ما سُرق
مني".
هذا السلب، كيان تراجيديّ عريض ومدهش في سينما إغرز،
ففي باكورته "الساحرة" (2015) يصبح إنتزاع إستقلال
البطلة اليافعة توماسين من قبل سطوة تطرَّف دينيّ،
تهديداً حاسماً لدنيويتها التي تعثر بعد عذابات وعنف
على حصانة غريبة، حين تُطرد عائلتها من مستعمرة
بيوريتانية في العام 1630، بإعتبار أفرادها رجساً
إجتماعيّاً، في كنف ساحرة غابة تقودها الى فكاك نهائي
من أبويّة مجتمعيّة عدائيّة في مشهد طقوسيّ مثير،
يحتفي بعريها وطيرانها الى السماء مع فتيات شبيهات بها
كإعلان نصر لحريتهن. فيما يعم حلم غامر مليء بعنف
وجنون سينمائيين شريط "الفنار" (2019) مع إكتشاف شاب،
إرتضى العمل كتابع تحت إدارة وإشراف مراقب فنار بحريّ
في جزيرة نائية، أن الرجل العجوز والمتنمَّر والمدمن
يسعى بخبث الى "إختلاس" طهارته، وإلصاق تهمة قتل عامل
سابق به، دلَّته حوريات بحر مختلقات الى رأسه في شباك
صيد. تلبَّي الصبية توماسين طوعاً نداء انعتاقها،
بينما ينتظر الحارس الشاب خلاصه عبر فورة قتل عارمة
وسط عاصفة هوجاء. بطلا "الفنار" ـ كما هو أملث ـ
محاصران بطبائع همجيَّة، يكتسباها بسبب عزلتهما
ونيَّاتهما ودسائسهما التي تجد في مكان قصي (اِيسلندا
في حالة بطل "الشّماليّ") ساحة خيالية للبطش ببعضهما.
* * * * * *
أملث شخصية مُكوَّنة من الإثنتين معا. كائن خُلِق وسط
عالم متطرف لا يمكن تصحيحه، وهو روح مضطربة عليها أن
تجد سبيلها نحو تحرُّر مستحيل. وفي كلا الحالتين، يكون
مصيره مسلوباً سلفاً. تؤكد والدته الملكة جودرين
(نيكول كيدمن) له هذه الحقيقة، عبر إعتراف صلف، كونها
حرّضت عمه على قطع رأس والده، لإنها ترى ـ وهي من
الرَّقيق حسب الوشم على صدرها ـ في فيولنر رجولة كاسحة
وعزم جبار، وترمي في وجهه إهانتها الختاميّة: "إنت في
نهاية المطاف شبيه أبيك، كلاكما إبليس"، أما هو فعليه
إتباع تكليفه العائلي الذي يبدأه بتحرير عبيدها ثم قتل
ولديها، قبل أن يغرس سيفه في قلبها. تم تصوير هذا
المقطع النابض بلونه القاني بين كيدمَن وسكارشغورد في
حيّز ضيق، هو كوخ بسيط يمثل بلاطاً رعوياً، وفي إنارة
طبيعية إعتمدت ضوء النيران من حولهما، وهو أسلوب بصريّ
غامر به إغرز في جميع إشتغالاته التي تميزت أيضا بميله
الى المقياس الأكاديمي الضيق للصورة (1.19:1)، بيد أنه
في "الشماليّ"، وبسبب الطبيعة الملحميّة للنصّ، توجب
عليه إختيار شاشة عريضة، تَتَنوَّر بواحد من أفضل
مقاطع الشريط والمعنون بـ"بوابات الجحيم" الواقعة عند
قاعدة بركان عظيم، أيّ أقرب بخطوة عن سعير أرضيّ، يشهد
قطع رأس خصم خائن، ووصول نّصل غادر الى قلب شاب، حرسته
الغربان ودعوات الشامان، نسمعه يردَّد قبل مقتلته
السينوغرافية جملاً لها صدى لهفة موت:"ساِقتص لك،
سأُكرم دَمانا، سأقطع خيط القدر"، معلناً أن التَّامور
الهمجيّ لن يهدأ مطلقاً سواء في عوالم الفنطازيات أو
حروبنا الحداثيّة وتواريخها المرجومة. |