"أَنْقِذْ مِنَ السَّيْفِ نَفْسِي. مِنْ يَدِ
الْكَلْبِ وَحِيدَتِي" (مز 22)
جديد المخرجة المؤلفة النيوزيلندية جين كامبين "سطوة
الكلب" هو نصّ دنيويّ لكنه غارق في توريات إنجيليكية.
ليس بسبب عنوانه المأخوذ من أحد مزامير الكتاب المقدس،
بل لإن دافعه الدراميّ الساعي الى إعادة تشكيل إبليس
سينمائي، إنما يعزم على تحريض مشاهده بشأن شيطان
شخصيّ، يسكن تحت جلده، وينتظر فرصته كي يغدر بأقربين
في محيطه وعالمه وعشيرته. تدعو كامبين عبر حكاية بطلها
الرئيسي بيتر (كودي سمت ماكفي) الى التحصَّن بـ"تُرْس
الإيمان" كونه الكفيل بردع "سهام الشرير الملتهبة" (أف
16:6).
* * * * *
بالنسبة الى هذا الفتى الطهراني والمتكسَّر كالنساء،
فإن الرحم التي أنجبته أولى بالإنجاد، وهو ما نسمعه في
إعترافه الأوليّ: "حين توفّي والدي، كان أكثر ما رغبت
فيه هو سعادة والدتي. أيُّ نوع من الرجال أكون إن لم
أساعدها؟، إن لم أنقذها؟". نراه وسط شرنقة عائلية
متماسكة ومجالدة، تتخذ من خان شعبي في مستعمرة بيضاء
تُدعى "بيتش"، تحتضنها سفوح جبال ولاية مونتانا
الأميركية في العام 1925، موئلاَ ورأس مال مضموناً،
تعتمد تجارتهما على قوافل رعاة بقر، يقودون حيواناتهم
الى عمق أراض مِئْناث شاسعة، خلّابة ببريّاتها، وإن
كانت وحشيّة وعنيفة بنزعاتها.
يتماهى بيتر مع عوالم أمه روز (كرِستن دانست) التي،
كما معنى أسمها، كانت في السابق تُنسّق الزهور وتتاجر
بها، فيبتكر وروداً من ورق، وينثرها فوق موائد المطعم
كزينة مستعارة وإصطناعية، رداً على قحط الخارج
ومشقاته، وهي في دلالاتها الدينية ضمن عوالم البطل
اليافع، إشارة على زوال حتمي، يكتسح شاشة كامبين بقوّة
عبر شخصية شاب عدائي وسلطوي يحرقها عمداً، ويزدري
"صانعها" وأنامله الرقيقة. مثلما نرى الشعلة الحمراء
تأكل قلب الوردة في يد فيل (بندِكت كمبَرباتش)، نشهد
إضطرام الحيف في كينونة الصبي، المعمدة بدموع والدته
في مطبخها، بسبب عجزها عن نصرته. منذئذ، يرسم بيتر
ملمح شرّ مطلق عبر وجه هذا الـ"كابوي" الذي يتحاشى
الطهارات ويرفض الإستحمام، ويشارك شقيقه فراش
مناماتهما.
ذَكَر متجبَّر يملك قدرة رؤيوية مسمومة، تجعله يرى
"طيف/ ظل" كلب آبِد ينبح بين أُجارِد الجبال. "هل رأى
غيرك ما تراه يا فيل؟" يسأله أحدهم. يجيب بلؤم: "لا
شيء هناك ما لم تكن قادراً على رؤيته". يجعل هذا
التمكين الذكوري من كلمة سطوة في عنوان الشريط (وليست
"قوّة" كما شاع عربياً) عنصراً سايكولوجياً لصراع بين
إخضاع مبطن يصرَّ عليه راعي البقر كفعل غدر، بحجة
مساعدة متأنث وإخراجه "من قوقعته ويصبح كما البشر"،
مقابل عزم مضمر لدى بيتر للخلاص من إبليسية دنيئة،
تحاول هدم أسوار مملكته الصغيرة، و"سحبه" من ضميره
الحيّ وطبيعية عنفوانه التي تُغطي المقاطع الختاميّة
من فيلم كامبين، الحائز على "أوسكار" أفضل إخراج
سينمائي لعام 2022.
* * * * *
جغرافية شريط كامبين ومساحات العداوات فيها وعليها،
هما رديفان دراميان إستفزازيان للصراع بين بيتر وفيل،
ذلك "أن أقاصي الأرض ترجع الى الرّبّ" في نهاية المطاف
كما تقول المزامير، في إشارة الى أن تراب الموت لن
يستقبل جسداً دنساً حين تحين خاتمته، وهو ما ننتظره في
ما يتعلق بمصير الـ"كابوي" الوقح وتخويفاته على يد
كائن عفيف، ينتصر الى وعده. يُفتتح الشريط بمشهد تراك
(تتابع) طويل، سيتكرر في ختام الشريط لغرض درامي أخر
هو وداع جثة فيل، صورت فيه الأسترالية القديرة أري
وغنر، مسيرة المُتنمَّر عابراً مزرعة العائلة، متوجهاً
نحو دارتها الكبيرة، بيد أن الهاجس الصوري هنا يتركز
على الرواسي والظلال الغامضة المرمية على حيودها التي
نراها في خلفية مشهد تعريفي أساسي لمحيط شَكِس، قبل أن
نكتشف أن الشاب الموسيقي الفطري مهموم بمكانة عائلته،
والكفاح من أجل رفعتها الطبقية ومنع إختراقها.
لا يرحم فيل أحداً، أما شقيقه جورج (جيسي بيلمونز) فله
طَّلَّة بيروقراطيّة واضحة، متحنَّن وأن كان خانعاً
الى أخ يملك قلباً من شمع، يعيَّره بوصف جارح هو
"فاتسو" (بدين أهبل). قدر الأول واضح المسار لقائد
زُّمرة من رجال سُّخرة، يُدنَّسون كُلّ شيء يمرون به،
إذ إن تصفيته تحدث لاحقا نتيجة "تلوث" متعمّد. في حين
يجد الثاني أمانه الذاتيّ في أم شابة، ويقترن بها رغم
معارضة ندّه، وشكواه كتابياً الى والديهما: "ورَّط
نفسه مع أرملة رجل منتحر وإبنها المتخلف عقلياً". لن
تنفصل العروة بينهما، إلا إن فيل يصوب سفالاته مباشرة
الى زوجة جديدة، يراها وضيعة الأصول. امرأة "مخادعة
رخيصة" كما يشتمها، إقتحمت وجاهة عائلة أرستقراطية
ومجتمع مخمليّ. من هنا، تأتي غالبية المشاهد
المفخَّمة، وبالذات منذ زيجة جورج/ روز، كصرخات
دراميّة مكتومة تُنذر بفاجعة كاسحة، لعل أبلغها
إجتماعهما منفردين في خلاء بانوراميّ بهيّ، تُعلّم
الزوجة رجلها خطوات راقصة، قبل أن يسكب دموعه، معترفاً
لها: "كم هو رائع إلا أكون وحيداً"، ما يفضح للمشاهد
ذلك الخلل الخفيّ في نشأتي الأخوين، وتضارب دوافعهما
ومصالحهما، ومثلها مقاربتهما الى معنى ذكوريتهما.
يفلح هذا الإمبرياليّ المكتوم في تأسيس بذرة عائلة على
أمل أن ترّث جاهاً كولونياليّاً، فيما يتخفَّى شقيقه
عن الأنظار في "بطن أرضي"، يمارس بين أكماتها طقوساً
فيتيشية مع جسده ووشاح يحمل الأحرف الأولى لأسم معلمه
وصديقه الراحل برنكو هنري "الذي علمني أن أستخدم عينيّ
بطريقة يعجز عنها الأخرون"، بما يشي الى علاقة مثلية
بينهما قطعها موت/ زوال مفاجيء، تتأكد مع إكتشاف الفتى
العائد من دراسة الطب خلال عطلته الصيفية السر
الإيروتيكي لفيل، ومجلات الأجساد الرجولية العارية
والذكريات التي تختزنها صفحاتها من نشوات وإفتقاد،
ليُعلن نصّ جين كامبين تحوّله من فرجة سينمائية حول
مناكفة طبقيّة أزليّة الى شحنة تراجيديّة، ترسل
موجاتها ببطء دراميّ مجيد حول وراثة الشرّ بحجة الدفاع
عن روح ذاوية، ومنع أذيَّة ودحر ظلم وإرغام على خنوع.
* * * * * |