(1)
ليست هي المرة الأولى التي أقرا فيها تعليقات احتفاء
مخرجٍ بنفسه.
من الطبيعي أن يعلن المخرج عن إنجازه لفيلم، اختياره
في مهرجان، فوزه بجائزة..
وأيضاً، كلّ مخرج حرّ بأن يكتب: أنا بكرا رايح البلد
الفلاني، وراجع من البلد العلاني..
كلّ واحدٍ حرٌّ بأن يكتب ما يشاء في صفحته الفيس
بوكية، ونحن أحرار أيضاً بأن نقرأ تعليقاته، أو لا
نقرأها أبداً.
ولكن، احترافياً، سوف يكشف المخرج عن "تسرّعه" عندما
يكتب تعليقاً يحتفي من خلاله بوصول فيلمه إلى مهرجان،
مجرد وصوله، واستلامه، ويكتب متعمداً، أو تخذله اللغة،
كلمات من نوع
:
ـ الحمد الله بداية موفقة بمشاركتي للمرة الثانية في
مهرجان ....وكأنه حقق معجزة.
ويتحدث عن تعبه في إخراج الفيلم، وحتى إرساله، تخيلوا
تعب في إرساله ....
ويضع صورةً من رسالةٍ وصلته من المهرجان تؤكد وصوله،
يعني لو مش مصدقين، أهو صورة الإيميل...
ويقرأ الرسالة كما يريد، ويعتقد بأن المهرجان اطلع على
فيلمه، وقبله ضمن الشروط، وباقي النجاح، والفوز، يعني
الجائزة.
هذا الاستعجال، والنجاحات الوهمية التي يصنعها المخرج
لنفسه قرأتها في الصفحات الفيس بوكية للكثير من مخرجي
الأفلام القصيرة، وبعد أسابيع أقرأ في نفس الصفحات
خيبة هؤلاء، وحتى غضبهم، وتهجمهم على إدارة المهرجان
اللي ما فهمتش أفلامهم العبقرية،.. وكأن المهرجان
مسؤول عن مستوى فهمهم، واستيعابهم لرسالة تُعلمهم
باستلام نسخة الفيلم، وهي رسالة نموذجية ترسلها إدارة
المهرجان إلى كلّ من أرسل فيلمه، يعني إلى مئات، وربما
آلاف.
هذا الأمر حدث مع مخرجين أرسلوا فيلمهم إلى مهرجان
كان، وعندما استلموا رسالةً تُرسل إليهم أوتوماتيكياً،
ضجّت صفحاتهم بالاحتفاء، وتعليقات التهنئة..
هل تفكير، وممارسات، وسلوكيات من هذا النوع يمكن أن
تصنع ثورةً في السينما، أو ثورة في أي شيئ؟
أو حتى أفلام؟
(2)
من الذي يقرر النوعية العالية لفيلمٍ ما؟
كلّ مهرجان يمتلك مقاييسه الخاصة.
بالتأكيد، مهرجانات مثل كان، وبرلين، وفينيسيا تمتلك
مقاييس عالية، ولكن، هناك بعض الأفلام تدخل إلى هذه
المهرجانات لأسباب أخرى، ومنها تيمة الفيلم مثلاً،
وارتباطها بأحداث كبرى.
ما هي هذه المقاييس؟ هذا السؤال الازلي الدائم
.
ثم ما هي المقاييس العالية، وما هي مسافة، وقواعد هذا
العلوّ، ثم ما هو سقف الاحسن، وما هو سقف الاوطأ؟
الأمر أبسط بكثيرٍ من تعقيده، المقاييس هي مجموع
الخبرات في كافة أنواعها، وأشكالها التي تكوّنت عند
ناقدٍ معين، أو خبيرٍ سينمائي، خبرة شاب في
العشرينيّات لا تعادل خبرة أربعينيّ، أو خمسينيّ، خبرة
ناقد في فرنسا لا تعادل خبرة ناقدٍ في بلد لا يوجد
فيها صالات سينما، ومن ثم هناك الخبرة الأكثر أهمية،
تلك التي تتعلق بالبرمجة، والتي يكتسبها المُبرمج من
المشاهدة من أجل مهرجان معين. البرمجة لمهرجان كان،
تختلف عن البرمجة لمهرجانٍ متخصص بسينمات البلدان
النامية، كما تختلف عن برمجة مهرجان للسينما العربية،
هناك عناصر متعددة تدخل في عملية البرمجة، وطبيعة
المهرجان، وتوجهاته، وهذه تُسمّى عادة (الخطة
البرمجية)، ومن ثم، إذا سلمنا بأن أعضاء لجان الاختيار
في مهرجان كان يشاهدون آلاف الأفلام، ويمتلكون خبرة
سنوات طويلة في المشاهدة، والاختيار، والفرز، هذه
الخبرات تجعلهم أكثر صرامة في الاختيار، والتي تعني
المقاييس العالية، بينما إذا ذهبنا إلى مهرجان "الجبنة
المعدنية" في جزر الواق الواق، إنها الدورة الأولى، أو
الثالثة، أو حتى العاشرة، وهذا المهرجان صغير لا يعرفه
حتى صلاح سرميني، ويديره مجموعة من الشباب المتحمس،
ولا يصل إلى المهرجان إلاّ الأفلام التي لم تُقبل في
المهرجانات الكبرى، ماذا يحدث في هذه الحالة؟ سوف
تعتمد الاختيارات على مقاييس بسيطة، ومتساهلة......
(ثمّ ما هي المقاييس العالية، وما هي مسافة، وقواعد
هذا العلوّ، ثم ما هو سقف الاحسن، وما هو سقف الاوطأ.
المقاييس العالية نسبية أيضاً، وتمتلك نفس الاختلافات
التي أشرت إليها في السطور السابقة أعلاه، ولكن،
بالنسبة لي على الأقل، تختلف أيضاً، عندما أشاهد
أفلاماً أجنبية، فإن صرامتي في الاختيار، ومقاييسي
تكون في حدّها الأقصى، وتقلّ عند مشاهدتي لأفلام
عربية. ولكن، هذه أولاً، وأخيراً، مقاييسي، وهي أيضاً
قابلة للاختلاف عاماً بعد عام مع زيادة خبرة المشاهدة،
وطالما أن الإبداع لا حدود له، ولا مقاييس، فلا يوجد
حدود أدنى، وحدود أقصى، أو سقف الأحسن، وسقف الأوطأ،
وعلى الناقد السينمائي، أو الخبير، أو المبرمج المحترم
أن يكون مرناً، ويطوّع مشاهداته وُفق المهمة التي
ينجزها، ولكني شخصياً أستمتع بفيلم تركي أهبل، وعبيط،
وأخرج من الصالة منتعشاً، كما أستمتع بفيلم تجريبي
كلّه نبضات ضوئية من أوله إلى آخره، ومن أثم أدخل إلى
صالة أخرى تعرض فيلماً هندياً، وأجلس في مقعدي أبكي
عندما أشاهد البطل ينحني، كي يقبل قدميّ أمه، وهي
تمنعه بلطف، وتهزّ رأسها يميناً، وشمالاً، والدموع
تنهمر من عينيها....
(3)
اتصل بي مخرجٌ لطيفٌ، واخبرني عن اختيار فيلمه
القصير(.....) في أحد مهرجانات الولايات المتحدة
(.....)، وفي نفس الفترة، وصلته أيضاً رسالة من مهرجان
آخر تُعلمه عن اختيار فيلمه، وبعد أيام وصلته رسالة
أخرى من نفس المهرجان تلغي الاختيار، ويرغب المخرج
معرفة أسباب ما حدث.
مباشرةً، عرفت بأن المخرج (مثل معظم المخرجين) يستخدم
أحد المواقع المجانية للمشاركة في المهرجانات بدون
معرفة الأخطاء التقنية التي تحدث بسبب سوء فهم آلياته
من طرف الكثير من المهرجانات المسجلة فيه، وفي كثير من
الأحيان، لا يعرف المخرجون هذه الأخطاء، أو يهملونها،
أو يصدقونها.
وأول هذه الأخطاء استلام رسائل من مهرجانات، وفيها
علامة خضراء بقبول الفيلم، وفي معظم الأحيان هذه
العلامة تعني بأن الفيلم (وصل إلى المهرجان)، لا أكثر،
ولا أقل.
المخرج الذي يستخدم هذا الموقع بدون معرفته بهذه
الأخطاء لن ينتبه، وسوف يقفز من الفرح، ويعلن في صفحته
بأن فيلمه قد تمّ اختياره في هذا المهرجان، وذاك،...
وبعد شهور سوف نجد بوستر الفيلم، وعليه دزينةً من
الشعارات، والأخطر، سوف يعيش المخرج في وهم.
ولكن، بفضل العمل اليومي مع بعض المخرجين كمستشارٍ
لأفلامهم، كانت تصيبني الدهشة في كلّ مرة تصل رسالة
إلى الجميع تعلمهم بقبول أفلامهم في مهرجان ما، كيف
يتمّ قبول كلّ هذه الأفلام مرةً واحدة؟
وهنا اكتشفت هذا الخطأ التقني، وبدأت أنصح المخرجين
بتفاديه، وفي معظم الأحيان، إهمال هذا القبول.
وبالعودة إلى الاتصال الصوتي، والرسالة التي أرسلها لي
هذا المخرج، وهو يعتقد بأن فيلمه قد تمّ اختياره في
مهرجان في الولايات المتحدة، فإنني حالما استلمت
رسالته، فهمت بان المخرج لا يفعل أكثر من الضغط على
زرّ، وبعشوائيةٍ تامة، وحتى لم يفهم جيداً محتوى
الرسالة التي وصلته.
وهنا التوضيحات
:
بداية، أثار انتباهي عنوان المهرجان، وأستغرب بأن
المخرج لم ينتبه له، بينما لاحظت من تواصله مع
المهرجان بأنه يجيد اللغة الإنكليزية.
المهرجان عن الأفلام المتعلقة بالمثلية الجنسية،
والمتحولين،.. إلخ...وفيلم المخرج لا علاقة له بهذه
التيمة إطلاقاً، كيف تمّ قبول الفيلم إذاً في هذا
المهرجان؟
وبقراءة الرسائل المتبادلة بين المخرج، وإدارة
المهرجان، تبين لي بأن الرسالة الأولى الجماعية لا
تشير إلى أيّ قبولٍ حقيقي، ويتمحور محتوى التواصل حول
إمكانية إرسال نسخة إلكترونية أفضل بدل النسخة
الإلكترونية المتوفرة في موقع التسجيل.
الخلاصة: وُربما أكون مخطئاً، أشكّ بهذا القبول، وأطلب
من المخرج فقط بأن يفكر بعلاقة الفيلم بالمثلية
الجنسية، والمتحولين؟
وبعدها الحذر عند استخدام مواقع التسجيل المجانية،
إنها مثل أن تقود سيارة، وأنت لا تجيد القيادة، فكيف
لو فكر أحدنا بقيادة طائرة؟
أما عن القبول الآخر في رسالةٍ من مهرجان آخر، وإلغاء
القبول في رسالة تالية، فأعتقد بأن المخرج عرف بأنه لا
يكفي الضغط على زرّ.
(4)
كيف تُحدّد المهرجانات السينمائية التي يمكن أن تهتمّ
بفيلمك القصير؟
سوف أفترض بأنك أنجزت فيلماً قصيراً نلاحظ فيه بعض
العناصر الشكلية، والمضمونية الغالبة على الفيلم
مثلاً :
أطفال، شوارع في مدينة، غناء، ورقص....من إخراج
مخرجة....إلخ
أولاً: الفيلم قصير
إذاً يمكن أن تهتم به كلّ مهرجانات الأفلام القصيرة
التي لا يوجد فيها تيمة محددة.
ثانياً: الأطفال
إذاً يمكن أن تهتم به كلّ مهرجانات الأفلام القصيرة
المُتخصصة بأفلام الأطفال، أو عن الطفولة
.
ثالثاً: شوارع في مدينة (المدينة شخصية معنويه في
الفيلم)
إذاً يمكن أن تهتم به كلّ مهرجانات الأفلام القصيرة
المُتخصصة بالمدينة.
رابعاً: غناء، ورقص، يعني كوميديا موسيقية
إذاً يمكن أن تهتم به كلّ مهرجانات الأفلام القصيرة
المُتخصصة بالكوميديا الموسيقية
خامساً: المخرجة امرأة.
إذاُ يمكن أن تهتم به كلّ مهرجانات الأفلام القصيرة
المُتخصصة بأفلام المرأة.
(5)
قراءة الفيلم بالنسبة للمهرجانات المُتخصصة تختلف عن
قراءتنا الأولية لها، المهرجانات المُتخصصة لا تقرأ
الفيلم بشكل مُبسطٍ، أو تبسيطيّ.
مثلاً
: عندما يفكر مهرجان ما ببرمجة برنامج عن الثورة، فإنه
يقدم هذه التيمة في كلّ معانيها، وأشكالها، ويمكن أن
يذهب بعيداً في تجسيدها
:
الثورة في داخل كلّ واحد منا، الثورة داخل الأسرة
الواحدة، الثورة على الأنماط التقليدية للسينما، ثورة
بركان...
من هذا المنطلق التحليليّ تتعامل المهرجانات المُتخصصة
مع الأفلام، وهذا ما نفتقده في المشهد المهرجاناتي
العربي.
مثال أخير
:
يحتوي فيلمك على مشاهد أكل، وهو المحتوى البصري الغالب
في الفيلم، إذا شاهده مدير مهرجان متخصص بالسينما،
والطعام (أو الطعام في السينما)، ربما يلفت انتباهه،
لأنه يتناسب مع تيمة مهرجانه، مهما كان الهدف من فيلمك :
تريد أن تجسد الوطن من خلال تمزيقه، والتهامه، تريد أن
تجسد النهم البشري، تريد أن لا تجسد أيّ فكرة، ويبقى
الفيلم مفتوحاً على كلّ الاحتمالات، تريد أن تجسد
جانباً شكلياً إيقاعياً، لا يهم، ماذا تريد أن تجسد.
مدير هذا المهرجان المتخصص بالأفلام عن الطعام انتبه
إلى فيلمك، وهو يمتلك الخبرة اللازمة لوضع فيلمك في
البرنامج المناسب لمهرجانه.
و"مهرجان عن السينما، والطعام" مفتوح على كلّ التيمات،
وليس فقط المعنى الوظيفي المباشر للأكل.
إذا شاهد مدير هذا المهرجان فيلمك في "ركن الفيلم
القصير" لمهرجان كان، وطلبه، هل تقول له: مسيو، ولكن
فيلمي ليس عن الطعام؟ |