انتهت النقاشات المُتناقضة حول فيلم "ريش" للمخرج
المصري عمر الزهيري، ونحن بانتظار أن يمنحنا فيلماً
آخر أكثر اختلافاً عن سابقه.
أتصوّر بأنّه يمتلك ثقافةً سينمائيةً نخبويةً لم يحصل
عليها بشهوة الاستهلاك فحسب، ولكن، باعتبارها ذخيرةً
مرجعيةً كما حال بعض السينمائيين الذين يغرفون من
سينمات الماضي، وينجزون أفلاماً ما بعد حداثية، وفي
مقدمة هؤلاء الأمريكيّ كوينتين تارانتينو الذي يفخر
بنوازعه السينمائية الشهوانية المُتقلبة ما بين أفلام
جان لوك جودار، وأفلام بروس لي...تناقض الذوق في أفضل
حالاته.
فيلم "ريش" مختلفٌ تماماً عن كلّ ما شاهدناه في
السينما المصرية، فيلمٌ ينسف عن عمدٍ كلّ الأعراف،
والتقاليد التي ترسّخت في أذهاننا عنها.
من بين الأمثلة الكثيرة جداً في الفيلم تلك الافتتاحية
الغريبة، والغرائبية، بدايةً مع شاشةٍ سوداء تماماً،
وأصواتٍ، ومؤثراتٍ غير مفهومة، ومن ثمّ مشهداً غامضاً،
وصادماً، رجلٌ ما يحترق في وسط ساحةٍ بجانب أحد
المصانع القديمة المتهالكة، أو بالأحرى أنقاض مصنع
مهجور من عشرات السنين.
يُحيلنا هذا المشهد فوراً إلى ذلك الشاب التونسيّ الذي
أحرق نفسه، ولكن، مع الأجواء الكابوسية التي نشاهدها
في هذه الافتتاحية، نعتقد أكثر بأننا سوف نشاهد فيلماً
تجري أحداثه بعد كارثةٍ ما، فيلمٌ كارثيّ، أو فيلم
رعبٍ ما بعد قياميّ.
سوف تلتصق هذه الصورة في أذهاننا حتى المشاهد
الختامية، ومنها رُبما نعرف، أو لا نعرف من هو هذا
الشخص الذي شاهدناه يحترق في بداية الفيلم، هل أحرق
نفسه، أم أحرقه الآخرون؟
وحالما تتلاحق المشاهد التالية، ندرك بأن السيناريو في
طريقة سرده قد أوقع المتفرج في شبكةٍ من التوقعات،
والافتراضات على عكس كلّ الأفلام المصرية التي تقدم
لنا الأحداث واضحةً، وبدون الحاجة للتفكير.
فيلم "ريش" قاتمٌ، سوداويٌّ لا يناسب جمهور الأفلام
المُزيّنة بمصابيح الأعراس الملونة، والمُعطرّة بماء
الورد.
*****
من بين المفاجآت التي أعلنها اليوم بعد أن هدأت عواصف
الكتابات المُتسرّعة، أو الهادئة عن الفيلم، هي
الإشارة إلى معلومةٍ لم تكن عابرة، وتحققتُ من
مصداقيّتها.
نعم، هناك فيلمٌ آخر (لن أشير إليه) يجمع بين طياته
مشاهد تُشكّل في مجموعها قصة "تحوّل رجلٍ إلى طير"،
وفي تلك اللحظة يقتل قاتلٌ مأجورٌ الساحر الذي كان منذ
لحظاتٍ يتباهى بقدرته على نجاحه في تنويم الرجل،
وتحويله.
بعد موت الساحر، أصبح من المستحيل عودة الرجل إلى
حالته الطبيعية.
تمضي الحكاية كما هي في فيلم "ريش"، تحاول الزوجة
إعادته إلى حالته الأصلية بدون جدوى، بينما في الفيلم
الآخر (الذي لن أشير إلى عنوانه) يتمكّن الرجل/الطير
من الطيران، والتحليق في سماء المدينة.
الطير هنا أكثر طموحاً من دجاجة "ريش" المُستكينة.
الفيلم (الذي لن أشير إلى عنوانه) يتضمّن هذه الحكاية
القصيرة من بين حكاياتٍ أخرى متشابكة، فانتازيّ أيضاً
في كلّ عناصره، وتصل فانتازيته إلى حدودٍ قصوى عبثية
تدعمها صياغاتٍ مسرحية لكل العناصر المشهدية في
الفيلم: ديكورات، ملابس، اكسسوارات، إضاءة، ألوان،
تمثيل.
بينما يرتكز "ريش" على حدودٍ أدنى من فانتازيا مغلفةً
بواقعيةٍ عابرة للزمان، والمكان، واقعية متخيلة.
لا أعرف إن كان عمر الزهيري والسيناريست الذي شاركه في
الكتابة قد شاهدا هذا الفيلم الذي أتحدث عنه اليوم، أم
لا؟
وفي كلّ الأحوال، الفيلمان مختلفان تماماً حتى مع هذا
التشابه في الجزء من الحكايات المُتشابكة، والذي يمكن
أن يعتبره البعض من محدودي الثقافة السينمائية علامةً
أدنى، ويستغلونها بطريقةٍ هجومية.
وأطمئن هؤلاء، (رُبما) هذه واحدةُ من المرجعيات
السينمائية لفيلم "ريش" الذي ينضح بمرجعياتٍ أخرى
تجعل، وقد جعلت منه علامةً، أو انعطافةً سوف تحفر
تأثيراتها الضمنية، والمُعلنة في مسيرة السينما
المصرية لاحقاً، أو بالأحرى قريباً.
*****
اليوم، أتخيل المخرج عمر الزهيري يشكر كلّ من هاجم
الفيلم بضراوة، وكان السبب في شهرته، ومشاهدته غير
القانونية، أو من ينتظر مشاهدته لاحقاً بطريقةٍ
قانونية.
وأتوقع بدل الشكر، أن يضع عمر في بيته تمثالاً لكل من
تسبب له في هذا النجاح، والشهرة التي لم تحدث لأيّ
فيلم آخر...نعم إنه نجاحٌ لم يحققه حتى فيلم "إسماعيل
رايح جاي"، ولا "صعيدي في الجامعة الأمريكية"...
مع المشاهدة غير القانونية لن يخسر المنتج، والممولين
إلاّ الجمهور المصري القليل جداً الذي كان من المُفترض
أن يشاهد الفيلم في صالات العرض المصرية، فقط خسارة
بعض آلاف الجنيهات كانت سوف تُصرف أضعاف أضعافها على
الدعاية.
ولكن، عمر الزهيري، والفيلم، والمنتج، والممولين كسبوا
مكاسب لا يمكن أن يحلم بها مخرجٌ آخر، وأدناه بعضها:
العروض التجارية في صالات العالم، وأولها في أوروبا.
شراء حقوق البثّ من عشرات قنوات التلفزيونات الأجنبية.
شراء حقوق العروض غير التجارية من المؤسّسات
السينمائية الكبرى.
حقوق توزيع الفيلم عن طريق د .ف .د.
حقوق عروضه في المنصات المتخصصة.
ولكن، المكسب الأكبر: أصبح من السهل جداً حصول المخرج
على تمويلاتٍ أجنبية لمشاريع قادمة، إن لم يكن قد حصل
عليها مسبقاً خلال عرضه في مهرجان كان.
ملاحظة: 99 بالمئة من المخرجين العرب يحلمون بالحصول
على هذه التمويلات، أما الـ 1 بالمئة فقد تركتها
احتياطاً لأيّ مخرج لا يسعى خلفها.. إن وُجد هذا
المخرج طبعاً. |