تعرض سينما الإمارات حالياً الفيلم العربي اللبناني
"كفرناحوم" من إخراج نادين لبكي،
نافس الفيلم على جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان
السينمائي للعام 2018م،
هو فيلمٌ اجتماعيٌّ إنسانيٌّ مأساويٌّ واقعيّ، بل شديد
الواقعية، بطله صبيٌّ في الثانية عشرة يُدعى زين، ليس
ممثلاً، ولم يمثل من قبل، إنه ولدٌ من أولاد الفقر خرج
من بيته بمأساة، وعاش في بيت قصديريٍّ في مأساةٍ أكبر،
قَدَّم الصبيّ في فيلم "كفر ناحوم" حياته كما عاشها في
شوارع البؤس والشقاء، نقل الفيلم الواقع من دون رتوش،
أخذ الطفل من الشارع إلى شاشات السينما،
ظهرت موهبة نادين لبكي في الإخراج، والسيناريو هي
وشركائها، وظهرت موهبتها بصورةٍ أوضح في تحليل الأثر
النفسي الذي يُحْدِثُهُ العَوَز، لم يكن سيناريو
الفيلم مفتعلاً، لكن أُعِدَّ فنياً ليكون قابلاً
للتمثيل، لم تقترب المخرجة من واقعية الأحداث، فقدمتها
كما عاشها الصبي، لذلك لم يكن للفيلم مؤلف، مؤلفه هو
الواقع المرّ المؤلم، تغلبت المخرجة على أَثَرَة
الفنان الذي يريد أن يترك بصمته في كلّ ما يبدعه،
أشعرتنا فلسفتها بأن الإضافة المفتعلة سوف تشوّه
الحقائق، شاهَدَتْ الأحداث، وتَتَبَعَتْها بكاميراتها
بحسّ الإنسان قبل إحساس المخرجة، نحن أمام فيلم موضوعه
الفقر، والبؤس، والحرمان، لكن ليس الفقر بالمنظور
التقليدي الذي يقتصر على الجوع، والعطش، والتشرّد،
صَوَّرَ الفيلم الفقر من زوايا إنسانية أكثر عمقاً من
الحرمان، ومن الغذاء والمأوى|، والملبس، كأنه تجاوز
أجساد الفقراء، واخترق مشاعرهم لينقل ما فيها من
معاناة، فتحول الفقر في الفيلم إلى قاتلٍ معنويٍّ شرس
يدمر كرامة، وإنسانية البشر، استطاع الفيلم أن يقدم
إلى عالم السينما رؤيةً إنسانيةً جديدةً خرج بها عن
المعتاد، كشف ما في الفقر من قدرةٍ على استئصال
المعاني الإنسانية، وطمر الطفولة.
أعْلَنَتْ مخرجته أن الفقير أينما كان، وفي أيّ زمنٍ
تسقط منه كينونته ككائنٍ اجتماعي،
إنها فلسفة العَوَز التي جعلت طفلاً لم يبلغ الثانية
عشرة من عمره هرِمَ العقل، والوجدان،
فإذا كان الكُفْرُ يجعل من الولدان شيباً يوم الحساب،
فقد شاب زين ابن الثانية عشرة حال حياته من دون أن
يكفر، ضًيَّقَتْ الدنيا الخَنَّاق على زين فنسيّ نفسه،
وعاش للآخرين، عاش غريباً في وطنه، فذهب للبحث عن وطنٍ
آخرٍ في أرضٍ غير أرضه، لم يَشْتَكِ من معدته الفارغة،
ولا من لسانه الذي يلهث، ولا من شكله الذي بات بائساً،
أدرك أن الفقر قد حاصره ليفرض عليه أن يمارس في الحياة
أدواراً تتجاوز عمره، أُمْلِي عليه أن يصبح أباً،
وأماً، وأخاً أكبر، وإنساناً يعتني بولد الغير، وكأنّ
هذا النموذج الصغير البائس يحمل أوجاع الناس على
كتفيه.
ما الذي سعى الفيلم إلى توصيله للناس؟
هل أراد أن يطلق رسالةً بأن زين ما هو إلاّ رمزٌ لمسيح
العصر؟!
كان زين حَسِن الخلق، واللفظ، يملك ما يملكه الفرسان
من أدبٍ، ونخوةٍ، ومروءة، وشهامة،
ثم حَوَّلَهُ الفقر إلى البذاءة، وسلاطة اللسان، وبيع
المهلوسات، والكذب، والسرقة اضطراراً،
هل أراد الفيلم بطرح قضية زين أن يقول إن هذا هو
الواقع في زمن التهجير، والعشوائيات؟
أكدّ الفيلم على أن الانحراف الاضطراري لزين لم يكن
بسبب سوء تربيته، لقد ضغط عليه الفقر، وحاصره في بيت
أبيه، وفي الشوارع، والأسواق، وأمام السلطات، نسف هذا
الطفل نظرية المجرم بالفطرة، أو بالميلاد من جذورها،
أثبت من الواقع، ومن الشارع، ومن الحياة البائسة التي
عاشها أن الانحراف مكتسب تفرضه البيئة، والظروف
المحيطة بها، طفلٌ ترعرع في كنف أسرة تعيش ظروفاً
مأساوية طاحنة، فأنَّى لها أن تُنَشِّيءَ طفلاً بهذا
الخلق القويم، والتهذيب في تعامله مع الناس، إنها
الفطرة النقية جعلت من زين طفلاً مهذباً، لكن الضغط
الاجتماعي جعله سليط اللسان جانحاً.
من زاويةٍ أخرى، لِمَ اختارت المخرجة لفيلمها هذا
الاسم "كفر ناحوم"؟
هل أرادت إضفاء مسحة من القدسية على العمل باعتبار
ورود الاسم بالكتاب المقدس؟
في اعتقادي أن الفيلم تجاوز هذه الحدود كلها، بل
وتجاوز حدود المكان أيضاً، فالفقر هو الفقر أينما وجد،
وأثره هو الأثر نفسه مهما اختلفت الأوساط، ليس من
الحكمة أن تُسْأَل المخرجة عن المجتمع الذي قصدته في
فيلمها، وليس من الحكمة أيضاً أن تُسأَل عن النظام
الذي أشار إليه الفيلم، الفيلم بعيدٌ كلّ البعد عن تلك
التلميحات التي تثير جدلاً عقيماً، الواضح أن زين،
بالنسبة لرؤية المخرجة، هو أيقونة الفقر المعاصر في كل
الأماكن، هو الفقر الذي يتجاوز الانحسار في مجتمع
بعينه، وفي نظام دون آخر، الفقر الذي يتجاوز حدود
المعدة الخاوية، وانقطاع المأوى،
إنه الفقر الذي يُفسد الأخلاق، يؤذي المشاعر، يبدد
الكرامة، يعطّب الطفولة، ولا حرج، الفقر الذي ينخر في
النفس الإنسانية، فيؤذيها، ويدمرها مع مرور الوقت
كالجرعات المخدرة.
دخل فكر نادين في الفيلم حول فلسفة الفقر مع فكر
دوستوفيسكي في سجال، فالأديب الروسي ربط بين الفقر،
والجريمة في رائعته "الجريمة والعقاب"، فحيث يوجد
الفقر، توجد الجريمة بمختلف أنواعها في نظر الفيلسوف
الروسي، جَعَلَ دوستوفيسكي من الشاب المهذب المتعلم
"رودريك راسكولنيكوف" قاتلاً، قَتَلَ العجوز المرابية
بسبب الفقر، وجَعَلَ أخته الصغيرة تحترف الدعارة بسبب
الفقر، وربطت لبكي بين الفقر، والتأثيريّن الوجداني
والنفسي، فحيث يوجد الفقر توجد الأمراض الاجتماعية،
والنفسية، ومن بينها الجريمة بطبيعة الحال، عايَنَتْ
الفقر، وقد قَلَبَ البيوت إلى حظائر، رَمَقَتْ
الشوارع، وقد تحولت إلى مستنقعاتٍ، وبؤرٍ للانحراف
الاجتماعي والأخلاقي، تَأَمَّلَتْ في براءة الطفولة
التي تبدلت إلى انكسار، وحسرة، سَجَّلَتْ للتاريخ أن
الفقر جَعَلَ طفلةً حُبْلَى ثم أَمَاتَها قبل أن تضع
مولودها، أشْهَدَتْ العالم على أن الذين ألجأهم الفقر
يُحْبَسون فيما يشبه المحاجر الصحية، كأنّ هؤلاء
مصابون بأمراضٍ وبائية يُخْشَى من انتشارها،
ثم رأت أن الفقر لا يترك أثره على سلوك البشر فحسب، بل
يُحْدِثُ تأثيره في الحيوانات الضالة أيضاً، مشهد كلبة
بضُرُوعٍ متدلية ذابلة تهيم في شوارع فقيرة بحثاً عما
تقتات به لترضع جرائها،
لم تكن كلبة بلون واحد، بل كانت مرقطة بالأبيض
والأسود، ولهذا دلالة، ومغزى، إنه رمز للفقر في مختلف
الأماكن، ولمختلف الأجناس، لا فرق في تأثيره بين
الأبيض والأسود،
وتجسدت الرمزية أيضاً في الطفلين، زين الأبيض، ويوناس
الرضيع المُلون الذي اعتنى به زين،
عمّم الفيلم في رمزيته عن الفقر لتشمل الأبيض والأسود
وما بينهما من الألوان، هنا كمنت الروح الإنسانية
بعيداً عن الفن الإخراجي، وتقنياته، وهنا كان الطرح
الجديد لفلسفة العَوَز، فلسفة أهداها الواقع للمخرجة،
فعرفت من أين تقرأه قراءة متعمقة دقيقة، وجديدة. |