سينما الهوى، والحبّ، والذكريات
عوض القدرو /سورية
"زبال إفرنجي"، رُبما هو عنوانٌ غريبٌ، ولكنه حقيقيّ،
كان يقوله بعض الارستقراطيين الذين كانوا يرتادون
السينما.
حظي الجميل، وقدري الأجمل، أنّ والدي ـ رحمه الله ـ
أعطاني زاداً لحياتي قد يكون الحسنة الوحيدة فيها،
عرفتُ من خلاله أجمل حياة يمكن أن يتخيلها، أو يعيشها
المرء.
كنت أسأله دائماً عن السينما فقط، وعن أصدقائه عمال
صالات السينما، وموزعي الأفلام.
ذات يومٍ كنت أجلس بجانبه أمام باب سينما الأهرام في
دمشق، فوجدت رجلاً اقترب مني، ووضع يده على رأسي، وقال
لأبي:
ـ شو عم بتعلمه ها المرض (يقصد العمل في السينما).
ضحك أبي، وقال له:
ـ نحنا أيامنا ما رح ترجع.
وتحادثا قليلاً، وذهب الرجل، وظلت ابتسامة أبي موجودة.
سألته: من هذا الرجل؟
قال لي: هذا رفيقي من زمان، من أيام سينما الشرق
(بيبلوس حالياً، موجودة في أول نزلة شارع رامي الذي
يصل شارع النصر بساحة المرجة، وهي مغلقة حالياً).
وأكمل: هاد اتعرّف على زوجنه الحالية بالسينما، وتعذب
كتير مع أبوها لحتى وافق.
قلت له: كيف؟
قال: هو كان موظف بالسينما بيشتغل (بلاسور).
سألته: شو يعني بلاسور؟
أجابني: هو الرجل الذي يُجلس الناس في مقاعدهم
المخصصة، وفي ناس بتقله عامل البيل، كونه يحمل بيلاً
يضيء به للناس أثناء عرض الفيلم لكي يجلسوا في امكانهم
عندما يدخلون بعد أن يبدأ عرض الفيلم.
وحكى لي الحكاية: كانت زوجته الحالية تتردد مع أهلها
إلى السينما لحضور بعض الأفلام العربية التي كانت
رائجة في فترة الخمسينيّات، والستينيّات، وبطبيعة عمله
في السينما، حصل بينهما استلطاف، ونظرات، وأصبح موعد
قدوم تلك الفتاة مع أهلها للسينما موعداً مقدساً لذلك
العامل، ونشأت قصة حبٍّ جميلة بينهما، فكلم أمها التي
كانت ترافق بناتها في الحضور للسينما، وأفصح لها عن
رغبته بخطبة ابنتها، فرحبت الأم بذلك، وأعطته عنوان
منزلهم، وتمّ تحديد موعد لخطبة البنت، وأخذ الشاب
أهله، وذهبوا لخطبتها.
وفي جلسة الخطبة، سأل والد الفتاة هذا الشاب الذي يعمل
في السينما عن عمله، وماذا يعمل في الحياة على اعتبار
أن الأب لا يعرف طريقة تعارف الشاب بالفتاة.
فأجابه الشاب: أعمل بالسينما.
سأله الأب: شو عملك بالسينما؟
قال له الشاب بطريقةٍ فيها شيء من الزهوّ، والافتخار:
(بلاسور).
قال له الأب: يعني بتقعد الناس على البيل.
وبخجل، أجابه الشاب: نعم.
فقال له الأب، وبدون أي خجل: لك ابني ليش هالفزلكة
تبعك هي، خلص، قول انا بشتغل زبال أفرنجي.
هنا تدّخل والد الشاب: لا، شو زبال، ابني مو زبال.
فسأل والد الفتاة: انتو بس تطلع العالم من السينما، مو
انتو يلي بتقعدو الناس بالبيل بتكنسوا، وبتنضفوا
السينما منشان الحفلة الجاي تكون السينما نضيفة؟
فأجابه الشاب بخجل: نعم.
فقال له والد الفتاة: إي، معناتا انت زبال افرنجي،
بتكنس جوا السينما، وماحدا بيشوفك....مالك نصيب عندنا
يا ابني، روح.
وبالطبع، في اليوم التالي جاء الشاب للسينما، وحكى
لأصدقائه ما حصل معه، وأصبح اضحوكة صالات السينما، حيث
أن القصة انتشرت بين كلّ عمال صالات السينما في دمشق،
وأصبحوا ينادونه "الزبال الافرنجي".
ولكن، لاحقاً تزوج من تلك الفتاة بعد أن أخذ صاحب
السينما لبيت أهلها الفتاة كي يقنعهم، وفيما بعد،
تعرفتُ على هذا الرجل، وكان قد تعلم مهنة العرض
السينمائي، وأصبح عارضاً سينمائياً في سينما الأمير في
دمشق مدخل طريق الصالحية، وتوفيّ في بداية عام 2010
بعد عام من وفاة والدي.
أستطيع القول، كانت صالة السينما أشبه بالرحم الذي
يجمع العشاق على الشاشة من خلال الأفلام المعروضة،
وعشاق على كراسي السينما. |