من أكثر المُلاحظات التي لفتت أنظار ضيوف الدورة
العشرين لأيام قرطاج السينمائية، هي إقبال الجمهور
التونسيّ على متابعة الأفلام التي عُرضت في المُسابقة
الرسمية، وخارجها، وخاصّةً التونسية منها، ..
إلى درجة لم يتمكن الصحفيّون، والإعلاميّون،
والسينمائيّون من مشاهدة بعض الأفلام بسبب الزحام
الشديد أمام الصالات، وداخلها، وحالة القاعات، وظروف
العروض.
وقد لاحظنا جليّاً، بأنّ مشرفي القاعات يفضلون دخول
المتفرجين الذين حصلوا على تذاكر مدفوعة عن ضيوف
المهرجان الذين حضروا تونس لهذا الغرض، وكانوا
يرفضونهم بشدةٍ، وعنفٍ، وفظاظة، ومن أجل هذا السبب،
اتسمت أجواء المهرجان بالتذمّر، والفوضى، إذّ لم يعدّ
بالإمكان الانضباط في برمجة يومية مُحدّدة، تتفق مع
المواعيد، واللقاءات الاحترافية، والشخصية، وأصبحت
متابعة الأفلام حالةً ثانويةً تعتمد على الصدفة،
والمزاج.
ومن حالفه الحظّ بالدخول إلى إحدى القاعات لمُشاهدة
فيلمٍ ما، أصابه الإحباط سريعاً بسبب تأخير العرض
مرةً، والأجواء الحارّة، والخانقة مرةً أخرى، ورنين
الهواتف المحمولة، والتعليقات، والأحاديث الجانبية في
مراتٍ كثيرة،....وهي الإشكالية الرئيسية التي تشغل
بالي منذ وقتٍ طويل، ويبدو بأنّ هذه السلوكيات هي
بمثابة ظاهرة عامة في كلّ الوطن العربيّ من مشرقه إلى
مغربه، وهي وحدها تحوّل أيّ (تظاهرة سينمائية) أساسها
الصورة إلى (ظاهرةٍ صوتية) مناسبة للحفلات، والأعراس،
والسهرات الترفيهية.
في إحدى دورات مهرجان القاهرة السينمائيّ، وفي القاعة
المُخصّصة للصحفيين، كنتُ أخرج من الصالة بعد ربع
ساعةٍ من العرض، ومع المرة السابعة، قررتُ بأن لا
أشاهد أيّ فيلم، وليكن ما يكون ..
فقد تبيّن لي، بأنه لا فائدة من النرفزة، ولا الطلبات
اللطيفة، أو العنيفة بغلق التلفونات المحمولة،
والامتناع عن الأحاديث الجانبية، ولا داعي للتعبير عن
الغضب، والضيق بعباراتٍ من نوع: ما هذا السلوك
المُتخلف؟
أو تستخدمون أحدث تقنيات الاتصال، ولكن، مازلتم
متخلفين في عقولكم، ودواخلكم....
فقد انقلبت عبارات الاستيّاء هذه ضدّي، وانتقلت فوراً
إلى شريف الشوباشي مدير المهرجان وقتذاك ـ، مع قليلٍ
من التعديل، والبهارات، فوصلت:
يقول صلاح سرميني: بأننا شعبٌ متخلف.
ولولا تقديم نفسي للشوباشي، وإفهامه بأنني درستُ في
مصر، وجمعتني صداقاتٍ مع الوسط السينمائيّ المصري،
واحتفظتُ باللهجة المصرية مع المصريين، وحتى اليوم،
يعتقد البعض منهم بأنني مصريّ، آخرهم الصحفية المصرية
ماجدة موريس، عندما قالت لي قبل ساعاتٍ من مغادرتها
تونس:
ـ والله، كنت فاكراك مصريّ يا صلاح.
لولا ذلك، ربما أدرج شريف الشوباشي اسمي في اللائحة
السوداء للمهرجان، وربما في مصر كلها.
نفس الحالة الانفعالية حدثت معي في قاعة (المُجمّع
الثقافيّ) في أبو ظبي خلال متابعتي للدورة الثالثة
لمُسابقة أفلام من الإمارات، لم أستطع إكمال مشاهدة
فيلم (زائر) لمخرجه البحرينيّ بسام الذوادي، فقد كانت
أحدث التلفونات المحمولة ترّن في أرجاء الصالة،
وبنغماتٍ مختلفة، تختلط مع الأحاديث المُتبادلة بين
شلل الأصدقاء.
في ذلك اليوم، خرجتُ، وأنا أشتمُ، وألعنُ التقنيات
الجديدة، والسلوكيّات المُتخلفة، وكان يقف أمام باب
القاعة بسام الذوادي نفسه.
بعد تلك المُعاناة الصوتية، نصحني مسعود أمر الله آل
علي ـ مدير المُسابقة وقتذاك ـ بمشاهدة الأفلام من
البلكون، وفعلاً ، تخيّرت ذلك الحلّ، وفرحتُ كثيراً،
فقد كنتُ لوحدي تماماً، حتى جاء أحد أفراد الشرطة،
وجلس على بُعد مقاعد مني، وحمدتُ ربي بأنه سوف يحميني
من (التلوث الصوتيّ)، وبعد فترة هدوء، كنتُ أستمتعُ
فيها بمشاهدة أحد الأفلام، ....وفجأةً، انطلقت أصواتٌ
عالية غير مفهومة من جهاز لاسلكيّ بحوزته، كانت أكثر
غرابةً، وصخباً، وإزعاجاً من كلّ التلفونات المحمولة
التي كنتُ أسمعها في الصالة، وبدوره، بدأ بالردّ
عليها، ولم أتجرأ على الاستنكار، إنه شرطيّ، وأنا
أرتعبُ من خيال أيّ شرطيّ عربيّ، فنهضتُ، ولعنتُ حظي،
وذهبتُ مباشرةً إلى مكتب مسعود، لأحكي له عما حدث، كان
يتربّع على كرسيه خلف الكمبيوتر، ويستمع لي بهدوءٍ
قاتل، وما أن انتهيت، حتى وجدته يقهقه بصوتٍ عال.
وفي إحدى عروض الدورة الرابعة لمهرجان الفيلم العربي
في روتردام، وأثناء مشاهدة فيلم (طيارة من ورق)
لمخرجته اللبنانية الراحلة رندة شهال ـ صباغ، كان أحد
المصريين يتحدث باستمرار مع صديقٍ يجلس بجانبه، ولم
يتوقف عن استقبال المكالمات الهاتفية، أو الاتصال، حتى
انفجرتُ، ووقفتُ في الصالة المُعتمة أطلب منهُ بأن
يكفّ عن هذا الإزعاج، فما كان منه إلاّ أن صرخ في
وجهي:
ـ وإيه يعني لما نتكلم في التلفون، إحنا بنشوف فيلم،
ولاّ بنقرا قرآن،....
ولكم أن تتخيلوا ماذا حدث بعدها، وكلّ من حضر ذلك
العرض يتذكر ردود فعلي نحوه، ولم أعفيه منها خلال فترة
الاستراحة ما بين فيلم، وآخر.
وبصراحة، لم يكن موقفي بطولةً مني، فقد كان رياضياً،
قوياً، ضخم الجثة، ولكن تعاطف الآخرين معي شجعني على
تلقينه درساً لفظياً لن ينساه طوال حياته.
الغريبُ في الأمر، أنّه في كلّ الحالات، وعلى الرغم من
ردود فعلي الغاضبة، والعنيفة، والعدوانية أحياناً،...
يأتي هؤلاء للاعتذار، ومُصالحتي، ودعوتي على غداءٍ، أو
عشاءٍ، أو فنجان قهوة.
في الحقيقة، لم يدرك هؤلاء بأنني أفتعل كلّ هذه
المشاكل، فقط من أجل دعوتي على غداءٍ، أو عشاءٍ، أو
حتى فنجان قهوة. |