[المخرجة
أنجيلا بوب Pope توجّه
نظرة خاصة، حميمية، لفيلم المخرج البولندي الراحل
كشيشتوف كيشلوفْسكي Krzysztof
Kieslowski “ثلاثة
ألوان: الأزرق”، معبّرة عن انطباعاتها الشخصية بشأن
التأثير العميق لهذا الفيلم.
أنجيلا بريطانية من مواليد 1945، حققت أفلاماً
وثائقية، وأفلاماً للتلفزيون. من بين أفلامها
السينمائية]:
Captive (1994) Hollow Reed (1996)
*****
مشاهدة فيلم “ثلاثة ألوان: الأزرق”، مرّة أخرى، جعلتني
أشعر بأن كيشلوفْسكي كان يتحدّث إليّ على نحو مباشر.
إنها حيلة بارعة قام بها ولا أعرف كيف فعلها. الشخصيات
لا تشبهني، مآزقها اليومية ليست كتلك التي تصادفني، مع
ذلك، وبطريقة ما، كنت أنسجم معها وأتّحد بها. إنه –
الفيلم – يزحف نحو أحشائك، ويلامس شيئاً عميقاً في
الداخل، شيئاً هو وراء نطاق العقل، وهو أحياناً متوارٍ
في العمق.
من بين أفلام الثلاثية، ذات الألوان المختلفة، الأحمر
أعجبني كثيراً، والأبيض أضحكني كثيراً، لكن الأزرق
أسرني على نحو غامر.. ولديّ المبرّر الذي يجعلني أجده
كذلك.
الفيلم عن جولي (جولييت بينوش) التي تنجو من حادثة سير
يروح ضحيتها زوجها الموسيقار وطفلها. هي لا تستطيع أن
تتحمّل حياتها الراهنة، لذا تقرّر أن تحرّر نفسها من
الألم بالانفصال عن الماضي.
فيلم “ثلاثة ألوان: الأزرق” هو – على نحو يفسح المجال
لتأويلات مختلفة – الجزء الذي يتصل بالحرية.. كما يرمز
إليه لون العلم الفرنسي. جولي تغادر بيتها منتقلة إلى
مكان آخر، وتبيع ممتلكاتها. وهي سوف لن تنغمس في
الذاكرة، بل تقرّر محوها، وطمس كل ما يتصل بالماضي.
زوجي مات بعد إصابته باللوكيميا (سرطان الدم). حدث ذلك
قبل مشاهدتي لفيلم “الأزرق” بفترة طويلة. عشت 18 شهراً
وأنا أتأرجح بين الأمل واليأس.. ثم فجأة، انتهى كل
شيء، انقضى إلى الأبد. خلال ذلك لم أعرض ممتلكاتي
للبيع، لم أرحل، لم انتقل إلى مكان آخر، ولم احاول أن
أمحو الماضي. لم أكن بحاجة إلى ذلك لأنني لم أستطع
تذكّر كل شيء، رغم أني حاولت جاهدةً. كنت ارتدي
ملابسه، أقرأ الكتب التي قرأها، احاول أن اتحدث كما
كان هو يتحدّث، وأفكر كما كان يفكر.. لكن لا شيء من
هذا كان مجدياً. الذكريات ظلت ممحية في عناد. وفي
مرحلة لاحقة، كانت هذه الذكريات تعود دونما أي استحضار
من جانبي، وبضراوة مروّعة.
هذا ما كان يحدث سرّاً، في حياتي الخاصة. أما في
الحياة العامة، فقد كان الحل – كالعادة – في الاستغراق
في العمل على نحو مفرط، وإلى درجة غير سوية. الحياة
كانت عبارة عن أبهة فارغة، مرئية من خلال النافذة. لم
أكن أستطيع أن الامس هذه الحياة، أو أن أشمها، أو
انخرط فيها. كنت أقف خارج الجنس البشري، راغبةً في
المحافظة على المسافة بيننا، ومكتفيةً بما لديّ.
لكن لا شيء يبقى كما هو. فجأة، ودونما توقّع، شعور ما
سوف يأتي من مكانٍ ما: وحدة، خوف، مرارة، غضب. مشاعر
بغيضة، لكن من خلالها، وعلى مضض، تعرفين أنك قد عدت
ثانيةً لممارسة مهنة العيش.
هذه هي قصة “ثلاثة ألوان: الأزرق”. إنها مختلفة في
التفاصيل عن قصتي لكنها جوهرياً هي ذاتها. إنها تقول
لنا أن الحياة سوف تستمر رغم كل شيء، وفيما يحيا
المرء، لا يكون لديه أي خيار غير أن يكون جزءاً منها.
كيشلوفْسكي يروي قصته برهافة شديدة، وغالباً من خلال
أحداث صغيرة، دنيوية، متصلة بالواقع. في منتصف الليل،
وعلى نحو غير مقصود، ينغلق باب شقتها وهي في الخارج،
فلا تتمكن من الدخول. إنها تجلس على الدرج، منتظرةً،
فيما الظلمة تغمرها. في الأسفل تلمح المومس وهي تُدخل
زبوناً على نحو سرّي، من دون أن تشعر بوجود جولي.
في ما بعد، جولي تكتشف وجود فئران في شقتها. الأم مع
صغارها. جولي تشعر بالفزع، لكنها لا تستطيع قتل
الفئران.