جان- لوك جودار واحد من الشخصيات البارزة والهامة في
تاريخ السينما، وفي الثقافة السينمائية. وهو عامل
أساسي، لا غنى عنه، في فهمنا لما تكونه السينما، لجوهر
وطبيعة السينما.
وهو من أكثر الشخصيات السينمائية تأثيراً وإثارة
للخلاف والجدل. فنان مبدع، مبتكر، مجدّد على نحو
جذري، غزير الإنتاج. بأفلامه العديدة والمتنوعة، وعبر
عقود خمسة، استمر في سبر واستجواب وظيفة السينما،
وأراد أن يتحرى طبيعة الوسط السينمائي نفسه، ونجح في
اقتحام تخوم جديدة في شكل الفيلم. وقد مارس تأثيراً
كبيراً على عدد لا يحصى من فناني السينما في أنحاء
العالم، خصوصاً في فترة الستينيات.
لقد جعل من مهمته كناقد وكمخرج سينمائي أن يرجّ، على
نحو جذري، الصياغات والوصفات الراسخة. وأن ينشّط
أفكاراً ورؤى جديدة بشأن شكل السرد ومونتاج الفيلم.
هكذا ساهم منذ أول أفلامه في تجديد لغة السينما، وفي
انتهاك "قوانين" صنع الأفلام، ودحض ما كان يُرى في
السابق على أنه الصواب في كيفية تصوير مشاهد ولقطات
معينة، وتحطيم الأطر التقليدية.. سواء في السرد أو
استخدام الصوت والحوار أو توظيف الموسيقى والمؤثرات
الصوتية أو في المونتاج وعلاقات الصور وإيقاعاتها،
خالقاً أشكالاً جديدة، وفاتحاً نطاقاً هائلاً
لإمكانيات التقنية. وقد ذكر في إحدى مقابلاته أنه يبحث
عن "أبجدية جديدة في لغة السينما". يقول (Los
Angeles Free Press, march 1968):
"منذ اختراع الأفلام الناطقة ونحن ننفّذ 10 أو 15 في
المئة فقط مما يمكن عمله في السينما. نحن لا نستخدم
السينما على نحو كامل. في كل مرّة أشاهد فيلماً
صامتاً، أشعر بالدهشة والذهول إزاء التنوّع والاختلاف
بين مخرجي تلك الأفلام. مورناو، كمثال، كان مختلفاً
كثيراً عن جريفيث. بينما الأفلام الناطقة تبدو متشابهة
كثيراً".
لقد كان جودار يرى ضرورة فهم العلاقة بين الصورة
والصوت، وبالتالي فهْم اللغة التي تنتج هذه الصورة
وهذه الأصوات، وهو اقترح ضرورة العودة إلى نقطة الصفر.
من هنا بدأ جودار في استقصاء لغة الفيلم.. هذا
الاستقصاء الذي هو – كما أشار بيتر وولن في كتابه "Signs
and Meaning in the Cinema"،
الصادر في 1969- ربما أكثر الاستقصاءات وعياً وصرامةً
في تاريخ السينما.
على الصعيد الشخصي، جودار متقلب المزاج، متحفظ، غير
اجتماعي ولا يظهر مبالاة إزاء الأعراف والتقاليد
الاجتماعية، كما أنه لا يحتمل الإطراء والتملق.
ولد جودار في باريس، في 3 ديسمبر من العام 1930. والده
طبيب، ذو خلفية بروتستانتية. بعد عام انتقلت العائلة
إلى سويسرا عندما فتح الأب عيادة هناك. عاش جودار
سنوات طفولته ومراهقته متنقلاً بين سويسرا وفرنسا.
من 1940 إلى 1946 درس في نيون بسويسرا، ونال الجنسية
السويسرية. من 1948 إلى 1952 نال شهادة الباكالوريا في
باريس، والتحق بالسوربون ليدرس الاثنولوجيا (علم
الأعراق البشرية). خلال ذلك انشغل بالفن والكتابة، على
سبيل الهواية، وبدأ مرحلة كثيفة من تعليم الذات
بمشاهدة الأفلام في السينماتيك والأندية السينمائية
الأخرى، حيث صادق عدداً من المهتمين الذين سوف يصبحون،
بعد سنوات قليلة، من مخرجي الموجة الجديدة: تروفو،
أريك رومر، جاك ريفيت، شابرول وغيرهم.
في تلك الفترة سافر إلى جامايكا مع أبيه، وتنقّل بين
بلدان أمريكا اللاتينية، ثم عاد إلى فرنسا وساهم
بالكتابة في مجلة سينمائية شهرية، تابعة لنادٍ سينمائي
في الحي اللاتيني، بعنوان
La Gazette du Cinema،
كان يحررها الناقد (الذي سيصبح في ما بعد مخرجاً
كبيراً) إيريك رومر. وقد صدر منها خمسة أعداد في 1950،
نشر فيها جودار العديد من المقالات، بعضها موقعة باسم
مستعار: هانز لوكا.. كما مثّل في فيلمين قصيرين،
أحدهما من إخراج ريفيت في 1950، والآخر لرومر في 1951.
في 1952 بدأ في نشر مقالاته النقدية في كاييه دو
سينما.
في سنوات الحرب العالمية الثانية وما بعدها، فقدت
السينما الفرنسية بريقها، خصوصا مع هجرة أهم المخرجين
إلى أمريكا في الأربعينيات (رينوار، رينيه كلير،
دوفيفييه، ماكس أوفولس) وعدم استعجالهم في العودة إلى
فرنسا بعد التحرير وانتهاء الحرب.
في تلك الفترة بدأ النقد السينمائي في فرنسا ينشط
ويكوّن حضورا هاماً ومؤثراً. صدرت العديد من المجلات
السينمائية التي ساهمت فيها أقلام نقدية بارزة كانت
تبحث عن ما هو جديد ومختلف وحيوي وفعال. في أبريل 1951
صدر العدد الأول من المجلة السينمائية الشهيرة "كاييه
دو سينما" التي انفتحت على ما هو جديد وغير تقليدي.
وبدأت تتوافد إلى المجلة (وإلى مجلات سينمائية موازية
أخرى) أسماء شابة، فعالة، تحمل قيماً فنيةً جديدة، وهي
التي سوف تخلق، بعد سنوات قليلة، سينما جديدة أكثر
ثورية على صعيدي الشكل والمحتوى: جاك ريفيت، إيريك
رومر، فرانسوا تروفو وغيرهم.
جان لوك جودار كان من ضمن هذه الأسماء. هو بدأ كتابة
النقد السينمائي، شاباً في العشرين. وكانت كتاباته
العتبة الأولى لتحقيق طموحه في أن يصبح مخرجاً
سينمائياً.
يقول جودار (كاييه دو سينما، العدد 138، ديسمبر 1962):
"جميعنا، نقاد كاييه دو سينما، كنا نحسب أنفسنا مخرجين
مستقبليين. ارتيادنا، على نحو دائم، صالات السينما
وأندية السينما، كان في ذلك الحين وسيلة للتفكير في
السينما والتفكير بشأن السينما. النقد كان الخطوة
الأولى نحو صنع الأفلام".
في كتاباته النقدية، وجّه جودار (وكذلك فعل تروفو)
هجوماً ضارياً على أسلافهم من المخرجين الفرنسيين
التقليدييين، في حين كال المديح لعدد من المخرجين
الأمريكان الذين لم يكتشف الأمريكان بعد أهميتهم
وقدراتهم الإبداعية، ولم يروا بعد المكانة البارزة
التي سوف يحتلونها مستقبلاً في المشهد السينمائي
العالمي.. مخرجون من أصحاب الرؤى الخاصة العميقة:
هيتشكوك، هوارد هوكس، نيكولاس ري، صمويل فولر..
وآخرون.
يقول جودار (المصدر نفسه): "النقد علمنا أن نعجب بجان
روش وإيزنشتاين معاً. منه تعلمنا ألا نرفض مظهراً من
السينما لصالح مظهر آخر. منه أيضاً تعلمنا أن نحقق
أفلاماً من منظور معيّن، وأن نعرف بأنه عند تنفيذ شيء
فمن غير المجدي فعله ثانيةً (..) إن ما ميّز نقاد
(كاييه) عن البقية هو مبدأنا المدحي، التمجيدي، في
النقد: إذا أحببت فيلماً، أكتب عنه. إذا لم تحبه، فلا
ترهق نفسك في تمزيقه إرباً".
ويضيف جودار (Sight
and Sound, Winter 1966):
"جميعنا كنا نقاداً قبل البدء في صنع الأفلام. وشخصياً
كنت أحب كل الأنواع في السينما: الروسية، الأمريكية،
الواقعية الجديدة. السينما هي التي جعلتنا – أو
جعلتني، على الأقل – أرغب في تحقيق الأفلام. أنا لم
أكن أعرف شيئاً عن الحياة إلا من خلال السينما. لم أكن
أرى الأشياء في علاقتها بالعالم أو الحياة أو التاريخ،
بل في علاقتها بالسينما".
جودار لم يتوقف عن ممارسة النقد. هو من بين مخرجين-
نقاد قلائل (مثل فرانسوا تروفو، لوك موليه، أوليفييه
أساياس) لم يتخلوا عن كتابة النقد. إنها مسألة موقف
بقدر ما هي ممارسة، وهو بذلك يطبق مفهومه الذي اقتنع
به منذ بداية مسيرته الفنية، حيث كان يرى في النقد
وصنع الأفلام ترجمتين لنفس الفعالية.
في 1954 انتقل إلى سويسرا وهناك كتب وأنتج وأخرج، وقام
بمونتاج، فيلمه الوثائقي الأول (البناء) عن بناء سد في
سويسرا. وفي العام التالي كتب وأنتج وأخرج ومثّل ومنتج
فيلمه الدرامي القصير الأول، المأخوذ عن قصة موباسان،
"امرأة دلوعة".
في 1956 أقام بشكل دائم في باريس، حيث ساعده شابرول في
الحصول على عمل في دائرة الإعلام بشركة فوكس
السينمائية الأمريكية. ودون أن ينقطع عن كتابة النقد
السينمائي حقق فيلمين قصيرين هما "كل الشبان اسمهم
باتريك" و "قصة ماء" (1958)
في العام 1959 حقق أول أفلامه الطويلة "على آخر نفس"
الذي أثار جدلاً واسعاً لجدتّه وجرأته في الأسلوب. وقد
مثّل الفيلم ثورة حقيقية في لغة السينما، وبه تكرّس
جودار كواحد من أبرز وأهم مخرجي السينما الجديدة في
فرنسا.
في الستينيات حقق أفلاماً متميزة بأساليبها الجديدة
ومعالجاتها المغايرة للسينما السائدة، والتي تعتبر
الآن من كلاسيكيات السينما. أفلام مثل: الاحتقار
(1963)، بييرو المجنون (1965)، مذكر – مؤنث (1966)
شيئان أو ثلاثة أعرفهم عنها (1966) عطلة نهاية الأسبوع
Week-end
(1967).. هذه الأفلام كان لها تأثير هائل على
السينمائيين والثقافة السينمائية. وقد عبّر برناردو
برتولوتشي صراحةً عن ذلك حين قال: "نحن جميعاً أردنا
أن نكون جان-لوك جودار".
مباشرة بعد انتفاضة الطلبة في مايو 1968 تحوّل جودار
إلى صنع أفلام "نضالية" سياسياً مع جان-بيير جورين من
1969 إلى 1972. تلت ذلك مرحلة التحول إلى الفيديو في
1974 مع آن-ماري مايفييه وقدّم أعمالاً تجريبية. في
بداية الثمانينيات، عاد إلى طرائق السينما "السائدة"
لكن من دون التنازل عن نزوعه التجريبي الحداثي. |