معروف عن أفلام أندريه تاركوفسكي
Tarkovsky
أنها مغمورة بما يسميه هو "المناخ الحلمي" – التأثير
الشبيه بالحلم – الذي يقاوم حاجة الجمهور إلى التأكد
من صحة منطق ومصداقية الأحداث المعروضة على الشاشة.
لقد نجح تاركوفسكي، بالذات في "المرآة"
The Mirror
(75- 1978) و
Stalker
(1980)، في التعبير عن أحلام اليقظة بشأن الماضي
والمستقبل من خلال وسائل سينمائية خالصة: متمماً
التعبير الشفهي بواسطة وسائل سمعية بصرية، هو ينجز
التنسيق الحركي الذي تتم تجربته على مستوى المحرّك
الحسي، غالباً بسبب حركة الكاميرا المتواصلة، اللحوحة،
عبر الفضاء.
بدلاً من التحكم في اهتمام المتفرج عن طريق القطع من
صورة إلى أخرى، يؤكد تاركوفسكي على الطبيعة المؤقتة أو
الزائلة للواقع، والذي بواسطته هو يتخطى الدلالة
المألوفة والاعتيادية للمواد الملموسة من أجل بلوغ شيء
تهمله العين المجردة وتستخف به، أو يبدو غريباً وغير
مألوف عند النظر إليه وملاحظته.
على الرغم من كل المعاني المتضمنة، الاجتماعية وتلك
المتصلة بالسيرة الذاتية، فإن "المرآة" هو فيلم حلمي
بامتياز، يعكس ما يتذكره مبدعه عن مرحلة شبابه، بينما
فيلمه
Stalker
– الذي يُقرأ عادةً كفنتازيا تنتمي إلى الخيال العلمي
– هو حدس هذياني عن عالم "يمثل واقع حياة الفنان
الباطنية" (كما يقول تاركوفسكي في كتابه "النحت في
الزمن").
في هذين الفيلمين، تنفيذ اللقطات، خصوصاً كثافتها
الحركية، هو الذي يجعل الأشياء أو الأحداث، المعروضة
على الشاشة، تبدو متخيلة وواقعية معاً. إن معالجة
تاركوفسكي للقطات المصاحبة
tracking
وتفاعلها مع الحركة ضمن اللقطة، إضافة إلى المعالجة
اللونية للصورة، تتعارض مباشرة مع التضارب
الإيزنشتايني (نسبةً إلى إيزنشتاين) الذي ينتجه تجاور
لقطات ساكنة. في كتابه "النحت في الزمن" يعلن
تاركوفسكي على نحو صريح أن: "الصورة السينمائية تنشأ
أثناء التصوير وتوجد ضمن الكادر، بينما المونتاج يوّحد
معاً لقطات كانت ممتلئة بالزمن".
بالنسبة لتاركوفسكي، مفهوم الزمن هو المظهر الأكثر
أهمية في وسط الفيلم لأنه "متأصل في السينما ومتضمن في
صلبها.. إنه ينبض عبر أوردة الفيلم وشرايينه، ويجعله
حياً من خلال ضغوطات إيقاعية متعددة" (النحت في
الزمن).
هذا يؤكد محاولة المخرج لإثارة استجابات عاطفية،
غالباً ما تكون عميقة جداً، عند المتفرج، بدلاً من
إطلاق أفكار مقصود منها أن تدعم موقفاً خاصاً تجاه
المجتمع والتاريخ. نجد مثالاً واضحاً لهذا في استخدامه
الأشرطة الوثائقية من الأرشيف (مثل: عبور الجيش الأحمر
لبحيرة سيفاش في فيلمه "المرآة") التي، من خلال الضغط
الإيقاعي، تولّد شعوراً كابوسياً: مفرطاً في التعريض
للنور وذا حركة سريعة. الشريط الحقيقي، الموثوق به،
يُرى كـ "مسعى فوق بشري للحظة تراجيدية في التاريخ،
بالتالي يصبح المركز، الجوهر الفعلي، قلب فيلمي وعصبه"
(النحت في الزمن).
هكذا، الدلالة التاريخية للشريط الوثائقي، الذي تم
العثور عليه، تتحول إلى رؤية ذاتية لوقائع حقيقية حدثت
في الماضي، وتمت تجربتها كرؤية موجعة ونوستالجية معاً
للتاريخ.
الميزة الهامة في الصورة الحلمية عند تاركوفسكي هي أن
لقطاته لم تكن قط محرفة عن مظهرها التصويري، لكن في
الوقت ذاته، الصورة المعروضة تبدو غريبة، معالجة على
نحو غير مباشر من أجل تشتيت المعنى "الدرامي" للحدث،
في حين يجعل المتفرج متورطاً مع المعاني المتوارية
أسفل المستوى السردي. في حثه للمتفرجين بأن يبحثوا عن
شيء وراء الصورة كمماثل للواقع، متيحاً لهم أن يفكروا
ملياً في الأحداث/ الأشياء المقدمة، فإنه يشاركهم في
تأملهم الخاص في ما يرونه على الشاشة. التحليل الدقيق
لمشاهد الذروة في كلا الفيلمين يُظهر أنهما يحتويان
الكثير من المظاهر المميزة لعملية الحلم.. كغرابة
الحالة، الحركة الجسمانية القوية، الرؤية الخارجية
المعتمة (إلغاء تخوم الصورة)، استخدام المؤثر الذي
يجعل الصورة تومض ثم تخبو (النبض الضوئي)، التغيير غير
المتوقع للنسق اللوني، الانقطاع الزماني- المكاني،
التحريف التصويري للأشياء، الحركة المتباطئة، البؤرة
المتموجة (التضبيب).. كل هذا يسهم في قبول الأحداث
الغريبة، غير العادية، التي تدور على الشاشة.
على سبيل المثال، لو أن الجص الموجود في السقف يبدأ في
التحلل والسقوط، بحركة بطيئة، على الشخصية (كما في
فيلم "المرآة")، أو أن المادة السائلة تبدأ في
الانهمار على الشاشات الموضوعة عمودياً في الخلفية
(كما في فيلم
stalker)
فإن المتفرج يكون مجبراً على البحث عن معنى محجوب أو
خفي لمثل هذه الحالات الشاذة.
كما سبق توكيده، تاركوفسكي يجد التوازن بين الموثوقية
الوجودية لصورة الفيلم وانحرافها الظاهراتي، الذي
يساعد صوره الحلمية في تخطي "لغة" الفيلم كنظام من
العلامات، واصلاً إلى مستوى التجريد السمعي البصري.
بالتالي، التجربة الحركية السينمائية الفذّة تعوق
التأويل التحليلي النفسي للحدث المصوّر: بينما هو مثير
للاهتمام من غير ريب، مثل هذا التأويل لا يفتقر إلى
البرهان التحليلي فحسب بل هو أقل كشفاً من التجربة
الفعلية للمزاج الحلمي الذي تنتجه الوسائل السينمائية
الخاصة وعلاقتها بالمظهر الموضوعاتي للمشهد.
هناك نوعان من الحركة في "المرآة" و
stalker:
المسار الجانبي للكاميرا بينما الشخص يهيمن على صدر
الصورة القريبة، والحركة التجريدية جزئياً (المضببة)
تحدث في الخلفية البعيدة، والكاميرا تنسل عمودياً على
أشياء الطبيعة. إن أغلب اللقطات في الجزء الأول من
stalker
(بعد المقدمة) منفذة بحركة مصاحبة جانبية، مرافقة (عن
قرب) الشخصيات الثلاث (المقتفي أو الدليل والكاتب
والعالِم) في رحلتهم إلى مركز المنطقة
The Zone.
هنا الكاميرا تتخيّل شكل الأشياء التي ستوجد من خلال
منظر طبيعي خارج البؤرة والذي يُرى خلف رؤوس الثلاثة
في مقدمة الصورة (غالباً مع مؤخرة الرأس وهي تواجه
الكاميرا) إلى حد أن الجزء غير الواضح من الصورة يصبح
معبّراً أكثر من الجزء الواضح. بالنتيجة، الخلفية
المضببة تهيمن على الشكل البشري في مقدمة الصورة، كما
لو تحكم حصارها على الشخصيات التي تصبح كسولة أكثر
فأكثر، محدّقة في الفضاء الخالي، مصابة بخيبة أمل مما
صادفته في المكان الذي بحثوا عنه فترة طويلة.
ينبغي على المرء أن يعي الإختلاف بين حركة الكاميرا
الجانبية عند تاركوفسكي، وحركة الكاميرا المصاحبة
الموازية عند جودار كما وظفها في فيلمه "أراك عند ماو"
See You at Mao
(1969)، حيث الكاميرا تتحرك عبر صف
لا نهائي من السيارات المتوقفة، بينما العمال يقومون
بحركات آلية متكررة، أو كما في فيلم "كل شيء على ما
يرام"
Tout va bien
(1972) حيث الكاميرا تتحرك أمام عدد لا يحصى من أمناء
الصندوق في سوبرماركت، في موازاة مع اندفاع ضاج لعمال
مضربين يدمرون المحل.
إن وظيفة حركة الكاميرا عند جودار هي من أجل تكثيف
الفعل الجسماني الذي يحدث أمام الكاميرا، لغايات
أيديولوجية، في حين أن كاميرا تاركوفسكي تخترق الحقائق
البيئية، إنطلاقاً من إيمان المخرج بأن الكاميرا
قادرة على اكتشاف الدلالة الخفية للعالم المادي.
من جهة أخرى، لقطات تاركوفسكي المديدة أيضاً تختلف
دلالياً عن لقطات الهنغاري ميكلوش يانشو
Miklós Jancsó
في فيلميه "ريح الشتاء"
Winter Wind
(1969) و "الترنيمة الحمراء"
The Red Psalm
(1972) حيث حركة الكاميرا تصف – ضمن شروط إيقاعية –
أحداثاً طقسية مرسومة على نحو راقص أمام الكاميرا مع
اهتمام سياسي صريح. أما حركة كاميرا تاركوفسكي فتعكس –
ضمن شروط سينمائية – النبض الإيقاعي المخفي تحت المظهر
الخارجي للواقع، محدثاً استجابة عاطفية قوية، إضافة
إلى التأمل.
في "المرآة" كل اللقطات المصاحبة تقريباً تحيل إلى
نفسها، خصوصاً عندما تكون الحركة ضمن الكادر متباطئة،
كما في اللقطات المصاحبة للعشب، الشجيرات، وأوراق
الشجر، لتنتهي على الطاولة مع قطعة من الخبز، وحامل
الشموع ينقلب بلطف بفعل الريح (كإيماءة شعرية، اللقطة
ذاتها تتكرر مرتين في مواضع حاسمة). بل أن الحركة
الأكثر فتنة هي حركة الكاميرا الأمامية وهي تتابع
الشاب أليكسي فيما هو يدخل (بالحركة البطيئة) البيت
القديم ويمر من خلال الستائر الشفافة، الطافية، قبل أن
يصل إلى المرآة العتيقة حيث يواجه الفتى انعكاسه
الوهمي. طاقة حركة كهذه تؤثر في وجهة نظر المتفرج: لأن
الكاميرا تنتحل وجهة نظر الفتى الذاتية فإن هذا يجلب
المتفرج وحده إلى سطح المرآة. الجمهور يختبر التأثير
التغريبي في ما يتصل بالصورة المنعكسة، والحدث كله
يبدو غريباً.
في الوقت نفسه، تأثير هذا والحركات المماثلة هو حسي
وعاطفي في آن، حيث إيقاع الحركة المصاحبة إما يكون
متزامناً أو غير متزامن مع إيقاع النص المنطوق،
والمصاحبة الموسيقية، والمظهر الموضوعاتي للحدث.
فيلم "المرآة" يُفتتح بلقطة عامة لحقل فسيح، يُرى من
وجهة نظر امرأة جالسة على سياج خشبي، بينما في نهاية
الفيلم، الكاميرا تتحرك ببطء عبر غابة مظلمة أشجارها
على نحو متزايد تحول دون رؤية الحقل البعيد الذي
رأيناه في بداية الفيلم.
فيلم
stalker
يعرض علاقة مختلفة بين إيقاع افتتاحية الفيلم وخاتمته:
إنه يبدأ (بعد أسماء العاملين) بحركة كاميرا أمامية
عبر المدخل الضيق لغرفة نوم البطل (ذات الجدران
المعتمة المصممة على نحو مهيب)، بينما ينتهي بلقطة
ثابتة لابنة البطل وهي تميل بحزن على الطاولة. في
الحالة الأولى، ركود الافتتاحية يتوقع الحالة النفسية
الكئيبة للفيلم كله، بينما حركة الخاتمة تعزّز الطبيعة
النوستالجية للذكريات. في الحالة الثانية، الحركة
الاستهلالية تنبئ بالرحلة الغامضة، بينما النهاية
الساكنة (بؤرة الكاميرا مركزة على النافذة الموصدة) هي
تقريباً تصوّر حرفي لطريق غير نافد.
الحركة البطيئة، المستخدمة عادة في السينما السردية
لجعل الحدث الزائد يبدو جذاباً بصرياً (والموظفة في
أغاني الفيديو الشعبية على نحو مبتذل ورخيص)، في أفلام
تاركوفسكي هي تتخذ الوظيفة التي حددها فسيفولود
بودوفكين
Vsevolod Pudovkin
قبل أكثر من نصف قرن بوصفها "لقطة قريبة للزمن". كلما
تباطأت الحركة على شاشة تاركوفسكي، اكتسب الحدث
تأثيراً عاطفياً قوياً، خصوصاً في الذكريات
النوستالجية، الكوابيس، والتخيلات (كمثال، الطيور
المحلقة في فيلم "المرآة").
الحركة المتباطئة هي اللب العاطفي للصورة الحلمية عند
تاركوفسكي، والتي في لحظات الذروة تنجز ما تسميه مايا
ديرين
Maya Deren
"الإختراق/ الإستنطاق العمودي" للموضوع المصوّر، جاعلة
المتفرج يعي مرور الزمن وضغوطاته الإيقاعية. لاختبار
كل هذا، يتعيّن على المرء أن يبحث وراء المعنى السردي
للقطة، بما أنه يوجد أسفل المظهر التمثيلي للصورة حيث
يمكن العثور على طبقات عديدة من المغزى الخارق الذي
يوصف. بناء على ذلك، "المرآة" و
stalker
يتخطيان المعنى الفرويدي لصور الحلم، ذلك لأنها لا
تعمل كرموز كامنة أو مستترة بقدر ما هي تساهم في
التجربة اللاواعية لعالم الحلم.
اللقطات المصاحبة
tracking
الطويلة هي ليست فقط المصدر الوحيد
للمناخ الحلمي السينمائي عند تاركوفسكي، فالحالة
النفسية المرادفة، الشبيهة بالحلم، تولّدها اللقطات
(المحدّقة) الساكنة التي تصوّر الحدث، المتجرّد من
البعد الدرامي، كما في اللقطة المديدة، ما قبل
الأخيرة، في فيلم
stalker
عندما يجلس الرجال الثلاثة مسمرين
في إحدى غرف المنطقة
zone
شاعرين بخيبة أمل مع إدراكهم بأن
المكان الذي بحثوا عنه طويلاً ليس هو "المكان الذي
تتحقق فيه رغبات البشر الصادرة من القلب".
فيما هم يفكرون بقنوط في مغامرتهم، تقع حولهم سلسلة من
الأحداث غير المتوقعة، مع ذلك تظل وراء متناول العالم
الخارجي: الزمن يتوقف، في حين أن "الضغوطات الإيقاعية"
الداخلية تُظهر نفسها عبر تراجع حاذق جداً للكاميرا
الموضوعة في زاوية منخفضة قليلاً والتي تجذب انتباه
المتفرج إلى الفضاء خارج الكادر: ما إذا كانت المساحة
فوق الرجال الجالسين مسقوفةً, إلى أي مدى يكون تغيّر
تكوين اللقطة – المتزامن مع التغييرات اللونية
المستمرة – مبنياً على الدافع الجدير ظاهرياً بالتصديق
(اللقطة تفتتح كصورة لونية والتي تدريجياً تتغيّر إلى
لون بنّي داكن لتنتهي كصورة بالأسود والأبيض)؟ عندما
يبدأ المطر، على نحو غير متوقع، في الهطول في مقدمة
الصورة (مصحوباً بصوت مضخّم للقطرات وهي ترتطم
بالمياه) مشكّلاً دائرة تومض على سطح البركة، كما لو
تعكس أشعة الشمس اللامرئية، فإن الصورة تأسر المتفرجين
بصرياً وسمعياً: غير معنيين بشأن لا احتمالية الحدث،
هم – إضافةً إلى شخصيات الفيلم – يشعرون بالشلل بفعل
"الطاقة الغامضة" المنبعثة من المنطقة (zone).
المرء هنا لا يستطيع أن يستبعد فكرة اعتماد تاركوفسكي
على حدث مدمر حقيقي حين وقعت كارثة في العام 1957 في
منطقة قريبة من شيليابنسك على إثر انفجار كيماوي لم
يعلن عنه رسمياً.
الصورة الحلمية الأكثر إفتاناً في
stalker
هي على الأرجح تلك التي نجدها في
"غرفة الكثيب"، في تلك المنطقة المحظورة، المغطاة
أرضيتها بأكوام من الرمال. كل ما يحدث في هذه الغرفة
مرئي بوصفه "لقطة قريبة للزمن".. أي، الحركة بالتصوير
البطئ. عند موضع معيّن، طائران أسودان يدخلان الشاشة
من اليسار ويحلّقان في اتجاه الطرف الآخر من الغرفة.
مباشرةً قبل وصولهما إلى الجدار (المضاء بشكل ساطع)
يختفي الطائر الأول (عبْر حيلة بصرية) فيما الآخر يحط
بشكل طبيعي على الكثيب الرملي، محدثاً سحابة من الغبار
المتموّج ببطء. أغلب المتفرجين، المفتونين بصرياً،
أبدوا حيرتهم إزاء حقيقة ما حدث على الشاشة – أو ما
إذا كان قد حدث ذلك بالفعل – وشعروا برغبة تلقائية في
مشاهدة اللقطة مرة أخرى. مثل هذه الإيماءة الإخراجية
تكثّف الغموض الهذياني عبْر اندماج المظهر التصويري
للحدث والتنفيذ السوريالي للقطة. إن تكوين الصورة،
تقلّبها اللوني الذي يدوم فترة طويلة، إضافة إلى
"غرابة" البيئة (الطائر الذي يختفي، الحركة البطيئة
للغبار الذي يطفو فوق الأرض، التصميم الشاذ للغرفة) لا
تعكس حالة الشخصيات فحسب، لكن أيضاً تستفز في المتفرج
تجربة ناشئة عن هذيان.
في فيلم "المرآة"، التأثير الشبيه بالحلم يتحقق بواسطة
اللقطات المصاحبة
tracking
التي تتابع ليزا، صديقة ماشا، وهي تجري عبر الرواق
الطويل (سعيدة لأنها تحررت من الخوف الذي استبد بها من
جراء خطأ في تهجئة اسم ستالين أثناء تنضيد الأحرف
الطباعية في الجريدة.. هذا الخطأ الذي اكتشفته ماشا).
وبينما هي تتقافز فرحاً أثاء جريها، الحركة تتباطأ
قليلاً خالقةً الوهم بأن جسدها يطفو في الهواء.
التأثير السوريالي يحدث في المكان المناسب (بالحس
الموضوعاتي/ السردي) متزامناً إيقاعياً مع إحساس
المرأة بالإبتهاج، وبذلك يوازي حالة التذكّر السائدة
في المشهد. في مرات أخرى، غالباً في المشاهد الداخلية،
يرتب تاركوفسكي الأشياء والممثلين ضمن الكادر بطريقة
فيها الميزانسين يتحدى القوانين الفيزيائية إضافةً إلى
المصداقية المعتادة. في اللقطة التي تُظهر أم إجنات
Ignat
وهي ترتفع في الهواء، نلاحظ بأن أجزاء اللقطة، التي في
ظرف آخر قد توفّر مفاتيح منظورة ومدرَكة للحيلة
البصرية، تكون ممحية بواسطة الإضاءة وتأطير الكادر
وحركة الكاميرا. المتفرج، الأعزل من أي إدراك حسّي،
يكون مغموراً في تكوين الصورة، قابلاً الصورة، على نحو
غريزي، كتخييل لعالم الشاب الداخلي، المحب لأمه.
تاركوفسكي يوجّه عناية خاصة إلى شيئين يثيران دوماً
اهتمام السينمائيين الكبار: المنظر الطبيعي، والوجه
الإنساني. بالنسبة له، الكاميرا أداة استكشاف مؤهلة
لأسر روح اللحظة، فوراً وعلى نحو نابض بالحياة، بدقةٍ
فوتوغرافية، بحيث تصبح مشاعر الجمهور مماثلة لمشاعر
شاهد، إن لم تكن مشاعر المبدع نفسه. لتحقيق ذلك،
غالباً ما يلجأ تاركوفسكي إلى تعديل المظهر الطبيعي
للمنظور أمام الكاميرا وفي مرحلة ما بعد الإنتاج
أيضاً، لكن من دون إرباك الموثوقية الوجودية للصورة
السينمائية. هكذا نرى، في لقطات الإفتتاحية لفيلم
"المرآة"، حقلاً فسيحاً من الحنطة السوداء تلاطفها،
على نحو إعجازي، هبّة ريح. إنه المنظر الذي، حسبما
يصرّح تاركوفسكي، "بقي في ذاكرتي كأحد التفاصيل
الأساسية والمميّزة في طفولتي".
إن التدخّل الجلي لصانع الفيلم (الهبوب المفاجئ للريح
ثم انقطاعها المفاجئ) يكشف "بصرياً وفورياً" الذبذبة
المرافقة لذاكرة المبدع العاطفية. في فيلم
stalker،
وفيما تتقدم المجموعة عبر منطقة ريفية مهجورة، تكوين
اللقطات التي تصوّر المنظر الطبيعي يصبح مكتظاً على
نحو متزايد بالتفاصيل في مقدمة الصورة، والتي تهجس
بالقلق والحصَر النفسي الذي سوف يختبره الرجال الثلاثة
في مركز المنطقة ((zone..
وهذا يستجيب إلى استنتاج تاركوفسكي بأن الفن يجب أن
يتخطى، وليس مجرد أن يسجّل، العالم الخارجي. الكاميرا،
بالنسبة له، أداة تستكشف وتتحرى أكثر مما ترصد وتلاحظ.
في إشارته إلى لوحة ليوناردو دافنشي التي تظهر في
فيلمه "المرآة"، يؤكد تاركوفسكي أن سبب قوة اللوحة
الشهيرة التي هي عبارة عن بورتريه لإمرأة "راجع
تحديداً لأن أحداً لا يستطيع أن يجد فيها أي شيء قد
يفضّله بوجه خاص، ولا يستطيع أن يفرد أية تفصيلة عن
الوحدة الكليّة... لذلك هي هناك تفتح أمامنا إمكانية
التفاعل مع اللامتناهي".
هو يتقيّد بالمبدأ نفسه بينما يعرض الوجه الإنساني على
الشاشة: نابذاً التعبير الوجهي كوسيلة لتوصيل الأفكار،
فإن تاركوفسكي يحاول "الوصول إلى المشاعر الأعمق
والأوغل، ليذكّرنا ببعض الذكريات والتجارب الغامضة،
الخاصة بنا، فيغمرنا، ويحرك أرواحنا مثل كشفٍ يستحيل
تأويله بأية طريقة".
هذا الموقف يتصل بمفهوم الصورة كما حددها لوي ديلوك
وجان إبشتاين في العشرينيات من القرن الماضي بوصفها
المقوّم الفذ للوسط السينمائي. وكانا يريان بأن
الكاميرا تمتلك القوة القادرة على استخلاص الكثافة
النفسية –العاطفية من الوجه الإنساني.
العديد من اللقطات القريبة للممثلة مرجريتا تيريكوفا
(في فيلم المرآة) تبدو جميلة على الشاشة على نحو يفوق
الوصف، خصوصاً عندما تدير عينيها نحو العدسات:
تحديقتها اللطيفة لكن الثاقبة يمكن مقارنتها بالتحديقة
النافذة التي توجهها سيلفانا مانيانو نحو المتفرج في
فيلم بازوليني "أوديب ملكاً" (1967) عندما ترضع ابنها
المولود حديثاً في الحقل الخالي. مثل بازوليني،
تاركوفسكي يوظف تحديقة الممثلين لتأسيس اتصال مباشر
بين مشاعرهم الشخصية والحميمة، والإدراك الحسي الغريزي
عند المتفرجين. الطريقة التي بها يصوّر هذان المخرجان
الوجه الإنساني في لقطات قريبة تتجاوز الإستخدام
المألوف والمعتاد للتحديقة في السينما السائدة كأداة
لتوصيل رسائل منطقية وعقلانية. عوضاً عن ذلك، التحديقة
عندهما تعني تكثيف تواصل المتفرجين مع العالم الداخلي
للشخصية.
الدلالة الظاهراتية لرؤية تاركوفسكي الحلمية تتكئ على
التفاعل بين التمثيلي والسوريالي: المتفرج يشعر بأن
شيئاً ما "خاطئاً" بشأن الطريقة التي تبدو فيها الأمور
على الشاشة، لكنه غير قادر على اكتشاف "برهان" كافٍ
لتكذيب الأحداث المقدمة على أساس المنطق اليومي.
نتيجةً لذلك، اللقطة تكون "مقصيّة" شعرياً في التقليد
الأفضل للشعراء الشكلانيين والفنانين البنيويين الروس
المشاهير، الذين أصروا على ضرورة أن يكون المتفرجون
واعين دائماً في اختبار العمل الفني كتحويل أو كترجمة
ذاتية للواقع. في هذا الموضع يكمن إختلاف الصورة
الحلمية عند تاركوفسكي عن الصورة عند بيرجمان: في
"الفراولة البرية"
Wild Strawberries
، على سبيل المثال، مشاركة بطل بيرجمان كرجل عجوز في
أحداث شبابه لها دلالة حلمية موضوعاتية على نحو صريح
بالتباين مع بطل تاركوفسكي في "المرآة"، الذي يصبح
جزءاً من الحالة الحلمية التي تحركها الطريقة التي بها
تُعرض الأشياء على الشاشة، وليس بما تعنيه.
في أحد المشاهد، الشاب إجنات يظهر في الحجرة مع
امرأتين تختفيان، على نحو يتعذّر تفسيره، في اللقطة
التالية. على الرغم من عنصر المفاجأة، هذا التنافر
الظاهراتي ليس شبيهاً بالحلم كما هو الحال مع اللقطة
القريبة اللاحقة للبقعة المبتلة التي جفت على الطاولة
حيث كانت المرأتان جالستين قبل لحظات. البنية
التصويرية للسطح اللامع، الرسم المتموّج للبقعة، الضوء
المتغيّر واللون، كل هذا يجعل اللقطة القريبة تبدو
محيّرة بطريقة مماثلة للومضة الخاطفة للهب مصباح الغاز
القديم الذي يراقبه إجنات فيما يمرّ بحالات لونية
متنوعة وهو في طريقه إلى الإنطفاء. إن تركيز الكاميرا
الموجع على التغيّرات البطيئة لبنية الإضاءة له تأثير
هذياني على المتفرج، الذي يبدأ في إدراك الظاهرة
العادية بطريقة مختلفة تماماً: التركيز غير العادي على
المظهر البصري للعملية الطبيعية (الصمت لا يُقطع إلا
بطقطقة متكررة للهب يخمد) يلغز الحقيقة الشائعة،
خالقاً جواً غريباً ومخيفاً.
الغموض المعرفي للقطات تاركوفسكي مقصود منه تحويل
انتباه المتفرج من المعنى التمثيلي للحدث المسجّل إلى
المعنى الواقع وراء نطاق الخبرة، حتى عندما لا يتعامل
الفيلم صراحةً مع محتوى الحلم. في Stalker
بعض من أكثر اللقطات سحراً وفتنةً،
المشبّعة بحالة شبيهة بالحلم، تنتجها وسائل تصويرية
محضة، والتي كلها "تعكس" الذهنية المحبطة للشخصية..
التحويل النفسي لرغبة الشخصية في الهروب من شيء جائر
ومستبد إلى شيء يوفّر الحرية.
من بداية الفيلم، التنفيذ السمعي- البصري للقطات في
الحانة (التي جدرانها تبدو أشبه بنقوش تجريبية نافرة
وهائلة) يمنع النزعة التلقائية عند المتفرج لقراءة
الصورة فقط بوصفها تمثيلاً للواقع. عوضاً عن ذلك، هذا
التنفيذ يدعو المتفرج إلى غمر نفسه في الإيقاع الواهن
للفعل ومحيطه، متماهياً مع العالم الهذياني الذي فيه
تجد الشخصية الأمان الروحي.
المتعقب
Stalker
، الذي يقتفي ويسعى، يقرّ لفظياً بنيّته على
الإنتقال، مع زوجته وابنته، إلى المنطقة
Zone
من أجل "العيش في أمن وسلام، حيث لا أحد يستطيع أن
يؤذينا". لكن آماله تتلاشى ما إن يصل، هو ورفيقاه، إلى
الغرفة المركزية التابعة للمنطقة: الكاميرا هنا تصبح
ساكنة، كما لو واقعة في شرَك فضاء عدائي، بينما
الشخصيات تتحرك بلا هدف (في الأغلب، في موازاة محور
متعامد للكاميرا) خالقةً تكوينات مختلفة ضمن اللقطة.
بعد أن تبقى مركزة على المجموعة لفترة من الوقت، تبدأ
الكاميرا في التراجع، تاركةً إياهم معزولين في
المسافة، وعبر اتساع الكادر تتكشف لنا برك صغيرة
خلّفتها الأمطار. الوسائل السمعية البصرية، التي تعمل
كمنبهات حسيّة قوية أكثر مما تعمل كرموز تصويرية، تنقل
إحساساً قوياً بالعزلة والإنسلاب. لهذا السبب، بدلاً
من قراءة فيلم
Stalker
من وجهة نظر أيديولوجية/ بيوغرافية
(سيرة ذاتية)/ سيكولوجية (تحليل نفسي)، يبدو الأكثر
تسويغاً وإثارةً هو استنطاق بنية الفيلم كصور حلمية
مرسومة عبر وسائل سينمائية تثير استجابة حسية عند
المتفرج.
المتفرج لا يختبر فقط رحلة الدليل إلى المنطقة
Zone
بأنفاقها الواقعة تحت الأرض، وأنابيب المياه العملاقة،
ومنشآتها المعدنية التالفة، بل أيضاً المقدمة والخاتمة
اللتين تدوران في الشقة وفي الحانة.
في التقاط المظهر الذي لا يوصف شفهياً من العالم
المادي، تاركوفسكي قبل كل شيء يستخدم الإضاءة لتحقيق
"لا شفافية" – حسب تعبيره - اللقطات (على سبيل
المثال: اهتزاز الأشياء وحركتها غير المفسرة، الاختفاء
المتعذر تفسيره للأشياء، التجسيد غير المتوقع للدخان،
الضباب، المطر، النار، الريح، والريش العائم)، والذي
يتمم الكثافة الفلسفية للحوار. لكن كل هذه الرموز
الخاصة بعالم الحلم ممثّلة على الشاشة بوسائل سمعية-
بصرية يستحيل معها توصيل "ما لا يوصف" شفهياً: المطر،
النار، الضباب، الريح، الأرض – عند تاركوفسكي – مختبرة
على الشاشة كظواهر سينمائية أكثر مما هي مرئية كقوى
طبيعية.
التجريد السينمائي يكون ظاهراً أكثر قرب نهاية الفيلم،
عندما تركّز الكاميرا بؤرتها على ابنة الدليل أو
المتعقب
stalker
التي يكشف وجهها الجامد عن تركيز متوحّد: في البداية
نحن لا نرى غير جانب من وجهها يحتل مقدمة الصورة
(بينما هي محمولة على كتفيّ أبيها)، شعرها مغطى بلفاع
ملوّن، بينما المنظر الطبيعي في الخلفية يتغيّر من
محيط مضبّب إلى تصميم لوني زاه. في المشهد الختامي،
فيما زوجة الدليل تحاول أن تخفّف عنه لحظاته الأخيرة،
نرى التعبير الوجهي للصغيرة يماثل التعبير الكئيب على
وجه أبيها. إنها تحدّق في الكأسين (أحدهما ممتلئ إلى
نصفه بسائل) وجرّة على الطاولة، وتبدو مسترخية
جسمانياً، مع ذلك فإن تحديقتها تطلق شحنة خارقة
للطبيعة. بينما الكاميرا تتراجع تدريجياً فوق السطح
اللامع للطاولة، الأشياء الثلاثة الموضوعة على الطاولة
تبدأ في التحرك، على نحو إعجازي، على سطح الطاولة، في
اتجاه الكاميرا، حتى يسقط الكأس الفارغ على الأرض مع
صوت ارتطام متضخم. على نحو متزامن، الصوت المتقطع
المتواتر، لقطار يقترب (رابطاً، مجازياً هذه المرّة،
نهاية الفيلم ببدايته) يمتزج مع نباح كلب وضوضاء طاولة
تهتز. الكاميرا، مغيّرة اتجاه حركتها، تدنو ببطء من
الصغيرة، التي تغمض عينيها فيما تريح رأسها على
الطاولة، بوجه طاهر ومتحرّر من أي انفعال، بينما
موسيقى بيتهوفن تطغى على قعقعة قطار يغادر. الكاميرا
تواصل اقترابها من الصغيرة حتى تحصر وجهها في لقطة
قريبة، بعينين مغمضتين، فيما الموسيقى تتصاعد تدريجياً
لتبلغ ذروتها كتمجيد لعبثية الحياة الجدلية – المعادل
السينمائي للبيان الذي يقدمه الدليل بعد إدراكه بأن
المنطقة الغامضة هي مظهر جوهري، وضروري، من الوجود
الإنساني.
إن الكشف الروحي للواقع في السينما، والذي يقوم به
تاركوفسكي، يتحدى المفهوم التقليدي الصارم للسينما
السردية بوصفها متوالية خطية من الأحداث التمثيلية
المصورة. في خلقه صور الحلم التي طاقتها الحركية تتخطى
الرصد المجرد للواقع، فيما يوفّر تجربة فذّة لا تكون
ممكنة إلا في السينما، يبرهن تاركوفسكي أن التجريب
الحقيقي في الفن لا يعني مجرد استخدام حيل أو وسائل
بصرية بل إنجاز بنية سينمائية مركّبة ومعقّدة، "الشكل
الذي يصبح هو الأقرب في توصيل العالم الداخلي للمبدع
ويجسّد توقه إلى المثل الأعلى".
كل صنّاع الفيلم المبدعين انشغلوا حد الإستغراق بمعضلة
التعبير عن الأفكار والغايات بلغة بصرية وسمعية،
متحدّين بذلك الاعتقاد بأن هذا الوسط لا يلائم إلا
الحركة البدنية والأداء الدرامي.
لقد برهن تاركوفسكي، بطريقة خلاقة، على أن من الممكن
تحقيق صور حلمية شعرية ضمن النوعية السردية، شريطة أن
يتم تخطي القصة بتأثير حركي مؤهل لتوليد شيء أكثر
رحابة روحياً، وأكثر كونية، وضمنه يتجسد عالم كامل من
المشاعر والأفكار والرؤى.
من الجلي أن الشعور، الأكثر حدّة، بالروحانية التي
يختبرها تاركوفسكي، في أحلامه وتخيلاته وهلوساته، لا
يمكن توصيلها من خلال الكلمة المنطوقة وحدها، وإنما في
الأغلب من خلال الصور السينمائية التي تمثّل انطباعات
المبدع المتخلقة بواسطة منطق الحلم، والمتشكلة بطريقة
ملائمة لعملية التفكير أو الحلم.
المصدر:
Film Quarterly, Winter 1989/90 |