في الخامس و العشرين من نوفمبر 0791
، و في شرفة مركز قيادة الجيش الشرقي الياباني،
ظهر رجل ببزة عسكرية أنيقة، معصوب الجبين بقماشة مزينة بشعار الشمس المشرقة.
و بدأ خطابه بالقول: '' إنه أمر فاجع أن أضطر إلى التحدث إليكم في
ظروف كهذه ''.
الرجل هو الكاتب الياباني الشهير
يوكيو ميشيما، و كان يلقي خطابه واقفا على حاجز الشرفة، مطلا على المئات من الجنود المحتشدين،
بطلب منه، على أرض تقام فيه عادة الاستعراضات العسكرية. بينما في
السماء، كانت طائرات الهيلكوبتر تحوم وتهدر بحيث كانت أصواتها تطغى على
كلماته. كان ميشيما يحث الجنود على إحياء مبادئ الساموراي و الدفاع عن شرف اليابان الذي
شوهه السياسيون المتعطشون للسلطة، و رجال الأعمال الذين
ينبشون الأرض بحثا عن المال. و سألهم:'' هل من أحد بينكم
يتقدم و يثور معي ؟''..
لكن الجنود سخروا منه و صاحوا بكلمة يابانية سوقية تعني:
الأحمق أو الأبله. واستمروا في الصياح متهكمين و ساخرين..عندئذ
هتف ميشيما ثلاث مرات، ملقيا التحية العسكرية التقليدية:
عاش الإمبراطور.
ثم نزل من حاجز الشرفة و اتجه إلى المكتب عبر النافذة. و هناك، بالداخل،
كان على وشك الإنهيار لأن أحدا لم يصغ
إليه و لم يكترث به. كان الجنرال كانيتوشي ماشيتا، قائد الجيش الشرقي،
مكمم الفم و مقيدا إلى كرسي. أما الأبواب والنوافذ
فكانت مسدودة بمتاريس. فك ميشيما أزرار سترته،
فك رباط جزمته، خلع ساعة يده،
ثم جثا على البساط الأحمر، على بعد ستة أقدام من كرسي
الجنرال.
بيده اليمنى تناول خنجرا ذا نصل مستقيم و حاد، و بعد أن حيى الإمبراطور ثلاث مرات أيضا نفث من
صدره زفيرا. أحنى كتفيه و ثبت الخنجر
-الذي
يبلغ طوله قدم واحد-على بطنه ثم دفعه بقوة إلى الداخل ليحدث شقا أفقيا حتى
الجانب الآخر من البطن، فيما اليد الممسكة بالخنجر ترتعد بعنف.
على مقربة منه كان يقف شاب حاملا سيفا، هو عشيق ميشيما،
و العضو في العصبة العسكرية الخاصة التي أنشأها ميشيما نفسه،
و التي اقتحمت مركز القيادة العسكرية و باغتت الجنرال ماشيتا في مكتبه.
عند إشارة متفق عليها سلفاً، رفع الشاب سيفه و وجه ضربة قوية نحوه..لكنه
كان قد تأخر أكثر مما ينبغي. لقد كان ميشيما واقعاً
على البساط و هو يئن و يتأوه،
والنصل أخطأ مؤخرة عنقه مرتطماً بالأرضية. الضربة الثانية،
العنيفة، أصابت جسد ميشيما، أما الضربة الثالثة فقد مزقت عنقه..
عندئذ تنهد الجنرال ماشيتا في أسى وقال:
هذه هي النهاية.
وكانت نهاية مأساوية ، مرعبة، طقسية،
مخططاً لها على نحو مدروس و محكم، لرجل في الخامسة و الأربعين من عمره،
أثار جدلاً واسعا طوال حياته و مسيرته الأدبية و الفنية.
يوكيو ميشيما، ربما أكثر كتاب اليابان أهمية و الأكثر شهرة عالميا،
مؤلف أربعين رواية (ترجم عدد منها إلى اللغة العربية)
و 81 مسرحية و 02 كتابا يضم قصصا قصيرة و مقالات، كما أخرج فيلما سينمائيا واحدا كتبه و مثل فيه،
و قد رشح لجائزة نوبل.
لقد عاش ميشيما حياة معقدة و متشابكة سياسيا..
و كان مليئا بالتناقضات: من جهة هو استعراضي (حتى في
موته)، و من جهة أخرى كان يمثل لغزا مبهما. سادي
و مازوشي. له ميول مثلية و كثير التردد إلى الملاهي الليلية الخاصة بالمثليين
(الشاذين جنسيا.. حسب التعبير الشائع)
في طوكيو، بينما هو متزوج من امرأة يابانية شديدة التمسك بالتقاليد و الأعراف المحافظة،
و أب لولدين.لقد جسّد الكثير من التناقضات التي يرفضها المجتمع الباحث عن ''السوية''
و الإنسجام، و الذي يسعى إلى إخفاء كل شكل من أشكال الإنفصام و الإزدواجية.
في صغره كان عليل الجسم، كثير المرض. و عندما بلغ
الثلاثين إتجه إلى رفع الأثقال لتقوية بدنه. اكتشف ميوله المثلية عندما تهيّج إلى حد
بلوغ الذروة فيما كان يحدّق في
لوحة تظهر القديس سباستيان و هو عار تقريبا، و معلقا من معصميه،
بينما السهام تخترق جذعه و بطنه.
سياسيا، الكثيرون رأوا فيه الناشط المدافع عن القيم المحافظة و عن مبادىء
الساموراي التقليدية، و المتعصب اليميني المؤيد لاستعادة اليابان تفوقها العسكري
قبل الحرب و المدافع بحماسة عن سلطة الإمبراطور المطلقة.. فاليابان
الحديثة، بالنسبة إليه، تافهة و عديمة القيمة،
و هي ملعونة. و من أجل استعادة ذلك الشرف و تلك الهيبة، قام ميشيما بتشكيل جيش صغير،
خاص و سري. و بفضل صلاته بعدد من أصحاب النفوذ السياسي، فقد تسنى له إجراء التدريبات بموافقة ضمنية من
قبل قوات الدفاع الذاتي. و مع زمرة مؤلفة من أربعة أفراد،
هم الأكثر إخلاصا و ولاء، اقتحم المعسكر. و بعد أن أخفق في
تحريض الجنود على الإنقلاب أو العصيان، قام بإخراج المشهد الأخير من حياته:
الموت الطقسي على طريقة سيبوكو,UKUPPES
و التي تسمى أيضا الهاراكيري،
و هي طريقة يابانية في الانتحار تتم، على نحو طقسي، ببقر البطن بخنجر بحيث
يتولى آخر قطع العنق بالسيف. و ذاك الشاب الذي
تولى مهمة ضرب ميشيما بالسيف، انتحر بدوره بالطريقة ذاتها.
و تجدر الإشارة هنا إلى أن ميشيما كان قد حقق في العام 5691 فيلما قصيرا
بعنوان ''طقوس الحب و الموت''،
كتبه و أنتجه و مثل فيه، و هو معد عن قصة قصيرة له تصور انتحارا طقسيا
يقوم به ضابط شاب مع زوجته في الصباح التالي
لمحاولة انقلاب فاشلة حدثت في فبراير
6391.
لكن هذا الفيلم اختفى بعد رحيل ميشيما، حيث قامت أرملته-
و التي لها ارتباطات واسعة و قوية مع أسماء لها نفوذ و تأثير في الأوساط
السياسية اليمينية- بتدمير النسخ السالبة و أحرقت كل طبعة استطاعت
العثور عليها. و يبدو أن هذه الأرملة كانت مدركة تماما لخطورة
الفيلم باعتباره ''بروفة''
لانتحار ميشيما الحقيقي..و هو الفعل الذي تسعى هي
-مع
جوانب أخرى من حياة زوجها- إلى طمسها و إزالتها.
كان ميشيما قد أوصى أن تذهب حقوق ''اعترافات قناع''
و روايتين أخريين إلى أمه ليكون هذا بمثابة دخل سنوي تتلقاه مدى الحياة، أما أرملته فقد حصلت على حق التصرف في
كل أعماله الأخرى و ممتلكاته.
في إحدى رسائله الأخيرة التي كتبها في ليلته الأخيرة،
و الموجهة إلى عائلته، أشار إلى رغباته و أمنياته،
و قال: '' لقد رميت القلم بعيدا. و بما أنني لن أموت كرجل أدب بل كرجل عسكري،
فإنني أود أن يظهر الحرف الصيني للسيف في إسمي
البوذي و ليس الحرف الذي يرمز إلى القلم.''
لكن ميشيما لم يتوقع أن تكرس أرملته كل طاقاتها و علاقاتها في
سبيل تقديس ذكراه ككاتب عظيم، و أنها سوف تحاول،
بجهد و بفعالية، محو أي أثر لميوله الجنسية ''الشاذة''،
و لأوهامه العسكرية، و لهوسه ببناء جسمه، و لرغبته الشديدة في
الموت و التي عبّر عنها علانية، و لمتعته في رجّ
المعتقدات اليابانية و إثارة الصدمة.
لقد كان ميشيما يكره أن يلعب دور
'' الكاتب العظيم''، و يمقت الهالة و المكانة الثقافية التي
رافقت ذلك. و كان عاقد العزم على تحويل نفسه من '' رجل الكلمة''
إلى '' رجل الفعل''. لقد علم نفسه أن يزدري عواطفه و أحاسيسه الخاصة،
و كان يشعر بأنه لا يكون '' حقيقيا'' إلا إذا اختبر أحاسيس جسدية. إنه الحالم الذي
منح تخيلاته كينونة خاصة و دفعها نحو الحد الأقصى.
ميشيما عاش ذلك الإنقسام الحاصل بين '' الكلمات التي
بإمكانها أن تغير العالم، و العالم الذي لا علاقة له بالكلمات''..حتى
قرر أخيرا أن الطريقة الوحيدة لحل ذلك الإشكال، ذلك المأزق، و بلوغ المستوى
الأعلى من الواقع، هي
بتدمير الذات. و عبر الموت الطقسي أراد أن يحرز الالتحام المستحيل بين الفن و الفعل.
إذا كان الفنان أو الكاتب، عبر إبداعاته،
يتخيل شياطينه الخاصة و يتعامل معها وفق الوسيلة المتاحة:
عبر التعبير عن الذات، فإن كتابات ميشيما لم تساعده على تطهير عواطفه و التنفيس عن مكبوتاته
أو الانعتاق من كوابحه و عذاباته الشخصية..الموت
وحده هو القادر على تخطي ذلك. |