كان المخرج البولندي رومان بولانسي في السادسة من
عمره حين احتل النازيون بولندا، وبعد عامين أخذوا والديه إلى معسكر اعتقال
حيث توفيت أمه لاحقاً في حين نجا أبوه، أما هو فقد وجد نفسه متروكاً وحده،
محاولاً البقاء على قيد الحياة من خلال العيش مع عدد من العائلات
البولندية.
تجاربه في أيام الحرب تلك كانت مريرة بل ومرعبة
إلى حد أنها تركت جروحاً غائرة انعكست بشكل أو بآخر في أفلامه اللاحقة التي
حققها في بولندا ثم في أوروبا وأمريكا منذ الستينات.. وهذا الانعكاس تمثل
في حالات العصاب ومشاعر الرعب والارتياب والباراونويا التي تتكرر في أعماله
والتي تعبرَّ عنها شخصيات قلقة تتأرجح غالباً بين العقل والجنون، الواقع
والوهم، البراءة والوحشية.
وقد وجد بولانسكي في مذكرات عازف البيانو،
البولندي اليهودي فلاديسلاف سبيلمان، تماثلاً شديداً للحالات التي شاهدها
واختبرها في تلك المرحلة المأساوية من طفولته. لقد تحدث العازف، في الكتاب
الذي ألفه في العام 1946م، عما عاناه من رعب، وعن تجاربه في وارسو المحتلة
عندما وجد نفسه وحيداً، بعد نقل أفراد عائلته إلى معسكر الاعتقال. وفي
صراعه من أجل البقاء متسلحاً بالعزم والإصرار ومعتمداً على الخط راح ينتقل
من مخبأ إلى آخر في مدينة فقدت ملامحها ولم يعد ممكناً التعرف عليها بسبب
الخراب الشامل.
من خلال هذه السيرة الذاتية لموسيقار، وجد
بولانسكي فرصته لسرد جانب من سيرته هو عندما كان صغيراً.. وهو الذي قال ذات
مرة: "كنت أعرف دائماً أنني يوماً ما سوف أحقق فيلماً عن هذا الفصل المؤلم
من التاريخ البولندي.. "وهكذا حقق "عازف البيانو"
The Pianist وبهذا الفيلم يعود بولانسكي إلى طفولته، إلى جذوره، إلى عالمه
المنهوب ليقدم معالجة موضوعية، غير حسية، وذات صرامة ودقة في البناء
والأسلوب، ملتزماً إلى حد بعيد – كما يقول - بما ورد في الكتاب سواء في
التفاصيل أو في الطابع الهادئ، المنضبط، حيث يصف الكاتب حالات العنف والرعب
والشقاء والألم دون مغالاة وجدانية أو ميلودرامية لغرض التأثير العاطفي.
أحداث الفيلم تدور بين عامي 1939م مع قصف الألمان
لبولندا و1944م مع تحرير بولندا ودخول القوات الروسية وارسو. ويبدأ الفيلم
مع البطل وهو يعزف على البيانو مقطوعة لشوبان وفجأة يأتي القصف. هو يعيش مع
عائلة في حي اليهود بوراسو ومع الاحتلال يبدأ كل شيء في التفكك والانهيار.
عائلته تؤخذ إلى معسكر اعتقال وسوف لن يرى أهله ثانيةً. وسرعان ما يتعين
عليه أن يخضع لشروط الاحتلال الذي يفرض الحياة الصعبة والقاسية والعنيفة,
وحيث التطهير العرقي والقتل المجاني الذي لا مبرر له. وللإفلات من الإعتقال
أو القتل فإنه يتنقل من مكان إلى مكان آخر. البعض (خصوصاً أفراد المقاومة
السرية) ياساعدونه في توفير الملجأ الآمن المؤقت له, والبعض يخونه ويشي به
فيهرب إلى مكان آخر, ومن خلال المنافذ والتصدعات في مخابئه يختلس النظر إلى
ما يحدث في الخارج من مواجهات مسلحة أو اعتقالات أو أفعال قتل وعنف. المخبأ
هنا مصدر حماية ونجاة ولكن المكان وفي الوقت نفسه, المكان مشكوك في قدرته
على صد الخطر والذي يوقع الهبة في النفس.. (وهذا الملمح رأيناه في أكثر من
فيلم لبولانسكي حيث الموقع – الشقة تحديداً – قابل للاختراق ولا يقدر أن
يصد التهديد الخارجي.. مكان في : طفل روزماري,
REPULSION
(نفور), المستأجر
TENANT
وفي فيلمه "عازف البيانو" الأمكنة التي يختبئ فيها تبدو كما لو
أنها تتقشر وتنسلخ جدرانها عنها لتظهر هشة وغريبة. إن مكان الاختباء يضيق
تدريجيا, فهو يحتمي بالمدينة أولاً ثم يلجأ إلى الحي, ومن بيوت الحي إلى
الشقة, ومن الشقة إلى زوايا أضيق, وكما تقلصت مساحات الإقامة إزداد هو
إنكماشاً ليتلاءم مع الحيز الذي يحد نفسه فيه, مدفوعاً بغريزة البقاء
وبالأمل في النجاة, ولكن بدرجة أكبر, وبذلك الشغف الذي لا يخبو ولا يخفت
لحظة: ولعه بالموسيقى, والموسيقى التي لا يستطيع الاستغناء عنها, حتى عندما
يكون في مخبئه يحيط به الأعداء ولا يتعين عليه أن يصدر صوتاً فأنه يدنو من
البيانو، لكنه لا يعزف بل يحرك أصابعه كما لو يعزف في خياله. والمفترض أن
من ينقذه في النهاية هو ضابط نازي مغرم بالموسيقى ويعجب بعزفه على البيانو
فيتستر عليه ويطعمه لقاء أن يعزف له بعض المقطوعات بين حين وآخر. في
الأخير, فإن حبه للموسيقى لا ينقذه فحسب بل يحقق له الانتصار الروحي.
نضال بطل الفيلم من أجل البقاء يأخذ الحيز الأكبر
من العمل, إنه ضحية عالم مجنون وعنيف يواجهه وحيداً وأعزل من كل شيء, من
أحد يعتمد عليه - في المدينة الشبحية - غير نفسه والحظ الذي يحالفه.
والفيلم لا يوضح مشاعر هذا الرجل على نحو صريح. هو منعزل، وحيد، موهوب، إلا
أنه يبدو متحفظاً - عاطفياً – واجتماعياً – حتى مع أفراد عائلته رغم شعوره
بالولاء تجاههم. وفي أجواء الحرب والاحتلال والمقاومة، نجده سلبياً وغير
فعال، لا يمتلك وعياً سياسياً أو حساً وطنياً، يكتفي برصد ما حوله مراقباً
من بعيد، ومن خلال نوافذ الشقق التي يختبئ فيها، الأحداث التي تدور في
الخارج. شيئان فقط يثيران اهتمامه وشغفه: الموسيقى والرغبة الشديدة في
البقاء.
الفيلم يركز بؤرته على أزمة ومأزق العازف وحده دون أن يخوض في تفاصيل
الشخصيات الأخرى، ومن خلاله نشاهد مظاهر من الحياة في ظل احتلال يمارس
القتل والاضطهاد والإذلال. والمخرج بولانكسي يستنطق هذه الحياة دونما
مبالغة أو تلاعبات عاطفية أو وجدانية مفرطة، بل إن أغلب صورة نجد ما
يماثلها في الوثائق النازية. كما إن بولانسكي لا يضفي سمات رومانسية على
الضحايا، بل إنه لا يحجم عن إظهار الأثرياء اليهود وهم يتعاونون مع
النازيين وأولئك الذين حققوا الثراء السريع مستغلين الأوضاع المزرية في
تحقيق الكسب المادي، والشباب الذين يتواطؤون في قمع أبناء جلدتهم في سبيل
الحصول على امتيازات ومكاسب، مظهراً انتفاء روح التضامن والتعاطف بين
الضحايا. من جهة أخرى، يحقق المخرج حس التوازن والموضوعية من خلال إظهار
شخصية الضابط النازي في صورة إيجابية.
ملمح آخر يتميز به الفيلم وهو ابتعاده عن استغلال
مادته في التلاعب بالجمهور عبر الاعتماد على عناصر التشويق والإثارة، ولهذا
نلاحظ بأن أغلب أفعال العنف مرئية في لقطات عامة متيحاً للمتفرج أن يتأثر
ويتأمل لا أن ينقاد عاطفياً وغرائزياً.
فنياً لا يلجأ بولانسكي إلى التلاعبات البصرية
والإفراط في التقطيع، بل يعتمد الطابع التقليدي في أسلوبه البصري والسردي،
فالسرد قائم على النظام الكرونولوجي بدءاً من الاحتلال النازي وانتهاءاً
بتحرير بولندا.
أداء قوي ورائع من أدريان برودي، في دور العازف،
والذي استحق بجدارة أوسكار أفضل ممثل. أما رومان بولانسكي فقد فاز بأوسكار
أفضل مخرج.. وقد حاز الفيلم أيضاً على جائزة مهرجان كان
وجائزة الأكاديمية البريطانية. |