السينما اليابانية و العالمية اهتمت بروايات و قصص ميشيما، فقد تحولت
روايته "هيكل السرادق الذهبي" إلى فيلم من إخراج كون إيشيكاوا في 1958. و
رواية "صوت الأمواج" أخرجها للسينما سنكيشي تانيغوشي. و في بريطانيا حقق
لويس جون كارلينو في 1976 فيلما عن رواية " البحار الذي لفظه البحر".
أما الكاتب و المخرج الأمريكي بول شرادر فقد اهتم أو افتتن بشخصية ميشيما
نفسه، هذا الرجل الذي عاش بعض التناقضات التي حاول شرادر نفسه أن يجسدها من
قبل عبر شخصيات خلقها في سيناريوهاته الأولى، خصوصا شخصية روبرت دي نيرو في
فيلم "سائق التاكسي":
" كنت مهتما على الدوام بالشخصيات التي لا تشعر بالراحة و الاطمئنان تحت
جلودها، و باستمرار تلتمس الوسيلة للإفلات من مادية وجودها. كنت أكتب
سيناريوهات عن هؤلاء الأفراد بوصفهم غير عقلانيين في المقام الأول. كنت
أبحث عن الشخصية التي ذهنيتها واهتماماتها أقرب إلى ذهنيتي و اهتماماتي.
لدى ميشيما عقل باحث، وعذاب يسببه رهاب الاحتجاز ( الخوف المرضي من الأماكن
المغلقة).التاريخ قدم لي شخصية واقعية لحياتها قوة الخيال".
بول شرادر في أفلامه، ككاتب سيناريو أو كمخرج، يبدي اهتماما استثنائيا
بالأشخاص الذين لديهم نوازع تدميرية يصعب مقاومتها، من بينها تدمير الذات،و
الذين تتملكهم و تستبد بهم الرغبة في الموت. وشخصية ميشيما كانت أداة
مثالية للكشف عن البواعث الإبداعية عند شرادر.
" أحد الأسباب العديدة التي جعلتني أرغب في تحقيق فيلم عن ميشيما هو عدم
اقتناعي بأن ميشيما رجل مخبول أو غريب الأطوار. كان يعرف تماما ما الذي
يفعله. في غمرة سلوكه الشنيع و العنيف، كان جادا تماما. كانت لديه رؤية
استحواذية للحياة. بدلا من رفض النتائج الكئيبة التي كان ذهنه يقوده إليها
على نحو متزايد، قام ميشيما بقبولها و معانقتها.
هو أصبح واحدا من أولئك الذين عاشوا حقا ما آمنوا به. من هذه الزاوية،
فيلمي هو تأمل في الاضطراب الذهني. لا أحد بإمكانه أن يكون بذلك النقاء. لا
أحد قادر أن يعيش وفقا لمعتقداته لأن ذلك يعني الموت على يد تلك المعتقدات
ذاتها.
لم يخامر أحد الشعور بأن نهاية ميشيما ستكون على ذلك النحو المروع. كانوا
يعلمون بأن خياراته تتناقص و تتحدد. و الرجل الذي كان يبكي لمرأى الدم و
الموت طوال حياته، اكتشف أن الرواق الذي يسير فيه بدأ يضيق و يضيق. لكن لم
يكن هناك ما يشير أو يوحي بأنه فقد السيطرة على نفسه، و إن كان يهيئ نفسه
للموت طوال حياته.
لو لم يعش ميشيما لاخترعته. و واقع أنه عاش فعلا يعطي القصة رنينا و قوة
أعظم.لكن حقيقة القصة هي التي لها كل قوة الخيال. إنها واحدة من تلك القصص
النادرة التي تتيح لك أن تبقى قريبا من الحقيقة و مع ذلك تمارس سلطتها على
المخيلة. لقد جئت إلى ميشيما لأن قصته هي جزء من عالمي الفنتازي، تماما
مثلما هو جاء إلى الفتى الذي أحرق الهيكل الذهبي لأنه كان جزءا من عالمه
الوهمي.
لو أردت أن أحقق فيلما عن رغبتي في الموت، عن مشاعري النرجسية والجنسية،
إفراطي في الحذر من الحياة، و عجزي عن الإحساس ببعض الأمور..فها هنا الرجل
الذي عبّر مرارا عن تلك المعضلات المماثلة. أعتقد بأن هذه هي الطريقة
الوحيدة لتقديم سيرة ذاتية، و التي أيضا لها قوة البيان الشخصي: روحان
يتعين عليهما أن يكونا في تزامن كاف لمنحك الحرية التي تحتاجها ضمن حدود ما
حدث في الواقع.
لتكثيف 45 سنة في ساعتين،كان علي أن أجد بيانا قويا إلى حد كاف ليضاهي أي
بيان أستطيع أن أحققه من خلال القصة.. و ربما أن أتخطاه."
عندما أراد شرادر تحقيق فيلم عن ميشيما في اليابان ، و بممثلين يابانيين،
قام بالاتصال بأرملة ميشيما، ورغم إصرارها على موقف الرفض إلا أنها أبدت
فيما بعد شيئا من ركيز المرونة، و وافقت على المشروع، بعد فرض شروط و قيود،
و موافقتها ربما جاءت لأسباب مالية.
و لقد تعهد شرادر بتجنب التركيز على المجالات الخلافية ، كالسياسة و الميول
الجنسية. لكنه تفاجأ بإصرار الأرملة على حظر تناول الروايات "الصعبة"، رغم
أنه قد خطط لأن يوظف مشاهد من قصص ميشيما كوسيلة لسبر المجالات الأكثر
إظلاما و سرية في حياة الكاتب.
يقول شرادر:" في 1978 فاتحت أرملة ميشيما بفكرة تحقيق فيلم عن زوجها كفنان.
لم أرد أن أركز على المظاهر الجنسية أو السياسية من حياته، و لم اعتبره
فيلما عن اليابان. هذا هو القرار الذي التزمت به وحافظت عليه. و هي لم ترغب
في إظهار نفسها أو أولادها، و كان من حقها أن تشترط ذلك."
و في مرحلة لاحقة تم الاتفاق على منح شرادر الحق في تصوير مشاهد من ثلاث
روايات هي: هيكل السرادق الذهبي(1956) منزل كيوكو (1959)الجياد
الهاربة(1968).
" بنية الفيلم كانت بديهية من البداية. كان يتعين عليك أن تعرض يومه الأخير
ثم، و بأسلوب الفلاش باك الشبيه بالوثائقية، تعود إلى حياته السابقة، و إلى
أحداث من رواياته.ثيمات الجمال، الفن، الفعل، التسامي- من رواياته- كوّنت
الأجزاء أو الفصول الأربعة للفيلم. كتابة السيناريو كانت حلاّ لمشكلة أكثر
مما هي استلهام. كان لدى ميشيما الكثير من الأفكار التي لا أشاطره فيها
بالضرورة ، لكنني أساسا أحاول أن أظهر تفكيره بالطرق المنطقية الممكنة."
شرادر يروي قصة ميشيما مركزا بالتفصيل على الأحداث التي وقعت في اليوم
الأخير من حياته ثم يعود ليدخل ضمن السرد ، و بأسلوب خاص، مقتطفات من ثلاث
روايات.. و هو يبرر هذا التوظيف بقوله:
"الأفلام المأخوذة عن السير الذاتية عادة تكون مغلقة و محددة جدا. حياة
المرء ليست مفعمة بالحيوية كما هو الحال مع تخيلاتهم، وهذا ينطبق بشكل خاص
على الفنان. ميشيما، قبل أي شيء آخر، كان حالما، و من الضروري الدخول في
تلك التخيلات في سبيل إدراك سلطتها و فعاليتها في حياته الخاصة. بتعبير
آخر، شعرت أن الشكل البيوغرافي ( السيرذاتي) التقليدي غير قادر على القيام
بهذه المهمة. من جهة أخرى، وجدت أن الطريقة الوحيدة للوصول إلى أوجه و
مظاهر معينة من حياة ميشيما هي من خلال الروايات."
شرائح الدراما المكثفة و المنتزعة من روايات ميشيما الثلاث مصورة على نحو
تجريدي و بأسلوب جديد سواء في السرد أو التكوين أو الألوان، و هي تشكل ثيمة
مستقلة ضمن السياق العام لكنها تتنامى كرونولوجيا:
في الفصل الذي يحمل عنوان "الجمال"، و الذي يعتمد على شريحة من رواية "
هيكل السرادق الذهبي"، يصبح الجمال عدو البطل. القصة مبنية على حدث واقعي
عن راهب بوذي شاب ممسوس بالهيكل الذهبي الشهير في كيوتو إلى حد أنه يحرقه
في النهاية.
في فصل "الفن"، المأخوذ عن رواية " منزل كيوكو"، تنشأ علاقة سادية- مازوشية
بدافع الحاجة الاقتصادية، بين شاب و امرأة عجوز يمارسان في النهاية
الانتحار الطقسي.
في فصل "الفعل"، المأخوذ عن رواية " الجياد الهاربة" ، و الذي تدور أحداثه
في الثلاثينات من القرن الماضي، نرى طالبا وطنيا يفكر في توجيه ضربة موجعة
إلى الرأسمالية فيقتل رجل أعمال ثم ينهي حياته بالانتحار على طريقة
الهاراكيري و هو واقف على قمة منحدر صخري شاهق مواجها الشمس المشرقة.
أما في الفصل الرابع " تناغم القلم و السيف " فيقوم شرادر بربط الاستنتاجات
الناشئة من الفصول السابقة مع مهمة ميشيما الأخيرة: الانتحار.. النقطة
الأخيرة التي يلتقي فيها الفن و الفعل، و اللحظة التي يشعر فيها أخيرا بأنه
يبلغ الموت الذي تاق إليه طوال حياته.
إلى جانب هذه الثيمات من رواياته، التي تتوافق مع الأطوار المختلفة من
تنامي استحواذات و هواجس ميشيما، فإن الفيلم يظهر جوانب و أحداثا معينة من
حياة ميشيما الواقعية في أعمار مختلفة، و هذه الجوانب تتقاطع و تتداخل مع
الحالات الخيالية في بناء مركب و متشابك. |