حين تقف عند عتبة أمين صالح طالبًا الدخول إلى عالمه
القصصي، فإن الدهشـة لا تذهب منك، بل قد لا تعرف المصدر
الرئيس لهذه الدهشة، هل في بناء النص؟ الذي تراه في كل
بناء سردي يُشيّده، هل في لغة النص؟ هل في السردية التي
اتبعهـا في القصة، أم في طريقة عرض الموضوع، أم في
التخييل؟ وهذا ما يؤكده مع هبوب الشائعات الأولى لفجر
مأخوذ ببهائه، تستيقظ الشجرة وتصغي إلى صدى نداءات النهـار
الذي يقتفي بأجـراس من ضوء، فلـول الليـل، وتلك البلابل
التي التهبت مناقيرها تنتفض لتزيح الحيرة عن ريشهـا، وتأخذ
في الصبـاح مغتبطة، إذ لا شيء يضاهي حضور المعجزة –
العناصر، قصة «وشجرة تنتحل هجرة الينابيع». أم في هذا كله؟
إنك تعجز وأنت تحاور النص وتناقشه، حيث بين الموضوع
والواقع المعيش والتخييل خيط رفيع جدًّا جدًّا، هكذا صاغ
القاص قصته «الحاجز» عبر طرح أكثر من قضية متشابكة في
موضوع واحد، بين العلاقة الأسرية داخل البيت، وعنفوان
الشباب والتطلع الدائم لمواجهة من يعكر صفو العيش والحياة
الاجتماعية والسياسية والوجدانية، ويذهب الكاتب إلى زمن
الانتداب البريطاني على البحرين، والدور الذي كان يقوم به
الشباب آنذاك وإن لم يكشف تصريحًا، فإن حضور الحجاج بن
يوسف الثقفي، ودوره الفاعل في السلطة السياسية ببغداد أيام
الدولة الأموية، وما فعله يعطي القارئ مساحة من التأويل
والإيحاء تجاه الدول المستعمرة.
التجريب المستمر
إن تجربة أمين صالح القصصية أو حتى الروائية قائمة على
التجريب المستمر، في الشكل والموضوع، وفي بناء جسد العمل
ومعماره، وفي اللغة التي يرتكز عليها في كل أعماله، حيث
اللغة عنده تقنية ومرتكز رئيس، وليست مكونًا عاديًّا من
مكونات الكتابة السردية، وهنا يقول الكاتب في إحدى قصص
مجموعة «الطرائد»: «سادة البلدة هنا. يتحدثون عن الأسهم
حتى في عطلتهم الأسبوعية، حتى في نومهم. سيدات البلدة كذلك
يتقن الثرثرة عن صالونات التجميل. الأبناء المدللون يلهون
في الجداول التي تسقي الأحجار، وأحيانًا يتراشقون بالطوب.
أما خارج سور الحديقة فحيّز يمكن أن يسع أبناء الفقراء،
وهم بالتحديد أفراد أو بتعبير أدق، طبقة تعجز عن دفع رسوم
الدخول». (الطرائد، قصة «في الحديقة الحجرية»)، وهذا ما
يعكس طبيعة الرؤية لديه تجاه نصه، ونصوص الآخرين أيضًا،
وقدرته الفنية والجمالية على فك قيود الكتابة من أسر
سياجها، وإطلاق حرية النوع الكتابي الأدبي من أجل بناء
نظام آخر يؤمن به، وإن لم يؤمن به الآخرون، نظام يصلح له
دون غيره حيث البؤر التي ينطلق منها في الكتابة لا تأتي في
شكلها الطبيعي، وإنما هي صيرورة دائمة ومتحركة الاتجاهات
التي تمثل نهجًا وطريقًا في الكتابة الإبداعية لديه منذ
الكتابات الأولى.
وإذا هناك من ملحوظات حول هذه المجموعة فإنها تكمن في
تباين الأساليب السردية، وهذه حالة تؤكد الفردانية
والذاتية الكاتبة التي تعتمد على الذات وليس على الآخر
محاكاة أو تقليدًا، كما أن التفاوت في اللغة بين الأدبية
والعادية كان واضحًا في النصوص التي جاءت معظمها على لسان
الراوي أو السارد العليم العارف بكل تفاصيل الحكاية وأحداث
النص من خلال المباشرة والوضـوح أو في الغموض والرمزية.
وبعض هذه النصوص اهتمت بمكوّن الحوار لاعتقادها أنه الأهم
في وصول المضمون والهدف إلى القارئ. وفيما يخص الكتابة
الروائية فأمين صالح منذ الكتابات الأولى وهو مستمر برؤية
كانت ولا تزال باقية، بل تتطور وفق تحديات الكتابة
الإبداعية عمومًا. تناولت روايته الأولى «أغنية أ. ص.
الأولى» محنة الإنسان المعاصر الذي يعاني الإحباط والأزمات
والفقر والقهر في ظل القضايا الاجتماعية والإنسانية؛ لذلك
نجده يرتحل في سردياته إلى مستويات عليا في الرؤية تجاه
الواقع المعيش، وكيفية تناول مشكلاته وقضاياه، وباللغة
التي يراها هي الحافز الحقيقي تجاه هذا الواقع.
نص سردي وثقافي
أعتقد أن أمين صالح من الكتّاب المبدعين الذين يبذلون
جهدًا كبيرًا في البحث عن موضوع النص، وفي كيفية استثمار
تلك القراءات الثقافية والأدبية والسينمائية المعمقة لتصب
كلها في النص الذي لم يعد عنده نصًّا سرديًّا فحسب، وإنما
هو نص سردي وثقافي ومعرفي في آن واحد، ويذهب نصه إلى أبعد
من هذا إذا عددنا نصه في محطة ما بعد الحداثة لما له من
خصوصية تتمثل في تكسير القوالب الجاهزة، والابتعاد من
الأنماط المألوفة في الكتابة، فهو يفرض نصه على القارئ
لينظر إليه في أفق النظريات والقواعد المنهجية، ويحكم عليه
بمسطرتها، بل يأخذه إلى أفق أبعد وأرحب بعيدًا من كل هذه
القيود، وينطلق في تحليق ما يرغبه القارئ طالما يتشابك مع
النص ومدلولاته ومقولاته وقضاياه.
في رواية «رهائن الغيب والذين هبطوا في صحن الدار بلا
أجنحة» تأخذنا إلى الذاكرة الاجتماعية، وإلى الطفولة
والصبا والشباب، إلى طبيعة التكوين الإنساني في ظل مجتمع
تسوده العديد من الممارسات الاجتماعية والطبقية، حيث تدور
الأحداث من خلال بعض الفتية (حميد – كريم الأعرج – زكريا –
مفتاح – عزوز)، فكل واحد من هؤلاء وضع له الكاتب حكاية
تخصه بمفرده، ولكنها ترتبط في جوانب أخرى بحكايات الأولاد
الآخرين، هؤلاء يعيشون مرحلة عمرهم بكل براءة وشقاوة،
وتنمو شخصياتهم بأحداث تتغير وتكبر مع نموهم الجسدي
والعقلي، فها هو حميد الباحث عما ينقصه بحسب اعتقاده،
فيتمنى أن يكون كسلطان صاحب الجسد القوي، والفتوة، والقادر
على البطش والسيطرة، وزرع الخوف لمن في طريقه، ولكن في طور
الشخصية يكتشف حميد أن شخصيته طموحة لتكون مثل شخصية أحمد
صاحب المبادئ الثورية الملاحق من جانب السلطات الأمنية،
وفي الوقت الذي أخذ من هذين الاثنين، فقد اتجه إلى عازف
الساكسفون سنان منجذبًا إليه وإلى رغبة تعلم الموسيقا.
ويكشف الكاتب تطور الشخصيات عمريًّا ليعرف كل واحد منهم
طبيعة جسده، وكيفية التعامل معه بشكل عام، وتلبية غرائز
الجسد بشكل خاص… وكما طرحت الرواية هذه العناصر التي تلامس
الشباب في ظل حرمان اجتماعي ونفسي واقتصادي، وقفت أيضًا
على طبيعة المجتمع اقتصاديًّا وطبقيًّا، وعلاقة أبناء
الفقراء بالأغنياء ونظرة الأغنياء للفقراء، كاشفة تعثر
العلاقة بين حميد الفقير مع نبيل الغني، وهذا ما سحب أحداث
الرواية في سياقات الطبقية إلى الحديث عن المطالبات
والدفاع عن الحقوق، وحضور مفهوم القومية والحزبية وفلسطين،
والاستعمار. |