«أغنية أ. ص. الأولى» هي المصافحة الأولى لي مع إبداع أمين
صالح. قرأتُ الرواية في منتصف الثمانينيات من القرن
الماضي، ولا أزال أذكر تلك القراءة والظرف والمناخ
المصاحبين لها؛ وهو ما جعل الرواية أشد نفاذًا وأبلغ،
وأبقى في الذاكرة جماليًّا وإنسانيًّا. وقتذاك كانت حرب
حركة أمل على المخيمات الفلسطينية في لبنان، وأمام العين
تحضر مسرحية «خيوط من فضة» للمخرج جواد الأسدي. واقعة
دموية فائرة وحدث إبداعي فلسطيني «عربي» بأنفاس عراقية
ترافَقَا ليكونا ماثليْنِ ومحيطيْنِ بي أثناء إبحاري مع
أمين صالح لأول مرّة متدافِعَ الأنفاس مبهورَها.
تدفّقٌ إخباري موجع من بيروت، و«خيوط من فضة» ـ رغم
الأسى.. والجحيم ـ تحلّق بي في متعةٍ نادرة لم أختبرْها،
قبلًا، تصدر عن عمل مسرحي شاهدته. هذا المتعة وذلك الوجع
أجدهما قبالتي أيضًا من نافذة أمين صالح الجديدةِ عليَّ
وعيًا ووجدانًا وأسلوبًا وطريقة في الكتابة.. تنتمي إلى
الواقع في تعقيده الاجتماعي والسياسي؛ الواقع المرهون بيد
سلطة متغوّلة تثخن في (الإنسان.. «أ. ص. ونسخه الوطنية»)
قمعًا ونهبًا، وتفرض عليه الانحناء ثم الانحناء لجبروتِها
ولأدواتِها التنفيذية (المختار، المحقّق، الملكة،…). هذا
الواقع بإنسانه المقهور والمهدور -والتعبير للدكتور مصطفى
حجازي- الذي يَئِنّ تحت حافر العسف والتنكيل والتغييب؛
يجري تناوله تعبيريًّا بصيغة جمالية لافتة غير معهودة
سرديًّا في الكتابة العربية في حدود تجربتي القرائية؛ ذلك
أنّ أمين صالح بسحر اللغة وطلاقة المخيّلة قادرٌ على خلخلة
-هذا الواقع- ونقله إلى مدارٍ حلميٍّ يعبق بكلِّ ما هو
غريب ومدهش.
ثمّة تنافذ وامتزاج إلى درجة الدمج بين الوقائعي واليومي
-بما هو صلب وثابت وراسخ- وبين ما تفيءُ به المخيّلة من
تحوّلاتٍ وكائنات لها طابعُ الخفّة والانسيابية، والقابلية
للتركيب ثم إعادة التركيب في بناءٍ توالديٍّ أقرب ما يكون
إلى رحلة استكشاف تضرب في المجهول، أو على وجه التحديد،
تبحث عن هذا المجهول.. تسعى إليه؛ كنزًا يغري بالإدلاج
فيه؛ وَعْدًا بأبوابٍ ومغاراتٍ لا تُستنفَد. تلك الغلالةُ
الحلمية بذخائر المخيّلة التي لا تُحصى ـ وفي طيّاتها
الواقعُ، أبدًا تظلّ فراشةَ أمين صالح المستحيلة منذ
أغنيته الأولى حتى «المياه وظلالها».
لعل من المناسب هنا أن أستعين بأحد نصوصه القصيرة جدًّا،
الواردة في «موت طفيف»، الذي يحلو لي أن أعدّه دليلًا على
مسار السرد عند كاتبنا في انفتاحه وتمدّده، القائم على
التجدّد يعقبه التجدّد وعلى الانتظار يتلوه انتظار..
القائم على الانسراح مع ضباب الحلم ودوّاماته التي تتوسّع
واحدةً بعد أخرى. مسارٌ من السرد لذّتُهُ ومتعتُه كلّها في
المؤجَّل بلا نهايةٍ ودون قُفلٍ محكم، وكأنما بنيلوبي
تخامِرُ روحَ الكاتب وتسري في حركة أصابعه: (العجوز تنسجُ
الخرافة في أحداق أحفادٍ/ يدخلونَ الحكايةَ بوجلِ من يدخلُ
المتاهة/ وقبل أن تصلَ الحكايةُ إلى عتبةِ النهاية/ يمسُّ
النعاسُ أجفانَهم بأجنحتِهِ المبلّلة بالحلم). |