كنا في عام 1989م، لم نصل بعد إلى عامنا العشرين، نقرأ كل
ما يصل إلينا، نريد أن نكون شعراء ولا شيء آخر. كان الوصول
إلى منشورات «توبقال» المغربية في هذا الوقت المبكر من
أعمارنا بمنزلة العثور على «كنز»، أو بلوغ مغارة «علي
بابا»، غمرتنا الدار بفيضها، وجرت معها مياه الاكتشافات.
منذ أن قرأنا ديوان «الحياة قرب الأكروبول» للشاعر العراقي
سركون بولص، صرنا بعدها نثق في كل ما تنشر، ونعتقد في
جودته، وأصبح كل كتاب يؤدي إلى مكتبة. ولا يزال شعار الدار
حاضرًا في رأسي: «تختار لك كتبًا أنت بحاجة إليها». كانت
هذه الثقة صحيحة إلى حد كبير، فلم أقرأ كتابًا من «توبقال»
وخذلني قط. هز ما قرأناه كل أفكارنا عن الكتابة، وأخذها
إلى منطقة أخرى من الإدراك لوعودها، وقت أن كانت أرواحنا
مؤهلة، وقلوبنا بيضاء، وعقولنا تنتظر من يملؤها بالشك.
لا أعرف إلى الآن كيف وصل إلينا كتاب «الجواشن» لقاسم حداد
وأمين صالح بغلافه الذي يقع بين الأبيض والرمادي، وعنوانه
المكتوب باللون الأحمر، وبـ«فنط» أقرب لأشكال الخطوط
المغربية التقليدية و«موتيف» أسود عرفت أنه تفصيل من لوحة
للفنان رشيد القريشي، ما أذكره أنني أخذت الكتاب من بيت
صديقي أحمد يماني، وكان هذا هو أول لقاء مع أمين صالح
وقاسم حداد وأول لقاء أعرفه مع اقتراحات إنتاج (النص
المفتوح)، لفتنا آنذاك وجود نص واحد يحمل اسم اثنين، كانت
التجربة ولا تزال غريبة؛ لأن الكتابة الإبداعية فعل فردي،
وبفضل هذا الاعتقاد ظلت تجارب عبدالرحمن منيف مع جبرا
إبراهيم جبرا وتجربة طه حسين مع توفيق الحكيم مجرد
استثناءات لم ترسخ لتقليد أو تساهم في إشاعة الفكرة التي
تنزع عن المبدع أنانيته.
حين أتيح لي بعد خمسة عشر عامًا من اللقاء الأول أن أحظى
بصحبة قاسم حداد وصداقته، كنت أرافقه إلى لقاءات متكررة مع
أمين ولم أسألهما قط عن الدافع وراء كتابة نص واحد، ربما
لأني رأيت الإجابة متجسدة أمامي: «صديقان حميمان يمزجان
الضوء والعتمة». (نص العاصمة الأولى – الجواشن).
* * *
في اللقاءات التي جمعتني معهما طوال 18 شهرًا عشتها في
البحرين، كنت أراقب صداقتهما النادرة وأتأملها، اطلعت على
نصوص أخرى من إنتاجهما المشترك مثل «موت الكورس»، و«الدم
الهاطل»، وتأكدت عندي فكرة «محترف الكتابة» التي تولد في
خضم الصداقة اليومية، وتنمو بفضل توالد الأفكار التي لا
يتعطل عملها أبدًا، صداقة بلغت عامها الخمسين دون أن
تشيخ، لا أعرف إن كانت في مقام المعجزة، أو راسية مثل
سفينة فوق ضفاف الهبة.
أستطيع القول: إنها علاقة تقوم على نوع من «الصمت» أجمل من
كل الكلام. لا يغادر أمين بيته إلا مرات نادرة، تتلخص كلها
في اللقاء مع قاسم؛ لأن بينهما ضحكة صاخبة (يستعصي على
الآخرين تأويلها) كما يقول أمين. كان قاسم يصحبني في
العادة إلى مقهى أو مطعم اختاره للقاء مع (أمين)، كانت
اللقاءات في أغلبها صباحية وفي الطريق يخبرني أنه أعد كل
شيء. ومهما طالت الجلسة فإن أمين لا يتكلم أبدًا! وإذا حدث
فهو يكتفي بالتعليق، ومن النادر أن يبادر؛ لأنه كما كتب
صديقه: «لا يروي، لكنه يرى». وطوال حياتي لم أعرف صداقة
مثل ما بينهما من صداقة، تشمل خدمات الرعاية الفائقة.
في أسفار مشتركة رأيت قاسم يبحث عن الأشياء التي يحتاجها
أمين، أو تلك التي يعتقد أنها تسعده، يحمل إليه الكتب من
بلاد كثيرة، وحين يسافر يحمل مؤلفاته إلى الأصدقاء. وعبر
عشرين عامًا لا أذكر أن أمينًا وهبني كتابًا من كتبه
وأجدها عندي؛ لأن قاسم تولّى عنه مسؤولية حملها
كـ«القرابين» يهبها للمحبين الذين يمجدون هذه الصداقة. يصف
أمين نفسه بأنه «خجول ومتردد، لا يحسن التصرف أبدًا»؛ لذلك
هو بحاجة لمن يهيئ له أشياء كثيرة وربما من ينوب عنه، وقد
هيأ قاسم نفسه لهذه المهمة وأداها بنجاح.
حين جلست لأكتب ما أكتبه الآن فكرت في تقصي الجذر الأول في
هذه الشجرة المباركة، عدت لما كتبه أمين صالح في مقدمة
كتاب «ما أجملك أيها الذئب» الذي نشره قاسم حداد في عام
2006م (المؤسسة العربية للدراسات والنشر)، ووجدت أمينًا
يؤرخ لهذه الصداقة، ويكشف قانونها، صداقة اقترنت فيها
الروح بالروح، وصار أحدهما للآخر ذاتًا أخرى.
يعود صالح إلى نص «الجواشن» ويضع يده على الالتباس الذي مس
المؤلفين، فـ«لم نعد نعرف من منهما كتب هذا أو ذاك، ومن
نصب الفخاخ لجذور المساء، أو صاغ لكائنات الغيب لغتها
ومأزقها ومصائرها.. كأنّ ذاتًا واحدة كتبت ذلك النص»، في
حين ينبهني قاسم إلى أنهما كانا يمشيان في حلم ويتبادلان
«أنخاب الكتابة».
كتب قاسم حداد الكثير عن (البلسم المسمى أمين صالح)، ونظر
إليه من شرفة الحلم أكثر من مرة، وتوقف أمام شاعريته وقرأ
سرده بعين الشاعر، ودلّنا على المسافة التي ينبغي أن
نقطعها من الشخص إلى النص، ووضع أرواحنا في مهب هذا
التماهي.
يلمح قارئ سرديات أمين صالح ببساطة هذا الحضور الباذخ
للشعر في نصوصه، لكن من أين يأتي أمين بالشعر وهو السارد
الفذ؟ حين طرحت على نفسي هذا السؤال اكتشفت أن ما كتبته
حول إنتاج أمين صالح انصب بالكامل على جهده مترجمًا، وهو
جهد يؤسس لخارطة طريق تصل بين محطات كثيرة في تجربته
الإبداعية التي تنطوي على ولع واضح بالسوريالية، سواء على
صعيد التقنية أو سبل إنتاج المعنى.
ومن يعود لترجمته لكتاب «السوريالية في عيون المرايا» سيجد
الكثير الذي يعين على هذا الفهم، وبخاصة «الجواشن»،
و«رهائن الغيب»، وفي ترجمته البديعة لكتاب أندريه
تاركوفسكي يمكن الوقوف على أسباب أخرى للولع بخيار (النص
المفتوح)، فالكتاب كله تحريض على فكرة التجاور الإبداعي،
وتأكيد لمزاياها. وهو في ترجماته التي توالت مؤخرًا
لمقالات لوتريامون على سبيل المثال يهيئ للقارئ فرصة
العثور على ذائقة جديدة تأخذه إلى الضفاف البعيدة، وتحرره
من الحدود المرسومة سلفًا.
وفي أحدث ترجماته التي وصلت لي وصدرت بعنوان: «جيوبي مليئة
بالفصول أيتها الينابيع»، يسهل إدراك حرصه وفهمه
للسوريالية، وافتتانه بالشعر بداية من العنوان. وعبر صفحات
الكتاب المهدى إلى قاسم حداد أيضًا، تتأكد فكرة أن أمين
صالح شاعر حتى بعد أن توقف مختارًا عن كتابة الشعر، وأدرك
-كما يقول الكتاب- أن المجد تخلى عن الشعر ليتمتع به العلم
والفلسفة. وربما آثر أن يترك الشعر لصديقه قاسم حداد،
ويؤسس لصداقة تشبه القصيدة، فقد أرادها شجرة بأوراق
كثيرة، واحتمى بظلها كما احتمى بالصمت طوال الوقت. |