بدأ
احتضار أفلام الكاوبوي الأمريكية مع انعقاد مؤتمر باندونغ في عام 1955
(1). فالجيل الجديد الذي بزغ من ليل الاستعمار الطويل، والذي تخلص من
عقدة المستعمر، طالب بحق ارتباطه بثقافته الخاصة. ونتيجة لهذا، فقد حطم
مفهوم السذاجة والبراءة - إلى جانب الإتقان - في هذا النوع من الأفلام
الأمريكية.
لقد
اكتشفت أهداف كثيرة في هذه الأفلام، ومن المدهش أن النقد أظهر بأن
المضامين المقدسة التي ترتكز عليها هذه الأفلام مشبعة بالسياسة
الرجعية، التمييز العنصري، تمجيد الروح الحربية، والنزعات الاستعمارية
والإمبريالية. ومنذ ذلك الوقت فصاعداً صار ينظر إلى أفلام الكاوبوي
بكثير من الشك مثلما الحال مع كثير من القيم الغربية الأخرى .
وبدأ
بعض مخرجي الأفلام في استكناه جوانب الضعف الإيديولوجي في هذا النوع من
الأفلام، وحاولوا، لبعض الوقت، إحياء بعض جوانب الصدق في مسائل عديدة.
على سبيل المثال، أخرج ديلمر ديفس، في مستهل عام
1950،
فيلم "السهم المكسور" Broken
Arrow
وهو فيلم كاوبوي مناصر للهنود الحمر، وفيه يذكرنا بأن إخضاع الغرب كان
عملاً استعمارياً حقيقياً جرّد الهنود الحمر - عن طريق المعاهدات- من
أراضيهم.
وفيما
بعد، أخرج صامويل فوللر فيلم "مع انطلاقـة الســهم"
With Run
of the Arrow
وأخرج انتوني مان فيلم " مع مدخل الشيطان"
With Devil's
Doorway
فيه إعادة
الكرامة التاريخية للهندي الأحمر. بعد ذلك جاء التائبون العظام أمثال
جون فورد، هوارد هوكس، وراؤول والش .
في عام
1951
قوّض المخرج جون هوستون أسطورة البطولة العـسكرية في فيلمه " شــارة
الشجاعــة الحمــــــــراء"
The Red Badge of Courage
الذي أصبح هدفاً لحملة نقد شعواء، فقد كانت " السترة الزرقاء "
The Blue Tunics
تحظى في ذلك الوقت باحترام عظيـم ( أخرج الفيلم خلال
ذروة الحرب الكورية) .
لقد
كان من الضروري الانتظار حتى افتضاح الجرائم والمساوئ العسكرية في
فيتنام قبل أن يتمكن رالف نيلسون في فيلمه "الجندي الحزين "
Soldier Blue (1970)
، و أرثر بن في فيلمه " الرجل الكبير الصغير"
Little Big Man
(1970)
أن يعيدا إلى الذاكرة، دون أن يتعرضا للهجوم، التاريخ الحزين للمجازر
أثناء الحرب الهندية.
وفيما
بعد، في حوالي عام
1958،
انهارت الأسطورة الأكثر تماسكاً عن الرجولة الخارقة لراعي البقر، فقد
فضح أرثر بن في فيلمه "المقاتل الأعسر"
The Left-Handed Gun
(1958)
تاريخ اللواط لدى بيلي ذي كيد. كما سخر أندي وارهول في فيلمه "رعاة
البقر المهجورون"
Lonesome Cowboys
من
النزعة الذكورية لدى رعاة البقر.
وأخيراً تجاسر جون شليسنجر في فيلمه " كاوبوي منتصف الليل "
Midnight Cowboy
(1969)
فأظهر أن الفتشية في ملابس رعاة البقر في السينما لا تؤدي إلا إلى
إثارة النماذج المخنثة في شوارع المدينة الكبيرة.
في
نهاية هذا المسار، وبعد أن لم يعد هناك هنود لحزّ فرواة رؤوسهم، ولا
أبواق نداء للخيالة الأبطال، وبعد أن أدرك البطل الكاوبوي سلوكه
الاستعماري، وساورته الشكوك حتى في رجولته، اكتشف - بألم - (في الوقت
الذي اكتشف فيه المتفرجون ذلك) بأن التاريخ الأمريكي نادراً ما يتوافق
مع حلمه الداخلي، وبأن زمن السلوك الفظّ والعرضي قد انتهى الآن.
في مثل
هذه الظروف من الصعب على أي مخرج أن يقبل -بسذاجة - التعامل مع فيلم
كاوبوي الآن، فالمتفرجون تخلوا عن مشاهدة هذا النوع، وشبكات التلفزيون
الأمريكية أهملت أفلام الكاوبوي من برامجها. الوقت لم يعد في صالح
أفلام الكاوبوي، فهذا النوع يناسب أمريكا طالما هي تؤمن في نفسها وفي
قدرها الواضح. لقد كانت تعطي المهاجرين والمقيمين أسطورة السكان
الأصليين. أما الآن، فانه بدلاً من الإرباك الذي أحدثته خيبات الأمل
الكثيرة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فان أمريكا
تحاول أن لا تقبل ثانية ذلك الاستقبال القديم لأفلام الكاوبوي. لم يعد
من شك الآن في انقطاع الوهم.
ومع أن
مبادئها الأيديولوجية قد تحطمت، إلا أن أفلام الكاوبوي احتفظت بالقدرة
على خلق الرموز والتقاليد التي طوّرتها خلال أكثر من خمسين سنة من
الظهور المستمر. وكان المخرجون الإيطاليون أساساً هم الذين أخذوا على
عاتقهم إعادة دورة أفلام الكاوبوي. فالغرب، بالنسبة لهم، لا تراث له،
وأقل وطنية وأهمية عندهم .
ولأن
معظم الأوروبيين تشبعوا ثقافياً، منذ طفولتهم، بقصص رعاة البقر والهنود
الحمر، فان الغرب كان يشكل لهم تقليداً سينمائياً بحتاً. والمخرجون
الإيطاليون عادوا إلى هذا النوع كتاريخ للكاوبوي (كفصل من تاريخ
السينما) ولكن ليس كتاريخ للغرب البعيد جداً.
هؤلاء
المخرجون، وبعد أن تحرروا من الأبعاد التاريخية التي كانت مطلوبة قبلاً
في أفلام الكاوبوي، مثلما تخلصوا من الخضوع للحقيقة التاريخية، تحوّلوا
إلى " ماكينة قصص " بكل معنى الكلمة.
فشخصيات وثيمات ومواقع أفلام الكاوبوي سمحت لهم بإعداد القصص التي كان
أهم ما فيها هي السعادة والمتعة التامة في السرد. وكنتيجة لهذا، خلقوا
أوضاعاً غير عادية، كتلك التي في أفلام الكاوبوي الأمريكية المتشبثة
بالأسلوب القديم، بشكل لم يتوقعه أحد.
في
البداية كان النجاح الجماهيري لأفلام الكاوبوي الإيطالية كبيراً إلى حد
أن الأمريكيون أنفسهم حاولوا تقليدها. وكمثال على ذلك ظهور سلسلة "
رعاة البقر القذرون" والذي بالتأكيد أفضل مثال له هو فيلم"الزمـرة
المتوحشة "
The Wild Bunch
لسام بكنباه (1969)
.
النجاح
التجاري لأفلام الكاوبوي الإيطالية سمحت أيضاً لكثير من المخرجين أن
يعبروا، بشكل صريح، عن أنفسهم ليصلوا إلى أكبر قطاع من الجماهير،
وليطرحوا، عبر هذا النوع من الأفلام، أفكارهم السياسية الواضحة.
وحتى
وقت قريب، كانت أعمال هؤلاء المخرجين (وكتّاب السيناريو) إما قليلة
الشهرة أو تواجه بسوء الفهم.. أعمالهم كانت مناسبة فقط. وعلى هذا، فلا
بد من إعادة التحليل الدقيق لمعرفة أهمية بعض الأفلام التي تعرف بأفلام
الكاوبوي الإيطالية.
لقد
واجهت أفلام الكاوبوي الإيطالية خلال عشر سنوات من استمرارها (65-
1975)
وإن كان يبدو
أنها استنفدت طاقتها الآن، بسخرية المتفرجين السياسيين التقدميين.
الأفلام الوحيدة التي فلتت من هذا الازدراء هي الأفلام التي تعرف الآن
بأنها هي المؤسسة لهذا النوع، أي تلك التي أخرجها سيرجـيو ليونـي مـثل
"من أجــل حفـــــنة دولارات"
A Fistful of Dollars
(1964)
" من أجل مزيـد من الدولارات "
For a Few Dollars More
(1965)
" الطيب والشرير والقبيح "
The Good, the Bad and
the Ugly (1966)
"حدث ذات مرة في الغرب"
Once Upon a Time in the
West (1968)
" من أجل حفنة متفجرات "
Duck, You Sucker
(1972).
أما الأفلام الأخرى فقد اعتبرت حثالة بشكل عام، فهي لم ترتق إلى أعمال
ليوني، واعتبرت، كما كان يقال، بأنها مأخوذة بالنموذج الأمريكي.
في
الواقع، لم تكن المسألة مسألة تقليد، لأنه بإمكان الملاحظ الدقيق أن
يرى هذه الأفلام، بعيداً عن الاقتباس والتقليد والانتحال والانتهاك، هي
أفلام يجمعها هدف تأسيس جديد لهذا النوع من الأفلام. وما كان يبدو
واضحاً هو إعادة بناء الحكاية، من وفرة الأساليب المتباينة، ومن حبكتها
العجيبة. ظاهرياً فقد كانت تذكرنا بأفلام الكاوبوي الأمريكية.
وأدرك
أكثر المتفرجين الواعين بأن العلاقة بين أفلام الكاوبوي الإيطالية
وأفلام الكاوبوي الأمريكية هي كالعلاقة بين السيد هايد والدكتور جيكل،
لقد كانت الأفلام الإيطالية توأم منطلق ينبض بنشاط جديد وفي كامل قوته.
(2)
وفيما
بعد بدا الاختلاف بين هذين النوعين محدداً في ثوابت معينة، واتضح بأن
للأفلام الإيطالية بناؤها الفريد وطريقتها الخاصة. فكل شخصية من شخصيات
أفلام الكاوبوي الإيطالية هي شخصية مسرحية بارعة تختلف مع الشخصيات
التقليدية لأفلام الكاوبوي الأمريكية.
الأفلام الإيطالية تستند على الديكور، الماكياج، الحبكة الغريبة، الحيل
البصرية، المبالغة، تراكم التفاصيل - باختصار هي تستند على فن الباروك.
فالتطرف الواقعي لشخصيات الأفلام الإيطالية (الشعور المشعثة، الثياب
القذرة، الروائح الكريهة) طريقة اللبس وحاجيات البطل الخاصة (بما في
ذلك هوّس حمل الأسلحة) كلها تهدف إلى تعويض الخداع الكامل للمساحات
والمواقع. فالمراعي الخضراء والحقول والماشية في أفلام الكاوبوي
الأمريكية استبدلت بأودية مقفرة شاسعة (تقع عادة في جنوبي إيطاليا أو
أسبانيا) . الهنود الحمر أهملوا تماماً، واستبدلوا بالمكسيكيين (وجوههم
تشبه وجوه سكان البحر الأبيض المتوسط). وعليه، الشخصيات النسائية
(اللائي قدّمن في وقت متأخر في أفلام الكاوبوي الأمريكية إرضاءً
للقانون المقدس الخاص باختلاط الجنسين) أصبحت نادرة جداً. وعليه، فقد
اختفت عملياً مسائل الحب والعلاقات العاطفية. ولا بد للمرء أن يلاحظ،
أخيراً، بأن عالم أفلام الكاوبوي الإيطالية هو عالم " الرجل الجذاب ".
فالبطل (دائماً ساخر، وسيم، وصامت) لا يبدو انه يتحلى بروح الشهامة،
وتبدو الفردانية عنده واضحة وتأتي بالدرجة الأولى قبل أن يكون مواطناً
صالحاً. وبطل الرواية يتحرك بسهولة خلال حبكة أفلام المتشردين (قصص
المتشردين هي إشارة أدبية إلى أفلام الكاوبوي الإيطالية) بسبب بحثه
الدائم عن المال (غالباً ما يكون البطل متصيد الجوائز) وهو المحرك
الحقيقي لكل الأحداث.
القصص
في أفلام الكاوبوي الإيطالية عادة ما تكون غريبة، وغير مباشرة، وغير
مهتمة أبداً في الناحية السيكولوجية. فالموضوع الحقيقي هو البطل نفسه،
وقدراته الفريدة ومهاراته، والتي غالباً ما تظهرها الأحداث بقدر
الإمكان. عناوين هذه الأفلام نادراً ما تكون وصفية، فهي تركز على
الشخصية الرئيسية أكثر منها على الحبكة. إن البطل عادة هو الذي يتكلم
إلينا (مثال جميل على التعريف الإجباري) وعندما نقرأ عناوين العديد من
الأفلام الإيطالية مثل "اسمي لا أحد " أو السلسلة الكاملة من أفلام "
يدعونني بـ ..." (ترنتي، بروفيدنس، ساباتا .. الخ) نستنتج بأن الشخصية
الرئيسية هي البطل بدون اسم.. دليل التفاخر المتطرف.
في هذه
البنية المختلقة (بشكل ساخر أيضاً) نجح بعض المخرجين الإيطاليين
(والأسبان) في التعامل مع عدد من الموضوعات السياسية القوية خلال
الفترة (
65
- 1973
) عندما أظهرت الإمبريالية الأمريكية وجهها القبيح في أمريكا اللاتينية
وفي جنوب شرق آسيا. هؤلاء المخرجون الملتزمون سياسياً حاولوا أن يقدموا
من خلال هذا النوع السينمائي الجماهيري موضوعات راديكالية تصل إلى أكبر
عدد ممكن من الجماهير بوحي من منظري العالم الثالث خصوصاً أفكار فرانتز
فانون.
ومن
خلال إظهار الصراعات والتناقضات بين المكسيكيين الرثين وبين الأمريكيين
المرفهين، أظهروا صعوبات الحوار بين العالم الثالث والعواصم الصناعية.
لقد استفاد المخرجون من هذه الرمزية المباشرة ليؤكدوا سقوط الثقافتين
الأوروبية - الأمريكية، وفشل ادعاءاتها في تمثيل الثقافة العالمية.
وأرادوا أيضاً أن يذكرونا بنضالات شعوب أمريكا اللاتينية وفيتنام
وأفريقيا ضد الاستعمار، مثلما نضالات الأقليات العرقية كالزنوج والهنود
الحمر والبرتوريكيون في الولايات المتحدة .
إن
الرجال الذين كانوا وراء خلق هذه القصص الجماهيرية هم مثقفون يساريون
ذوي سمعة عالمية مثل فرانكو سوليناس (كاتب سيناريوهات أفلام مثل "سلفاتوري
غوليانو " لفرانشيسكو روسي، وفيلمي "معركة الجزائر" و " إحرق" لجيلو
بونتيكورفو، و " حالة حصار" لكوستا غافراس)، ونفسه الذي كتب لداميانو
دامياني (مخرج فيلم "اعترافات رئيس شرطة" وأفلام يسارية إيطالية أخرى)
سيناريو واحد من أقوى أفلام الكاوبوي السياسية وهو فيلم " رصاصة
للجنرال "
1967)).
تدور
أحداث هذا الفيلم في المكسيك أثناء ثورة عام
1910.
شاب أمريكي (يقوم بدوره ليو كاستيل) يتمكن من التسلل إلى مجموعة من
العصابات الثورية ويحصل على ثقة زعيمهم " آل جونجو" (يلعب دوره جيان
ماريا فولونتي) ومن ثم يتمكن من اغتيال جنرال في الجيش الثوري. ويستلم
مقابل جريمته هذه مبلغاً كبيراً من المال كجائزة من الحكومة الفيدرالية
ويستعد لتقاسم المال مع " آل جونجو " شريكه اللاإرادي. لكن "آل جونجو "
يقتله حين يدرك عجرفة الأمريكيين الذين يبيعون كل شيء من أجل المال.
ومن ثم يعطي الأموال لمتسول ويطلب منه أن يشتري متفجرات لا أن يشتري
خبزاً وذلك من أجل مواصلة الثورة.
هذه
التورية الصريحة تخفي اتهاماً للمواقف السياسية للولايات المتحدة تجاه
شعوب أمريكا اللاتينية (يمكن أن نفسر هنا شجب سياسة "المتطوعون من أجل
السلام " كما فعل المخرج البوليفي خورخي سانجينيس في فيلمه المدهش ذي
النبرة السياسية العالية " دم الكوندور"). ومع أن ثورة "آل جونجو "
كانت غريزية إلا أنها كانت تدافع عن كرامة الشعب.
الموضوع ذاته هو محور سيناريو آخر لفرانكو سوليناس في فيلم "كولرادو" (1968
) من إخراج سيرجيو سوليما. يحكي الفيلم عن كولرادو كوربيت (لي فان
كليف) الرجل التقدمي المستقيم (كولرادو تعني أحمر بالأسبانية) الذي
يبحث (صائد جوائز آخر) عن مكسيكي متهم باغتصاب ابنة إقطاعي ثري في
الرابعة عشرة من عمرها. خلال المطاردة الطويلة يتعرف كوربيت على
المكسيكي جيداً. "كوتشيلو" سانشيز (توماس ميليان) هو صديق قديم للزعيم
الثوري جوايز، وهو يناضل من أجل حرية الكادحين من ظلم الإقطاعيين.
ويعلم كوربيت أخيراً بأن كوتشيلو هو ضحية اتهام ظالم، ويكتشف بأن
المغتصب الحقيقي ما هو إلا صهر الإقطاعي. يشجب هذا الفيلم القانون
والنظام الاجتماعي ما داما ينتميان إلى الطبقة المستفيدة منهما في
حماية مصالحها الاقتصادية، وتستخف بمطالب العدالة الحقة.
في
فيلم "أهرب، أهرب أيها الرجل" (1969)
يُحيي سيرجيو سوليما شخصية " كوتشيلو " سانشيز (يلعب دوره أيضاً توماس
ميليان). هنا يقاوم كوتشيلو إغراء الاحتفاظ بالذهب الذي يموّل الثورة
المكسيكية، وبدلاً من الاحتفاظ بالذهب لنفسه يقوم بتسليمه إلى الثوار،
فقد استفاد شخصياً من القضية الثورية ومن برامجها في الإصلاح الزراعي.
إن
ثيمة الباحث عن الثروة، والمتكررة بابتذال في أفلام الكاوبوي تتحوّل
هنا إلى ثيمة سياسية ذات شقين، فمن جانب يُعزى نجاح الثورة إلى اكتشاف
الذهب، ومن جانب آخر، لأن الذهب صُهر وأخفى، على نحو رمزي ملائم، في
شكل أداة من أدوات العمل: المنجل.
في
المبارزة الأخيرة والتقليدية في أفلام الكاوبوي، يلبس كوتشيلو ثيابه
القديمة ويستخدم مدية (كوتشيلو تعني مدية بالأسبانية) ليقاتل ضد
الأمريكي المتأنق المسلح بمسدس. الرمز هنا سهل إدراكه، ويُلمح إلى
استخدام الوسائل اليدوية في حرب المغاوير.
سيناريو آخر لفرانكو سوليناس هو " المسدس المحترف " (1968)
من إخراج سرجيو كوربوتشي، يشجب فيه البؤس الذي تجلبه الإمبريالية إلى
قرية، يتمثل في شخص مجرم شرير ولوطي، يقوم بدوره الممثل الأمريكي
المتخصص في أدوار (الرجل القذر) جاك بلانس.
في
فيلم آخر لسرجيو كوربوتشي اسمه " الرفاق " (1970)
والذي يشجب فيه الاحتلال الإمبريالي للمقاطعة المكسيكية في تساس، نرى
بالانس، القاتل ذو اليد الواحدة، يلقم نسره (!) لحوم الضحايا
المكسيكيين. هنا يمكن القول بأن النسر الأمريكي الإمبريالي يتغذى
بثروات العالم الثالث. هذا الفيلم، يظهر في أوجه أخرى، سخف اللاعنفية
والطريق السلمي لمواجهة عدوانية الولايات المتحدة .
أفلام
الكاوبوي السياسية الإيطالية ساندت، بثبات، الأفكار التقدمية للثورة
المكسيكية، وأدانت التدخلات العسكرية الأمريكية والأجنبية (الفرنسية،
البريطانية والألمانية) في أمريكا اللاتينية.
في
فيلم " القداس " (1967)
للمخرج اليساري كارلو ليزاني نرى الشاعر والمخرج بيير باولو بازوليني
يمثل دور القس الثوري المعارض للممولين الأجانب الذين قدموا لدعم
الحكومة الفيدرالية المكسيكية ضد الفلاحين الثوار.
في فيلم " اميليانو زاباتا " (1973)
للمخرج سيرجيو كوربوتشي نرى فيتوريو غاسمان يقوم بدور ممثل متجول في
المكسيك في أوائل القرن العشرين، يجبره كولونيل محافظ على التنكر في
صورة اميليانو زاباتا زعيم الفلاحين الفقراء الجنوبيين. يتنكر غاسمان
ولكنه يقتنع بعدالة قضية الفلاحين. (يذكرنا هنا بدور فيتوريو دي سيكا
في فيلم " الجنرال ديلا روفيرا" لروسلليني) وينجح الممثل في تمجيد
الثورة ويدان لأنه هو الذي حرض على ثورة العمال المياومين.
ان
المؤامرات ضد الثورة هي شيء مشترك بين الأنظمة الفيدرالية والدول
الرأسمالية، ويمكن ملاحظة هذا، وان كان في أسلوب ساذج نوعاً ما، في
فيلم " تحيا الثورة " (1973)
للمخرج دوتشيو تيساريري حين نسمع أحد المهاجرين الروس الذممين يقول : "
قبلاً، كنت أقسم بحياة القيصر، أما الآن، فانني أقسم بحياة هنري فورد،
قيصري الجديد " .
من
المظاهر الأخرى الثابتة في أفلام الكاوبوي السياسية هي مناهضة الروح
العسكرية، وحتى في الأفلام المخيبة للآمال كفيلم "العبقري "
The
Genius(1974)
إنتاج سيرجيو ليوني وإخراج داميانو دامياني، لا تخلو من سخرية للمؤسسات
العسكرية.
في
فيلم كاوبوي آخر من إخراج سيرجيو كوربوتشي نسمع هذه العبارة المشهورة:
"إن العدالة العسكرية قياساً إلى العدالة الحقيقية هي كالموسيقى
العسكرية قياساً للموسيقى الحقيقية ". (3)
ولكن
ليست كل التلميحات السياسية تدين الولايات المتحدة ومواقفها تجاه
أمريكا اللاتينية فحسب، بل هناك إشارات إلى الأوضاع السياسية الأوروبية
ومتكررة نسبياً. ان صورة الخارجين على القانون، والمسلحين بالمناجل،
بثيابهم الشعبية وهم يركضون عبر الجبال المغطاة بالثلوج تذكرنا بثورة
الفلاحين في إيطاليا في أوائل هذا القرن، هذا الحدث الذي صوّره أيضا
بيرناردو بيرتولوتشي، بأسلوب مختلف، في فيلم "
1900
" .
في
فيلم " من أجل حفنة متفجرات " للمخرج سيرجيو ليوني يبدأ الفيلم بهذا
الاستشهاد لماوتسي تونغ: " الثورة: هي العنف المخزون في روح الشعب " .
أما
اللفاع الأحمر المربوط حول عنق المنسّف الايرلندي (يلعب دوره جيمس
كوبرن) فيذكرنا بالجيش الجمهوري الايرلندي وأساليبه في استخدام
المتفجرات. وتذكرنا الإعدامات الجماعية في الخنادق خارج محطة القطار
بالمجازر الشهيرة في "ارديتين بيتس " بروما في
8
سبتمبر 1943
خلال فترة المقاومة المناهضة للفاشية .
فترة
الفاشية بالطبع أشير إليها كثيراً، لكن فيلم كاوبوي واحد هو "وجهاً
لوجه " للمخرج سيرجيو سوليما، الذي اقترب منها بعمق شديد. هذا الفيلم
يقدم شخصيتين مختلفتين: بروفيسور في التاريخ مصاب بالسل (جيان ماريا
فولونتي) وخارج خطير على القانون (توماس ميليان). المفكر يبدو مأخوذاً
بالغريزة الوحشية لدى اللص، ويريد أن يقلده ليحصل على نفس النتائج،
كلص، ولكن باستخدام عقله فقط. وبهذه الطريقة يصف المخرج إعجاب الفاشية
بهذه القوى الغريزية، ومحاولاتها للتحكم فيها من أجل استخدامها بفعالية
أكبر. وهو أيضاً يلمّح إلى نشر فكرة التجنيد الإجباري بين حثالة
البروليتاريا.
يعبّر
البروفيسور عن نظريته في التاريخ بالأسلوب التالي: "أن تقتل بنفسك فهذه
جريمة.. أن تقتل مع عشرة رجال فهذا عمل من أعمال العنف .. ولكن أن تقتل
مع ألف رجل فهذا يعني عملاً منظماً، حرباً حقيقية، ضرورة ''.
وجهة
النظر الباردة والمنهجية والقاسية هذه تخيف جداً اللص إلى حد انه يقرر
أخيراً قتل البروفيسور في الصحراء.
التلميح الأكثر مباشرة للأحداث السياسية الأوروبية يمكن إيجادها في
فيلم الكاوبوي الاستثنائي " ترنتي يقابل الحمر" (1972)
Trinity
Sees Redللمخرج
الأسباني ماريو كاموس. في هذا الفيلم يستأجر إقطاعي أندلسي ترنتي،
الشخصية المشهورة (يلعب دوره تيرنس هيل) وذلك لقتل زعيم فوضوي يدعو
للثورة في أرياف الجنوب الأسباني البائسة .
القصة
مربكة تماماً، ويبدو ان ذلك حصل بسبب حذف المنتجين لكثير من المشاهد،
فمن المحتمل انهم ذهلوا لأنهم وجدوا أنفسهم يتعاملون مع موضوع سياسي
يطرح لأول مرة في تاريخ السينما ويعالج موضوع العصيان المسلح العظيم
الذي قام به الفلاحون الفوضويون ضد الإقطاعيين في الأندلس في أوائل
القرن العشرين.
في حين
يحافظ المخرج على سير المغامرات لبطله (الفيلم قبل كل شيء هو فيلم
كاوبوي) إلا انه يتريث في مشاهد الثورة الجماعية وتنظيم الإضراب وتدمير
أملاك الإقطاعي. وبنفس الأسلوب، كل المشاهد المكرسة للمنظر الفوضوي هي
مشاهد رائعة. فبينما يخاطب القرويين المحتشدين حوله، يستخدم هذا المفكر
المسالم المسن العبارات الواضحة لشرح خططه السياسية، ويعرّفها في
الكلمات التالية:
"نحن
نريد مجتمعاً بدون طبقات، بدون مستغلين ولا مستغِلين، يجب أن لا نساعد
الظلم أبداً، لا بد أن نثور وأن نناضل من أجل الحرية والعدالة
والكرامة. نحن نحمل في داخلنا عالماً جديداً مليئاً بالآمال العظيمة.
الدمار لا يخيفنا أبداً، فنحن الذين بنينا كل شيء: القصور والكنائس،
الطرق والجسور.. سندمرها إذا لزم الأمر، لنعيد بناء عالم أكثر جمالاً "
.
هذه
الكلمات الثورية الصادقة ليست إلا تلك الكلمات التي قالها الزعيم
الفوضوي الأسباني الشهير بوينافينتورا دوراتي قبل موته في الجبهة
الأسبانية عام
1936
إلى الصحفي بيير فان باسيه، ونشرت في صحيفة "النجمة " الصادرة في ترنتو
في سبتمبر 1936
.
(4)
وعلى
هذا، ففي نفس السنة التي قُتل فيها المناضل الفوضوي الأسباني سلفادور
بيوج، بأسلوب وحشي في برشلونه، اختار المخرج الاسباني إحدى شخصياته
لتكون زعيماً فوضوياً يدين ذلك الإعدام. في نفس الفيلم يُظهر الإضراب
الناجح ويصوّر التضامن البروليتاري ويدين عنف الإقطاعي ووحشية الشرطة.
هذه
الجسارة التي مكنته من الاستهزاء بالسلطات الفرانكوية كانت مبنية على
الاستخدام الذكي لأفلام الكاوبوي خلال فترة الحكم الاستبدادي - أفلام
الكاوبوي وحدها التي كانت تعتبر سطحية وتفتقر إلى الموضوعية - وهذا ما
سمح له أن يمر من الرقابة اليقظة.
وبهذه
الطريقة، مرة أخرى، ينجح المخرجون الملتزمون سياسياً في استخدام نوع
جماهيري لتورية أعمال لا تهدف إلى الترفيه بل هي تريد (كهدف نضالي) أن
تدين، بشكل واضح، مظالم اجتماعية معينة، وكل أشكال القهر السياسي.
أوراق سينمائية (نادي البحرين
للسينما) في 1 يونيو 1987
المصدر:
مجلة
Cineaste Vol XV. No 1 1986
هوامش:
* هذه
المقالة ظهرت أصلاً باللغة الفرنسية وقام بترجمتها إلى الانجليزية ناتاشا
طومسين وغاري كراودس.
(1)
التقت وفود 29
دولة افريقية وأسيوية في مؤتمر باندونغ باندونيسيا في عام
1955
لمناقشة الموقف ضد الاستعمار وزيادة التعاون الاقتصادي والثقافي بين هذه
الدول.
(2)
في البداية وضع المخرجون الإيطاليون أسماء أنجلو-سكسونية على أفلامهم، وعلى
هذا أصبح سيرجيو ليوني " بوب روبرتسون " - سيرجيو سوليما " سيمون سترلنغ "
- كارلو ليزاني " لي بيفر " . وعندما اتضح فشل محاولاتهم في تقليد أفلام
الغرب الأمريكية وبأن الجماهير تريد الخصوصية الإيطالية لأفلام الكاوبوي
الإيطالية قرروا وضع أسماءهم الحقيقية.
(3)
يُعتقد أن هذه العبارة قالها رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو(1929
- 1841)
.
(4)
هذه الموضوعات وهذه المقابلة متضمنة في كتاب فيلكس مورو "الثورة والثورة
المضادة في أسبانيا " والتي تؤكد على جدية الحوار وعلى مصداقية الإشارة
التاريخية في فيلم "ترنتي يقابل الحمر " .. هذه الجدية التي، حسب علمنا، لم
يلتفت إليها أي ناقد حتى الآن.
|