سينماء.. لتعزيز المحتوى المعرفي السينمائي

ذلك الواضح الغامض، الجذاب المخيف:

الزمن في أعمال كريستوفر نولان

بقلم: عصام زكريا

 
 

دَقّاتُ قَلبِ المَرءِ قائِلَةٌ لَهُ / إِنَّ الحَياةَ دَقائِقٌ وَثَوان

أحمد شوقي

 «تخلبني فكرة أننا جميعا نشعر بأن مرور الزمن شيء ظالم لنا، ومع ذلك، نكبر جميعًا، بالدرجة نفسها»

- كريستوفر نولان

 

من بين المخرجين الأكثر اهتمامًا بفكرة الزمن، والأكثر إدراكًا واستخدامًا لعنصر الزمن في صناعة الأفلام، لا يكاد يوجد من يضاهي كريستوفر نولان في تكرار معالجته للموضوع، حد الهوس، أو في مهارته وحساسيته الفائقة في استخدام الإيقاع واللعب بالزمن السينمائي.

هناك بالطبع أفلامه التي تتناول فكرة الزمن بشكل مباشر ورئيس، مثل «تذكار» Memento و«استهلال» Inception و«بين النجوم» Interstellar و«عقيدة» Tenet، ولكن لا يوجد من بين الاثني عشر فيلمًا التي قام بصنعها إلى الآن فيلمٌ واحدٌ يخلو من التجريب واللَّعب بعنصر الزمن.

في آخر أعماله (أوبنهايمر) Oppenheimer الذي ينتمي لنوع السيرة، وهو نوع فنّي تقليدي لا يبدو أنه يناسب عالَم نولان وأسلوبه، يُدهِش المخرج والمؤلف مشاهديه بتنقُّله المكوكي بين عدة أزمنة من حياة الشخصية الرئيسة: عالم الفيزياء جوليوس روبرت أوبنهايمر، مخترع القنبلة الذرية، التي غيرت معالم القرن العشرين وتاريخ البشرية إلى الأبد.

يتقافز سرد الفيلم عبر الأمكنة والأزمنة، وتتداخل الخيوط السردية فيما بينها، ومنها خط بالأبيض والأسود يمتد على مدار الفيلم. وعلى عكس نوع السيرة الذي يهدف –أساسًا- إلى تعريف المشاهد بحياة وأهمية الشخصية التي يدور عنها العمل، فإن مشاهِد «أوبنهايمر» يحتاج إلى معرفة كثيرٍ عن الشخصية والمحيطين بها قبل أن يدخل الفيلم؛ لأن تركيز نولان لا ينصبُّ على سرد المعلومات، بقدر ما ينصبُّ على صياغة قطعة فنية بصرية سمعية تملك خصائصها ومعناها. ويستخدم نولان المونتاج هنا وفقًا لمفهوم طوَّره على مدار الأفلام والسنوات يهدف إلى وضع المشاهِد داخل تجربة زمنية مختلفة.

هذا المفهوم يُعبِّر عنه كريستوفر نولان في حوار لموقع npr يقول فيه:

«الزمن هو أكثر العناصر سينمائيةً؛ لأنه قبل اختراع الكاميرا، لم يكن لدى الناس وسيلة لرؤية الزمن وهو يعود إلى الوراء، أو يتباطأ، أو يتسارع. وأعتقد أن هذا يفسر بطريقة ما اهتمامي باستكشاف عنصر الزمن في أعمالي».

في أكثر من حوار آخر يشير نولان إلى تجربة مشاهدة الفيلم السينمائي باعتبارها تجربة «زمنية»، فجمهور السينما يذهب لقضاء حوالي ساعتين داخل دار العرض، لكنه في الحقيقة يختبر زمنًا قد يصل إلى يومين أو شهرين أو عامين، أو حياة كاملة. وهو حديث يذكرنا بفيلمه «استهلال» (2010) الذي يدور حول عدد من الشخصيات يدخلون إلى مستويات مختلفة من عالم النوم والأحلام، وكل مستوى له زمن يختلف تمامًا عن الزمن الواقعي. كما تقول إحدى الشخصيات: الزمن يتمدد في الأحلام، الثانية تصبح دقيقة والدقيقة تصبح يومًا واليوم يصبح سنوات.

وينتهي الفيلم دون أن نتأكد مما إذا كان البطل كوب (ليوناردو دي كابريو) قد استيقظ من الأحلام بعد، والمشاهد الذي يتلاعب به نولان على مدار زمن الفيلم يكاد يفقد إحساسه بالزمن بالفعل، مثل الشخصيات، وعندما تضاء قاعة العرض، فغالبًا لن يستطيع أن يعرف مدة الوقت التي قضاها في مشاهدة الفيلم.

منذ سنواتها المبكرة اكتشف فنانو السينما الأوائل عنصرَ الزمن السحري الذي يميزها عن أيِّ فنٍّ آخر. وأدرك مخرجون كبار، مثل إدوارد جريفيث وسيرجي إيزنشتين، قدرة السينما على التلاعُب بإحساس المشاهد بالزمن عن طريق المونتاج وتقنيات أخرى، وطور إيزنشتين المونتاج الذي يهدف إلى ترتيب عدة أشياء تحدث بالتعاقُب، إلى ما يُعرَف بالمونتاج الخلاق، الذي يهدف إلى التلاعب بترتيب هذه الأشياء أو وضعها فوق بعضها، كما في فيلمه الشهير «المدرعة بوتمكين».

كريستوفر نولان تلميذ نجيب لإيزنشتين، كما هو تلميذ نجيب لفرانسيس فورد كوبولا، وهو مفتون بشكل خاص بنهايات سلسلة «العراب» Godfather، خاصة الجزء الثالث الذي ينتهي بعمليات قتل أعداء مايكل كورليوني،  بينما يحضر مراسم تعميد حفيده.

في «فارس الظلام» Dark Knight، 2008، طور نولان ما يطلق عليه الناقد تشارلز براميسكو «المرتفعات المتزامنة» (Observer.com 25 أغسطس 2020)، حيث يشبِّه المخرجَ المهووس بعنصر الزمن بسكَّانِ كوكب «ألترالفامادور» في رواية «المذبح خمسة» Slaughterhouse Five، للكاتب كيرت فونجوت، هذه الكائنات الفضائية التي يمكنها أن تُوجد في أكثر من مكان وزمان في الوقت نفسه:

«معظم المخرجين يصممون مشاهد الأكشن مثل قطع دومينو متساندة نراها تتساقط واحدةً تلو الأخرى، من عدة زوايا، ولكن نولان يريد تصوير قطع الدومينو، وكرة تمر عبر أسطوانات لولبية، وسيارة تتجه بسرعة نحو جرف، بحيث تصل جميعًا إلى النقطة نفسها في اللحظة نفسها»!

هذا التصور عن التحكم في الزمن مشترك بين نولان وشخصية الجوكر التي أداها هيث ليدجر في «فارس الظلام». في الفيلم يسعى الجوكر دومًا إلى إرهاب مدينة جوثام بعدد من الأفعال التي تحدث في أماكن عدة بالتزامن، ويعتمد كل منها على الآخر بمقدار جزء من الثانية. ومثل الجوكر يتفنن نولان في تصوير مظاهر الفوضى المتزامنة التي تجتاح المدينة.

عن طريق الكاميرات يستطيع الجوكر، ونولان، والمشاهِد، تحقيق حلم سكان «ألترالفامادور» وامتلاك هذه القدرة الخارقة لرؤية -والتحكم في- أكثر من مكان وأكثر من زمن في الوقت نفسه. هذا الحلم الذي جسده فيلم «كل شيء، في كل مكان، في الوقت نفسه» Everything و Everywhere, All at Once في 2022!

اهتمام كريستوفر نولان بعنصر الزمن مِن قدم أفلامه، كما ذكرت، وهو يعالجه في كل فيلم تقريبًا من منظور مختلف.

في فيلمه الأول «ملاحقة» Follwoing، 1998، المصور بالأبيض والأسود، قفزات مفاجئة في الزمن، تتلاعب بتوقعات المشاهد وإحساسه بالترتيب الزمني للأحداث والمشاهد، حيث يتغير فجأة شكل البطل وملابسه، فيُضطر المشاهد إلى ترتيب الأحداث داخل ذهنه وفقًا لما يستنتج، ولكن بشكل غير مؤكد. والهدف هنا هو إثارة المشاهِد ولفت انتباهه لما تفعله السينما بالزمن.

في «تذكار»، 2000، يُروى الفيلم كله بالعكس، حيث الزمن مقلوب رأسًا على عقب، المستقبل يحدث قبل الماضي، والحاضر يتبخر بلا وجود كل بضع دقائق في عقل البطل.

ويروي الفيلم خطين روائيين: واحدًا بالألوان، مقلوبًا، والثاني بالأبيض والأسود، يسير في سرد خطي عادي. والهدف هنا يتجاوز الإثارة الحسية والعقلية للمشاهِد إلى مناقشة موضوعات فلسفية، على رأسها علاقة الذاكرة بالزمن والهُويّة. بطل الفيلم يتعرض لاعتداء يفقد على أثره ذاكرته «القصيرة»، حيث يتوقف الزمن عنده على حادث الاعتداء، ومن ثَم يتحول إلى ما يشبه الشبح الذي يطارد أشباحًا من الماضي. إنه لا يعرف من هو، كما يخبره أحد الشخصيات، ذلك أن المرء أو المجتمع الذي لا يملك ذاكرة  لا يملك هُوية أيضًا.

في «أرق» Insomnia (2002) يعالج كريستوفر نولان الزمن بطريقة مبتكرة أخرى. تدور الأحداث في مدينة أوروبية شمالية يستمر فيها سطوع الشمس لعدة أيام متتالية، فتضيع المعالِم بين الليل والنهار، ويكاد يتلاشى إحساس البطل (آل باتشينو) بالزمن. من المفارقات الطريفة أيضًا أن «أرق» ينتمي لنوع «الفيلم نوار» film noir البوليسي الذي أطلق عليه هذا الاسم؛ لأن معظم أحداثه تدور في الليل.. لكنه هنا فيلم نوار في عز النهار!

يستمر تجريب نولان مع الزمن في أعماله اللاحقة، عبر ثلاثية باتمان، من 2005 إلى 2012، وفيلم « البرستيج» (2006) الذي يدور حول اثنين من الحواة يتنافسان على مدار عقود مدمرين بعضهم البعض.  Tenet عبارة «الوقت ينفذ»، وتستخدم للإعلان عن الفيلم.

في «دانكرك» تُروى الوقائع في ثلاثة أزمنة (سرد ثلاثي مثل «استهلال»)، خلال أسبوع، وخلال يوم، وخلال ساعة. قصة قيام الحلفاء بمحاولة إنقاذ عدد كبير من الجنود المحاصَرين داخل منطقة فرنسية من قبل الألمان. ويروي نولان في حديث لوكالة أخبار AP كيف أنه قام بتسجيل دقات ساعة وأرسلها إلى المؤلف الموسيقي هانز زيمر، وقال له: «هذه هي البذرة التي سنحتاج بناء الموسيقى عليها. لقد بنى سيناريو الفيلم بناءً موسيقيًّا، يعتمد على فكرة نفاد الوقت، وهي الفكرة نفسها التي بُنيت عليها موسيقى الفيلم.

في The Prestige الذي يبدو مختلفًا عن عالَم نولان، ليس هناك معالجة خاصة بموضوع الزمن، سوى أن الأبطال يضيعون حياتهم، وزمنهم، في التنافس وتدمير بعضهم من أجل أوهام.

يعتمد «بين النجوم» (2014) بالكامل على فكرة اختلاف سرعة الزمن التي اكتشفها أينشتين، فبينما يظل البطل رائد الفضاء شابًّا في الفضاء الخارجي، إذ يسافر بسرعة الضوء، تكبر ابنته المقيمة على الأرض وتتحول إلى عجوز.. ويخيم على الفيلم إحساس بضآلة الحياة البشرية أمام اتساع الكون وامتداد الزمن اللانهائيين، وشوق يائس إلى تجاوز الزمن، في انتظار اختراع جهاز يُمكِّن البطل من التواصُل مع ابنته عبر المكان والزمان.. جهاز يمكن أن نطلق عليه «سينما المستقبل»!

 قد يبدو «دانكرك» Dunkirk، 2017، فيلمًا حربيًّا تاريخيًّا مقتبسًا عن أحداث حقيقية، ولكن حتى هنا يستخدم نولان الزمن بطريقة مبتكرة للغاية. يتناول الفيلم ثلاثة خطوط قصصية، تدور في ثلاثة فصول، يدور كل منها في إطار زمني محدد، حيث يتحدد مصير آلاف من جنود الحلفاء وعملية إنقاذهم من بطش الألمان نتيجة سباق لاهث ضد الزمن.

الخصم هنا ليس قوة العدو المادية، فالمطلوب ليس مواجهة الألمان، بل الفرار، قبل فوات الأوان، ومن أطرف الأشياء أن الألمان لا يظهرون في الفيلم، ذلك أن الصراع الأساسي ضد الزمن، ضد سرعته الجنونية، وضرورة أن ننجز ما نريده قبل مرور الزمن.

يصل التجريب لاستكشاف معنى الزمن إلى ذروته في فيلم «عقيدة»، 2020، حيث تتحرك الشخصيات عكس اتجاه الزمن، إلى الخلف. إنها لا تنتقل إلى الماضي كما نجد في قصص الخيال العلمي المعتادة، ولكنها تتحرك إلى الوراء، حيث تشعر في كل لحظة بأنها تعود في الزمن لحظة! ومثل معظم أفلام نولان تعتمد الفكرة على فرضية علمية، يطلق عليها اسم inversion التي تعني «انعكاس» ولكنها تستخدم في العلوم المختلفة للإشارة إلى عمليات إحيائية مختلفة تحدث أحيانًا بالمخالفة لقوانين الطبيعة المألوفة.

يبدو الزمن شيئًا واضحًا ومفهومًا للعقل البشري، ولكنه في الحقيقة أكثر الأشياء غموضًا وإرعابًا، ليس فقط لأنه يسلُب الإنسان كلَّ شيء، في كل لحظة، بمجرد مروره، ولكن أيضًا لعدم قدرة العقل البشري على استيعابه. فكِّرْ للحظةٍ فقط، أنَّ بإمكانك أن تسير عكس اتجاه الزمن!

سينماتك في ـ  07 نوفمبر 2023

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004