سينماء.. لتعزيز المحتوى المعرفي السينمائي

دعوة للتوثيق

بقلم: د. محمد البشير

 
 

أخذت الأفلام نصيبًا جيدًا من كعكة المشاهدة، وخاصة بعد حضورها اللافت في منصات المشاهدة المنزلية، وتناولها لموضوعات تمسُّ الجمهور مباشرةً، لا سيما أنها تمتلك صفة الوثائقية، أو بما يعادلها من مفهوم الواقعية، فهذه الأفلام أو المسلسلات ليست من نسج الخيال كما تقدمه الأفلام الأخرى صراحة من فنتازيا أو خيال علمي وحتى الدراما باستعارة قصص ربما تكون موجودة، ولكنها يُعاد صياغتُها من جديد، والاعتذار والتخلص بالافتتاح أو ختام الفيلم بعبارة «أيّ تشابه في الأحداث والشخصيات والأسماء هو من محض الصدفة»، بينما الأفلام الوثائقية ترتكز وتقوم على توثيق ما حدث أو يحدث، وعلى ذلك رهانها.

 إن ما تقوم به الأفلام الوثائقية لهو دور كبير، وهو من الأهمية بمكان، فهي «أداة تواصل مهمة في تشكيل الواقع، بسبب مزاعمها بأنها تجسد الحقيقة» كما تصفها باتريشيا أوفدرهايدي في كتابها «الفيلم الوثائقي: مقدمة قصيرة جدًّا»، وتضيف: «دائمًا ما يكون للأفلام الوثائقية أساس في الحياة الواقعية، وتزعم بأنها تخبرنا بشيء يستحق المعرفة».

إن هذا الزعم هو ما يلفت الجمهور المتلهّف لمعرفة شيءٍ ما، وما يفترضه صانع الفيلم من تقديم ما حدث لمن لا يعلم، ومن ذلك ما أحدثه فيلم «فهرنهايت 11/9» عام 2004م لمايكل مور، وما حققه من جذب الملايين، والخروج من أمريكا إلى العالم بأسره، وسحب البساط من الأفلام الأخرى في دور السينما مع صعوبة التحدي لجمهور ألِفَ مشاهدةَ الأفلام الهوليودية وما تمتلكه من وسائل جاذبة وعصية على الفيلم الوثائقي، غير أنه تمكن من الفوز باللعبة، وذلك بعزفِه على قضية 11 سبتمبر التي شغلت العالم، حين قدمها لهم بقالب كاريكاتوري لتعرية الواقع – وفق رؤيته وتوجهه- وحصَد به أرباحًا هائلة، فميزانية الفيلم ستة ملايين دولار، ومبيعات التذاكر عند الإطلاق في أمريكا وكندا فقط قرابة الثلاثين مليون دولار، وبعدها تضاعف المبلغ أضعافًا كثيرة، فضلًا على  29 جائزة حصدها الفيلم في مهرجانات متفرقة.

تنبهت منصات المشاهدة وتحديدًا نتفليكس لهذه الأهمية، وأولتها اهتمامها بصناعة الأفلام الوثائقية، واحتضانها، وتقديمها لجمهورها العريض، وحققت نجاحات على صعيد المشاهدة، والترشح لجوائز International Documentary Association رابطة الأفلام الوثائقية الدولية (IDA)، والدخول في موضوعات جدلية بجرأة، ولن يكون آخرها ما أحدثه فيلم «كليوبترا» ببشرةٍ سوداء أو سمراء، وما أحدثه الفيلم من ردود أفعال رافضة لما جرى تقديمه، فبعيدًا عن صحة ما طرحته نتفليكس أو عدمه، فالأمر كان بأيدي صُنّاعه، ولهم تقرير ما يريدون طرحه، وعند ذلك يكون الأولى على من يتبنى الرأي الرافض صناعة فيلم ينسي من شاهده هذا الطرح، وهذا ما حدث من تحضير لإعادة كليوباترا لبشرتها الفاتحة، وأنفها المسحوب وشفاهها الرقيقة من قبل القناة الوثائقية المصرية، بقطاع الإنتاج الوثائقي في شركة المتحدة للخدمات الإعلامية كما أُعلن عنه في «القاهرة 24»، وعسى أن يكون بحجم وتأثير السابق!

ما لم توثِّقه بعدستك؛ سيأتي من يوثق بالنيابة عنك، وسيُسمعك روايتَه التي ربما لا تُعجبك، ولذلك أدعو إلى موجة من التوثيق لما بين أيدينا، واستثمار كنوز من البشر في المملكة العربية السعودية من مواطنين وضيوف؛ بل أركز على الضيوف من المشاهير الذين قدموا مؤخرًا للّعب في أندية رياضية، فتجاربهم في الحياة بيننا تستحق أن تُروى.

 أتذكر أمسية بنادي السينما في جمعية الثقافة والفنون بالأحساء عندما استضفنا محمد الضيف مدير الإعلام والاتصال بنادي الفتح ضمن فعاليات الاحتفاء بيوم السينما العالمي عام 2022؛ للحديث عن تجربتهم في المركز الإعلامي بنادي الفتح بصناعة أفلام وثائقية قصيرة، وعرض فيلم قصير لحادثة تعرضت لها حافلة النادي من زمن بعيد، وشهودها ما زالوا على قيد الحياة؛ لروايتها، وتقديم الأرشيف البصري من الصور الفوتوغرافية التي يمتلكها واحد من لاعبي النادي القدامى، وقد أحسن حين وثّق بإمكانياته آنذاك بكاميرته الفوتوغرافية، وأسعف النادي لاستعادة الحادثة، وقد نوّهت ليلتها بالمسؤولية التي على عاتق المركز الإعلامي من توثيق موازٍ لما يحدث اليوم؛ فالكاميرات بين أيدي الجميع، والنادي يحتضن تجارب من مدربين ولاعبين وطاقم فني، وأقربها إلى الذاكرة تجربة اللاعب البرازيلي إلتون خوسيه المسمى بإلتون أرابيا ولبسه للثوب ومحبته للبلاد؛ بينما خرج إلتون من تجارب في أندية سعودية (النصر، الفتح، القادسية، الوحدة) دون توثيق معتبر!

ولأن الشيء بالشيء يُذكر؛ فإن الفرصة ما زالت سانحة في التجارب المتبقية، فبين أيدينا أسماء لامعة مثل «كرستيانو رونالدو» الذي له عدد من الأفلام الوثائقية في مسيرته على عدد من منصات المشاهدة مثل نتفليكس وشاهد، ولعل البداية حاضرة بتوثيق سبع دقائق من حفل استقباله في نادي النصر السعودي على منصة شاهد، وحتى تكتمل الصورة؛ فلا بد من استكمال السيرة والمسيرة طوال إقامته، واستثمار عائلته وحياته بيننا؛ لإظهار السعودية بعيون محايدة لمن جرّب العيش على ترابها، فهذه الوسيلة الأبلغ إعلاميًّا، والأمر ينسحب على أثمن اللاعبين باختلاف تجاربهم وأعراقهم مثل: قائد المنتخب السنغالي ساديو ماني جناح بايرن ميونيخ الذي سيلعب للنصر حتى 2027، والبرازيلي فابينيو لاعب الوسط بليفربول، الذي سيلعب للاتحاد حتى عام 2026، والجزائري رياض محرز جناح مانشستر سيتي الذي سيلعب للأهلي حتى عام 2027، والفرنسي الجزائري الأصل كريم بنزيما مهاجم ريال مدريد، الذي سيلعب للاتحاد حتى عام 2025، وغيرهم كثيرون، فالقادم أجمل، فإن كنا فرطنا في الحجر سابقًا بامتلاك إرث ثمين في العلا، والبحر وأجمل شعب مرجانية في البحر الأحمر، وتنبهنا لاحقًا باستثمارهما؛ فإن الأمر بين أيدينا باستثمار أثمن تجارب البشر بأفلام وثائقية حية، لأناس بين ظهرانينا، واستثمار الأفلام الوثائقية التي لها قاعدة من الجماهير في المنصات العالمية، وسيزيد الأمر جمالًا عندما يلعب هؤلاء في منطقة تثير فضول الكثير للتعرف عليها عن قرب، فمن يُعلّق الجرس؟

سينماتك في ـ  07 نوفمبر 2023

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004