شاهدت، في عرض خاص، الفيلم البحريني «الشجرة النائمة»، الذي أثار إعجابي من
بعض النواحي، ووجدت فيه محاولة جادة وجريئة وطموحة ضمن مسار الفيلم
السينمائي في دول الخليج.
أمر جيد أن نجد فيلماً (أي فيلم) يكون مفتوحاً على عدد من التأويلات، ويكون
قابلاً للقراءة عبر مستويات وطبقات متعددة، وأن نكتشف في عمقه أبعاداً
فلسفية وسياسية وغرائبية. إذ ليس مطلوباً من الفيلم أن يوضّح كل شيء، وأن
يعرض التفسيرات والتبريرات على نحو متواصل، وأن يحدّد معنى ودلالة كل ما
يُرى ويُسمع، على نحو مبتذل ينمّ عن ازدراء للمتفرج وتعالٍ عليه بوصفه
كائناً لا يفهم ويحتاج إلى من يأخذ بيده عند كل خطوة. عوضاً عن ذلك، على
الفيلم أن يحرّك مشاعرنا وعواطفنا، ويحثّنا على التفكير والتأمل، ويتيح لنا
استنباط مختلف المعاني.
هذا ما نطلبه من أي نتاج فني، لكن ينبغي أن تكون التأويلات والتفسيرات
والاستنتاجات نابعة أو مستمدة من معطيات وأبعاد الفيلم نفسه، ومعتمدة على
العناصر الموظفة في الفيلم من نص وإخراج وأداء وتصوير، وليس أمراً مفروضاً
من خارجه ومما يتوهمه الناقد أو المتلقي، وليس متكئاً على المزاج الخاص، أو
المحاباة الصرفة، من نقاده أو متلقيه.
لست ناقداً، بالمعنى الحقيقي، لذلك سوف لن أتناول الفيلم من وجهة نظر
نقدية، إنما من وجهة نظر شخصية كمتفرج.
من خلال متابعتي لما كُتب عن فيلم «الشجرة النائمة»، هنا وأثناء عرضه في
مهرجان دبي، استوقفتني تلك الكتابات «النقدية» التي رافقت عرض الفيلم،
وتحديداً تلك التي أسبغت على الفيلم، بمجانية وعشوائية ملفتة للنظر،
توصيفات وتقييمات لا تنسجم مع معطيات الفيلم ومضمونه وشكله، وحمّلته ما لا
يستطيع تحمله.
هذه الكتابات التي تتوافر على درجة كبيرة من المبالغة والاستخفاف، ولا
تكترث كثيراً بالمسئولية النقدية، لا تخدم الفيلم ولا تساهم في ترويجه، كما
يتصوّر أصحابها، بل على العكس، تعطي تأثيراً سلبياً معاكساً، لأنها تشغل
المتلقي بأمور أخرى بعيدة وغريبة عن فكرة الفيلم ومضمونه وما يريد أن يعبّر
عنه ويناقشه. وتوجّه المتلقي الوجهة الخاطئة، فتضيع البوصلة وتتشوش الخرائط
وتلتبس عليه الجهات، ذلك لأن علامات الطريق وإشاراته وتضاريسه ومحطاته تكون
مختلفة ومتباينة عن تلك العلامات والإشارات التي وضعها الناقد.
من حق أي ناقد أن يبدي إعجابه بالفيلم ويكيل له الإطراء ويعطيه صفة الجودة
والامتياز، حتى لو بالغ في تقديره واعتبره تحفة فنية، فهذا شأن نقدي لا
نستنكره بل نحترمه ويمكننا مناقشته والجدال معه.
لكن عندما يأتي ناقد أو مهتم ويطرح توصيفاً ليس نابعاً من الفيلم نفسه، بل
مفروضاً من خارجه أو من رغباته الخاصة، ويحاول إقناع المتلقي بأشياء وحالات
لا يجدها هذا المتلقى على الشاشة، يكون من حقنا أن ننبّه إلى خطورة مثل هذه
الممارسة (مجانية التقييم، عشوائية التوصيف، العبث بالمفاهيم أو الاستعانة
بها في مجال وموضع ليس مجالها وموضعها) وضررها على السينمائيين الشبان من
جهة، والمتلقين الذين يصعب عليهم التمييز وإدراك حقيقة المفاهيم والأطروحات
من جهة أخرى.
الرحلة
يقول السينمائي مسعود أمرالله: «الفيلم رحلة صوفية موسيقية بصرية فيها عمق
شخصيتين، زوج وزوجة، أصاب حياتهما الجفاف بسبب مرض أولادهما».
وتقول الناقدة منصورة عبدالأمير: «يندفع جاسم، المأخوذ بحزن شديد ويأس من
أي قدرة على مساعدة الصغيرة، في رحلة تأخذ به إلى شجرة الحياة وإلى كل ما
ترمز إليه هذه الشجرة وما تحمله من تناقضات تعطي لمفهومي الحياة والموت
فلسفة مختلفة».
ويقول الناقد مصعب شريف: «مدفوعاً بحزنه والأسى الذي يلفُّه، يجد جاسم نفسه
ماضياً في رحلة أمل نحو الشجرة الأسطورية، ليوقظ بها سعادته التي تسربت من
بين يديه هو وزوجته نورة ليحاولا أن يعيشا حياتهما من جديد».
في السينما، في الأفلام التي تتّخذ من الرحلة ثيمة أساسية لها، وفي الفن
والأدب عموماً، كل رحلة، فيزيائية أو مجازية، مادية أو روحية، خارجية أو
باطنية، تقتضي حركةً، انتقالاً من موضع إلى آخر، من محطة إلى أخرى، من حالة
إلى أخرى، قد تكون مختلفة وقد تكون متعارضة. إنها رحلة نحو المجهول، نحو ما
لم يُكتشف بعد. وخلال الانتقال يحدث التحوّل والتجاوز وإدراك الذات.
وكل رحلة تقتضي بحثاً عن شيء ما، قد يكون مادياً ملموساً أو روحياً خفيّاً.
غالباً هو بحث عن التحرر أو الخلاص أو الأمان أو المأوى أو الهوية أو
الانتماء... عن التناسق والانسجام والإيمان والأمل. هو سعى وراء استعادة
الأشياء المفقودة، أو تلك التي حرم منها الباحث، ليجدّد بها صلته بالحياة،
بالآخرين.
هذا البحث يتحوّل إلى عملية سبر واستنطاق للعالم، لألغازه واحتمالاته، وذلك
لمعرفة معنى الحياة واكتشاف جوهر الذات. وكل رحلة تحدث عبر الزمن والمكان
معاً، لكن في فيلم «الشجرة النائمة» لا نجد انتقالاً (بل تنقلاً روتينياً
يومياً للأب من البيت إلى المكتب أو المطعم أو مجلس الطرب، أما الأم فلا
نراها تتحرك إلا في محيط المنزل) ولا نجد بحثاً (كلاهما - الأب والأم - لا
يبحثان عن شيء، حتى أنهما يأسا من إيجاد أي علاج لابنتهما، واكتفيا باجترار
الحزن والألم والعذاب. والأمور تبدو محسومة: هي تريد ابناً وهو لا يريد أن
يجلب المزيد من الأبناء المرضى... وكل التوتر بينهما ناجم عن هذه الوضعية).
الرحلة، إذن، تحدث لكن ليس في الفيلم بل على الورق، في ذهن ومخيلة صانعيه
وبعض نقاده.
المخرج والكاتب يؤكدان، في أحاديثهما عن الفيلم، أن هناك رحلة يقوم بها بطل
الفيلم، ويأتي بعض النقاد ليدعموا هذا التوكيد، حتى تبدأ في الارتياب بنفسك
وتتساءل: هل هناك نسختان للفيلم، وأنت شاهدت النسخة التي لا تحتوي على أية
رحلة، بينما غيرك شاهد النسخة التي تصوّر حقاً هذه الرحلة!!
في مقابلة المخرج محمد راشد بوعلي مع
CNN
العربية يقول: «مدفوعاً بيأسه، ووجوده الذي يتلاعب به الأسى، لا يجد جاسم
نفسه، إلا وهو يمضي في رحلة أمل نحو شجرة الحياة الأسطورية، وكل قاصديها
مأخوذون بها، وما يحيط بها جارف لا يعترف بالزمن والفناء، فتستعيد الحياة
معناها، وتصحو السعادة التي تسرّبت من بين أصابع جاسم ونورة، ويعيشان
زواجهما من جديد».
شخصياً، شاهدت معاناة الأب والأم، نتيجة مرض البنت، وتعاطفت معهما وتفاعلت
مع الحكاية لكنني لم أرَ ما حكى عنه المخرج من رحلة وأناس مأخوذين بالشجرة،
لم أجد ما يقوله متجسداً على الشاشة في شكل صور وحوارات وعلاقات، لم أرَ
البطل يبادر أو حتى يفكر بالقيام بالرحلة بل يذهب إلى حيث الشجرة مكرهاً
ومرافقاً بالصدفة... بمعنى آخر، ليست هناك رحلة (بالمعنى الفيزيائي والروحي
والواقعي والمجازي) على الإطلاق.
الشجرة
نلاحظ بأن بطل الفيلم (جاسم) لا يعي حقيقة الشجرة وسبب مجيء أحد إليها
وممارسة أي طقس عندها... هو يأتي مجبراً، وبالمصادفة، ثم يرصد ما يجري
بقليل من الفضول وبكثير من اللامبالاة (أو ربما التشكيك) ثم يستلقي على
الجذع في كسل واسترخاء، وفجأة يتخيل ابنته المريضة على فرع الشجرة وقد كبرت
(وهو تخيل عابر وغير مبرّر ضمن وضعية الأب). وفي طريق العودة، بداخل
السيارة، يوجه إلى الزائر سؤالاً جوهرياً لاشك أن كل متفرج يود طرحه ويهفو
للحصول على إجابة له: لماذا جئت إلى هنا؟ ليتلقى رداً مبهماً ومخيباً لكل
توقع، إذ يقول إنهما جاءا ليشهدا سر هذه المعجزة التي لا تموت... وهي إجابة
مجردة، غير مفهومة، وقد لا تعني شيئاً بالنسبة للمتلقي المتعطش للمعرفة، أو
أنها ناقصة ومبتورة. والغريب أن البطل يقبل بهذه الإجابة، التي لا أعتقد
شخصياً أنه فهمها، ويصمت، وكأنه تلقى حكمة عميقة تقتضي الصمت والتأمل.
إذن البطل ذهب مرافقاً وليس شخصاً باحثاً عن بصيص أمل من إمكانية تحقق
معجزة شفاء ابنته. بالأحرى، هو لا يبدو من النوع الذي يؤمن بالمعجزات.
ضمن هذه العلاقة الضعيفة الواهنة، بخيوطها الواهية، بين البطل والشجرة، كيف
يمكن لنا أن نصدّق بأن الشجرة كريمة وسخية، ومتسامحة أيضاً، إلى حد أنها
اجترحت معجزة لشخص في الأصل لم يطلب منها أن تجترح المعجزة... شخص لا يثق
بها أصلاً، ولا يحمل أي ذرة إيمان بكينونتها ووجودها وطبيعتها، رغم أنه
يعرف موقعها وربما تاريخها.
في حضور المعجز، من حق المرء أن يتساءل أين إذن جموع البشر المرضى
واليائسين، وخصوصاً أن المنطقة مفتوحة، مباحة، غير محظورة، والناس يعلمون
بما تحققه الشجرة من معجزات. هل هو زهد؟ ترفّع؟ تعفّف؟ انعدام الحاجة؟
من جهة أخرى، لا شيء يمنع من إضفاء طابع أسطوري على أشياء أو مواقع معينة،
يريد الفنان أن يوظفها، لكن لابد من أن تحمل هذه الأشياء أو المواقع
أبعاداً أسطورية، وقدرات غير عادية، ضمن رؤية فنية تحكم الأحداث عبر نسيج
فني يجمع الواقعي والغرائبي في علاقة متداخلة.
نحن هنا، وتحديداً في المشاهد التي تصور الشجرة، لا نلحظ أي بعد أسطوري ولا
نكتشف أي دلالة ذات منحى غرائبي وما ورائي أو خارق.
الشجرة ذاتها، كواقع وكينونة، تمتلك حقيقتها التاريخية والجغرافية (اسمها
شجرة الحياة ووجدت منذ 400 سنة) حتى أضحت معلماً سياحياً يفد إليها السياح
والزائرون بوصفها ظاهرة طبيعية عجيبة.
يشار إلى أن هدف الكاتب والمخرج من صنع الفيلم كان في الأساس تقديم قصة
واقعية تشتمل على عادات وتقاليد محلية... فقد صرح المخرج بوعلي، في
المقابلة ذاتها، قائلاً: «هدفي كان أن أقدم قصة تلامس أحاسيس الجمهور
وتفكيره، وحياته، وتقدم فكرة عن بعض العادات والتقاليد والتراث البحريني».
وأضاف بوعلي أن «الفيلم يمثل قصة حقيقية وواقعية استمديتها من حياتي
الشخصية، وأضفت عليها العادات والتقاليد والتراث البحريني».
لو أردنا أن نضفي الطابع الأسطوري على مثل هذه الشجرة فإنه يلزمنا أن نُظهر
الجانب أو البعد الذي يوحي للمتلقي أن هذه الشجرة خارقة بالفعل، أو ذات
تأثير سحري، فيجري الكلام عمّا تجترحه من معجزات، وتوافد الناس طلباً
لتحقيق الرغبات، واتخاذ السلطة إجراءات صارمة تنظم أو تقنن الزيارات، وغير
ذلك من التدابير التي تشعرنا فعلاً بأننا أمام ظاهرة خارقة تستدعي الحماية
من جهة والقيام بشعائر خاصة للتواصل مع الشجرة. أما أن تكون الشجرة وحيدة
ومهجورة بلا عناية ولا حماية، كما في الفيلم، ويأتي من يرغب ليكتفي فقط
برشّها بالماء (كما لو يزور قبراً أو ضريحاً) من دون أن نرى طقوساً وشعائر،
أو صلاة تتلى، أو ما شابه، ثم نرى البنت تصحو من سباتها وتعود إلى الحياة
لنبرر ذلك بالقول إن الشجرة فعلت ذلك بعد زيارة الأب الكسول والضجر لها،
فذلك أمر لا يمكن استيعابه وهضمه، سواء بالمنطق الواقعي أو الغرائبي.
إننا نقرأ في كتيب العرض: «زوجان على وشك الانهيار بسبب ابنتهما النائمة،
إلا أن حياتهما تتغير حين تقرر الشجرة إيقاظها».
كيف يمكن للشجرة أن تقرّر!! هكذا، وبكل بساطة؟!
ويقول مسعود أمرالله: «صوت القربة الخفي هذا، يعادله شجرة الحياة التي ما
أن ينبض قلبها، إلا ويتحرك الساكن، ويموت المتحرك، شجرة نائمة، لكنها يقظة
وحارسة لكل الأرواح التائهة»...
الفيلم لا يعطينا صورة واحدة تشير إلى، أو تدلّ على، يقظة الشجرة وتحرّك
نبضات قلبها. ولا صورة واحدة تشير إلى أن ثمة علاقة بين البطل والشجرة. ولا
صورة واحدة للحبل السري بين الشجرة والبنت المريضة. مع ذلك يأتي النقاد
ويفترضون أشياء غير موجودة، ويجعلونك ترتاب فيما ترى.. رغم أننا تعلمنا أن
الأشجار لا تنام، وأن الأشجار حيّة طالما هناك مياه تروي جذورها، وأن
الأشجار تموت واقفة.
نكرر: كان بإمكان صناع الفيلم إضفاء البعد الأسطوري والسحري على الشجرة لكن
ضمن شروط فنية وبعناصر تنتسب إلى الواقعي والغرائبي معاً، الحياتي والحلمي
معاً، الظاهري والتخيلي معاً، تحكمها رؤية فنية وفكرية، قادرة على نسج
علاقات محكمة بين المرئي والمسموع. عندئذٍ لن نشعر بالتشوش والحيرة
والالتباس والغرابة عندما يفترض الناقد أن الشجرة كانت نائمة واستيقظت
لتحرك الساكن وتهلك المتحرك، وأن الشجرة يقظة حتى في نومها!!
وبدوره يتطرق الناقد زياد عبدالله إلى فكرة يقظة الشجرة، عندما يقول: «ومع
الفصل المعنون (يخرج الحي من الميت) تستيقظ الشجرة النائمة التي ليست إلا
شجرة الحياة، وهنا يكون المشتهى قادماً من الأسطوري، ومن أثر الشجرة، التي
تكون كفيلة بشفاء أمينة وإعادة الحياة لما هو ميت».
بودّنا أن نرى هذا متجسداً بصرياً لا نظرياً، بودّنا أن نرى الشجرة وهي
تجترح المعجز لأشخاص لم يطلبوا منها اجتراح المعجز... وبدلاً من «الحديث»
عن سحر الشجرة، كان بودّنا أن «نرى» شعاعاً من هذا السحر. في الأخير، كيف
يمكن لنا أن نصف شجرة الحياة بأنها شجرة نائمة... أي ميتة مجازياً؟ أرجو
ألا يكون في الأمر حذلقة.
وتقول منصورة عبدالأمير: «شجرة الحياة... هذا المعلم التاريخي البحريني،
يحضر بقوة في الفيلم حاملاً رمزية عالية كاشفاً عن فلسفة عميقة يتبناها
جاسم المكلوم بألمه ويأسه وبفقده لأبنائه. تستعيد الحياة معناها عند هذه
الشجرة ويتجدد الأمل بغد أفضل».
الكاتبة منصورة، من بين أكثر النقاد في الخليج ثقافةً ومتابعةً، وتمتلك من
الوعي ما يكفي ليجنبها إطلاق أحكام مجردة لا تستقي حيثياتها ومعطياتها مما
تشاهده إنما من افتراضات يحركها انحيازها للعمل ولصانعيه، وحماستها إزاء
عمل أثار إعجابها فبالغت في تجميله وإضفاء دلالات لا يحتملها العمل... وإلا
كيف نفسر الرمزية العالية للشجرة، بينما حضورها في محيط الأب والأم عابر
وباهت، فلا الأب اهتم كثيراً بزيارة من رافقهما، ولا الأم استجوبت حقيقة ما
حدث أو ما تخيلته. ثم ما هي الفلسفة العميقة التي تبناها الأب والتي لم نجد
لها إشارة واحدة لا صراحةً ولا ضمنياً، لا فعلياً ولا حتى عن طريق الإيحاء.
أخشى أن الناقدة تُسقط أمنياتها الخاصة التي بها تكمل الجوانب الناقصة من
عمل أعجبها كثيراً لكنها لم تجد فيه تلك الإسقاطات أو الافتراضات التي ترغب
في تحققها عملياً، فلجأت إلى تحقيقها نظرياً.
الصوفية
أيضاً لاحظت إطلاق بعضٍ ممن تناول الفيلم، على المستويين النقدي والترويجي،
صفة الصوفية على فيلم «الشجرة النائمة» من غير أن يوضحوا سبب اختيارهم هذا
التوصيف، وما هي الأوجه، من أحداث وأفكار وسلوكيات، في الفيلم، التي أوحت
لهم بالبعد أو المنحى الصوفي، وكأن الأمر افتراض ينبغي التسليم به بلا
مناقشة ولا ارتياب.
عندما يقول حسن حداد: «نجح كل من فريد رمضان ومحمد بوعلي وفريقه الفني، في
تقديم رؤية صوفية جمالية للحياة والموت، للحزن والفرح، ولكن بتقاطعات زمنية
يتداخل فيها الحاضر والماضي والافتراضي الأسطوري... ليعزف سيمفونية رائعة
للزمن بأشكاله المتعددة».
ويقول مسعود أمرالله: «تسمعون؟... وتبدأ الرحلة الصوفية في عرس جليل، تصدح
فيه الطبول، وينام فيه الزمن، وتشتعل الأحلام، وتختلط الرؤى، وما يبقى
فقط... هو الحب الخالص، حب أمينة الذي لا يموت».
ويقول زياد عبدالله: «لعله مغرٍ تماماً بتوصيفه بأهم تجربة خليجية روائية
طويلة، تستدعي المكان والزمان وفق المعطى الثقافي العربي والخليجي، وآليات
السرد العربية في سياق صوفي لا يكون الفلاش باك عودة بالزمن بل كسراً
لحواجز الزمن أو ما يخرج الحي من الميت».
ويقول مصعب شريف: «يختتم الفيلم بذات الصورة الغارقة في صوفيتها والضاجة
بصخب إيقاعاتها وعلى ذات الشجرة».
فإنه يحق لنا أن نتساءل عما تعنيه «الرؤية الصوفية الجمالية» و «الرحلة
الصوفية» و «السياق الصوفي». فقد صرنا نبحث عن معنى الصوفية في فيلم لا
يحتوي على أي منحى صوفي.
بالمعنى المتعارف عليه، الصوفية منهج أو طريق يسلكه العبد للوصول إلى
الله... وهي نزعة فردية تدعو إلى الزهد وشدة العبادة، ثم تطورت حتى صارت
طرقاً مميزة متنوعة معروفة باسم الطرق الصوفية.
إذن الصوفية متصلة على نحو وثيق بالدين، بالعبادة، بالإيمان... بينما في
الفيلم لا نجد أي استحواذ ديني، ولا يتحلى بطل الفيلم، أو غيره، بالإيمان،
بالرغبة في التواصل مع الخالق. إن الإيمان الذي يتحدث عنه النقاد هو في
حقيقته إيمان افتراضي، نظري، تجريدي، لكنهم يعتقدون بوجوده في واقع الفيلم،
وعلى أساسه يبنون استنتاجات لا علاقة لها بواقع الفيلم وشخوصه وأحداثه.
بالتالي، فإن أي حديث عن الصوفية هو استنتاج خاطئ لا يتصل بأي معطى في
الفيلم، سواء فيما يتعلق بالأحداث أو بمسلك الشخصيات.
أما العناوين الجانبية، التي قد تستدرج المرء للاعتقاد بالملمح الصوفي، فهي
محض عناوين ذات خاصية أدبية، لا تتصل بالصوفية، إنما تتصل ببناء العمل في
تقسيمه إلى فصول.
أخيراً
أود أن أوضح بأن الفيلم الذي شاهدته شخصياً هو ما تحدث عنه الكاتب فريد
رمضان في إحدى لقاءاته:
«الفيلم يتناول موضوع الحياة والموت، اليقظة والنوم، انتظار المعجزة أو
انتظار الأجل المحتم أمام حالة مرضية يعاني منها زوجان تتجسد في وجود بنت
مصابة بمرض يوصف طبياً بأنه الشلل الدماغي. الفيلم يطرح هذه الثيمات من
خلال وجود شجرة الحياة النابضة بالحياة وسط الصحراء ووجود بنت صغيرة مصابة
بمرض الشلل الدماغي تنمو ولكنها شبه ميتة أو في غيبوبة، وكذلك من خلال
علاقة الزوجين وهما يراقبان ابنتهما وينتظران حدوث المعجزة بشفائها».
هكذا، ببساطة... وبلا ادعاء
الفيلم سيكون أكثر جمالاً وصدقاً لو تحدثت صوره إلينا مباشرة، بعناصرها
الفنية، بعيداً عن الافتراضات والتفسيرات والاستنتاجات الضاجة، المصطنعة،
الصادرة من صانعيه ونقاده على حد سواء. |