ملفات خاصة

 
 
 

أمروم” فيلم فاتح أكين في مهرجان كان:

وعي طفل مع نهاية النازية

أمير العمري- كان

كان السينمائي الدولي

الثامن والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

من أجمل وأعذب الأفلام التي شاهدتها في دورة مهرجان كان الـ78، فيلم “أمروم” Amrum للمخرج الألماني (من أصل تركي) فاتح أكين (51 سنة) صاحب الأفلام التي أثارت الكثير من الاهتمام والجدل من قبل مثل “مطبخ الروح” (2009)، و”قطع الرؤوس” (2014)، و”في الاختفاء” (2017).

وأنا أستخدم كلمة “أجمل” لأن “الجمال” هنا، في هذا الفيلم، قيمة في حد ذاته، بعيدا عن أي مضمون أو معنى أو محاولة للتفلسف، فهو ليس فيلم “رؤية” فلسفية معقدة، فمخرجه الذي كتب له السيناريو بالاشتراك مع ربيبه ومعلمه وأستاذه، المخرج والممثل الألماني المخضرم، هارك بوم (86 سنة)، أراد أن يروي قصة تستند على ذكريات صديقه الكبير، يسترجع من خلالها سنوات طفولته الأولى في جزيرة “أمروم” الألمانية الصغيرة الواقعة في بحر الشمال بالقرب من الساحل، والتي يقطنها قليل من السكان، الذين يعيشون على الصيد وزراعة البطاطس. ولكن القصة تدور في فترة تاريخية ذات أهمية استثنائية.

نحن في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، قبيل استسلام ألمانيا رسميا.. أي قبل السقوط النهائي لـ”الرايخ الثالث” الذي تعهد هتلر بأنه سيعيش ألف عام. والشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية طفل في الثانية عشرة من عمره يدعى “نانينغ”، يقوم بدوره ببراعة كبيرة الممثل الجديد “جاسبار أولي بيلبريك” في أداء مدهش كثيرا، سيكون له شأن كبير في المستقبل.

نانينغ يعيش مع أمه “هيللي” وخالته “إينا” وأشقائه الصغار الثلاثة. أمه حامل في طفل رابع وتنتظر أن تصع مولودها في أي لحظة. ومنزل الأسرة هو الوحيد في البلدة الذي يرفع علم النازية، فالأسرة متزمتة في ولائها للفوهرر، بل إن والد نانينغ عضو في الحزب النازي وضابط ذهب إلى الجبهة الشرقية ثم وقع في أسر القوات السوفيتية. أما نانينغ فهو عضو في شبيبة هتلر.. يرتدي ملابس الشبيبة التي تشبه ملابس “الكشافة” لكنه لا يبدو وقد ورث أي شيء يتعلق بالنازية في سلوكه مع أقرانه وخصوصا صديق المقرب “هيرمان” هو سلوك طبيعي تماما، وهو يقرضه رواية “موبي ديك، ثم يتناقش الاثنان حول مغزاها.

هل يمكن القول إن نانينغ يدرك الوضع الذي وجد نشا فيه، وهل هو مسؤول عما أصبحت عليه أسرته من ولاء للجانب الخاسر في التاريخ، بل للجانب الشرير أيضا؟ هل يمكن أن يرث الطفل بالضرورة هذا الشر؟، أم أن من الممكن أن تتفتح عيناه على حقائق جديدة لم يكن يعرفها فيختار طريقا آخر في الحياة؟

هذا هو السؤال الأخلاقي الذي يتوقف عنده الفيلم من خلال شخصية نانينغ وكيف يتعامل مع جيرانه وأقرانه، مع عائلته، ومع شخصيات عديدة في البلدة، كيف يتفاعل مع الأحداث التي تقع وربما لا تشعر بها البلدة والجزيرة المعزولة كما يشعر العالم، لكن الأنباء بدأت تتسرب ولو على استحياء.

نانينغ يعمل بجد واجتهاد وحماس في مزرعة البطاطس لصاحبتها السيدة “تيسا” (تقوم بدورها الممثلة الألمانية ديان كروجر)، ولكن تيسا تختلف تماما عن والدته، فهي لا تخفي عدائها لهتلر الذي جعل الحياة أصعب عما كانت كثيرا في الجزيرة.

يأتي إلى البلدة ذات يوم عربة تجرها الخيول على متنها مجموعة من الألمان الفارين من القطاع الشرقي هربا في الوقوع في قبضة الروس.. وهو ما تفهم منه تيسا أن الحرب أوشكت نهايتها. وعندما يسأل هنينغ والدته عما إذا كان هذا صحيحا وان والده يمكن بالتالي أن يعود قريبا، تنهره ثم تأخذ في استجوابه في قسوة شديدة مما يدفع شقيقتها “إينا” إلى نهرها، ولكن دون جدوى، فهي تنج أخيرا في انتزاع ما يوحي بأن تيسا هي التي زرعت هذه الفكرة في رأسه، فتقوم بالإبلاغ عنها لمسؤول الحزب. فهي لا تريد أن ترى الحقيقة، حقيقة النهاية التي لم يبق عليها الكثير.

 عندما تأتي الأنباء عبر بيان يبثه الراديو عن “وفاة” هتلر (لا عن انتحاره) تصاب والدة هالنينغ بصدمة عصبية ونفسية شديدة، ثم تنهار قبيل أن تطاردها على الفور آلام الوضع، وبعد أن تضع مولودها، تعزف تماما عن الطعام والشراب، وتعزل نفسها داخل غرفتها التي تسدل عليها الستائر، لا تريد أن ترى الضوء، فالعالم بعد رحيل هتلر لم يعد يستحق العيش. لكنها لن تقتل أبناءها كما فعلت ماجدا جوبلز..

عندما يحاول هانينغ الذي يحب أمه كثيرا، أن يقنعها بضرورة أن تأكل شيئا، تصر أنها لن تأكل سوى الخبز الأبيض بالزبد والعسل. ولكن هذه الأشياء أصبحت عملة نادرة الآن. بل لقد سبق أن رأينا كيف واجهت الأم محنة بالغة عندما حاولت شراء قطعة لحم من دكان القصاب، فهو ليرفض قبول العملة الألمانية التي فقدت قيمتها الآن، بل يريد “دولارات” السيد الأمريكي القادم. وعندما تضطر الى سرقة قطعة لخم والفرار بها، تحدث فضيحة، ويطاردها الرجل في الشارع الى أن يستعيد قطعة اللحم. وهو مشهد يكثف حالة الخراب الاقتصادي في حياة سكان تلك الجزيرة.

 سيبذل هانينغ كل جهده لكي يعثر لها على الخبر والزبد والعسل، ولو أدى الأمر إلى أن يعمل لدى صياد يساعده في اصطياد فقمة كبيرة أو صيد الأرانب البرية حتى يحصل على قروش قليلة، ولكنه سيجد صعوبة للعودة للعمل في مزرعة تيسا التي تطرده وتتهمه بالوشاية، ويعاني هو من الأولاد في البلدة الذين ينكلون به ويسخرون منه ويعتبرونه من الغرباء القادمين من خارج أمروم، فهم أصلا من هامبورج لكنهم لجأوا الى الجزيرة طلبا للأمان.

سيستمر الفيلم مع هانينغ الذي يفتش في أوراق وصور والده والعائلة ليعيد اكتشاف الحقيقة عن أسرته، ولابد أن أسئلة كثيرة ستدور في ذهن هذا الصبي الصغير: كيف ولماذا كان الاختيار، اختيار الاندماج في هذا النظام الذي ثبت الآن أنه نظام هش، ضعيف، لم يتسبب سوى في الدمار والخراب وجلب العار لمن آمنا به.

الفيلم عبارة عن بانوراما بصرية رائعة، تنسج خيوطها في هدوء وتأمل، وكاميرا رصينة، ثابتة، تحيط بالطبيعة الجميلة على الشاطيء، تتعامل بنعومة كبيرة مع الشخصيات، وكل ما نراه يأتينا من عين نانينغ الصغير، ومن رؤيته التيث تخلو من الإنحيازات. فهذا طفل “طبيعي” ليس من الممكن أن نحكم عليه بأنه لابد أن يرث خطايا عائلته أو يحما أوزارها.

لا أظن أن هدف الفيلم هو تبرئة جيل الأبناء من خطايا النازية، بل هو فقط يريد أن يصور كيف يمكن للمرء حتى وهو في بدايات حياته وقبل أن ينضح لكي يدرك طبيعة ما يدور من حوله، أن يجد نفسه في قلب صراع لم يختره، ولا شأن له به، صراع لا يفهمه، فهو مثلا لا يفهم لماذا تتخذ منه تيسا هذا الموقف القاسي، وسوف يخبرها في النهاية أنه لم يكن قد وشى بها بل هو فقط سأل امه عما عن كان والده سيعود حيث أن الحرب توشك أن تضع أوزارها.

هناك شخصيات أخرى كثيرة تثري الفيلم، مثل البقال وهو جد نانينغ، الذي بدوره يرفض أن يمنحه بعض السكر إلا إذا ردد وراءه النشيد النازي.. والسكر بالطبع شحيح جدا، وهو مطلوب لكي يمكن أن يصبح غذاء بديلا للنحل حتى تتمكن حارسة النحل من توليد بعض العسل، بعد أن جفت القمينة تماما.

كلها تفاصيل مصورة، في نعومة وبساطة حب، تعكس القلب النقي لهانينغ، وكيف تقوى عزيمته ساعة بعد أخرى وهو يصر على أن يأتي لأمه بالأشياء الثلاثة الذين طلبتهم أو تحلم بهم.. ذلك الحلم المستحيل. الذي سيصبح ممكنا فقط بفضل الجهد والعقل، أي التفكير في كيفية تحويل السكر الى عسل، واللجوء إلى الصيدلي للحصول على كمية ضئيلة من الدقيق الذي يستخدمه كدواء بديل، لكي يصنع له الخباز منه رغيفا صغيرا للغاية. وهكذا.

فاتح أكين، يصنع من جزيرة “أمروم” عالما خاصا جدا، هو عالم هانينغ، في انفصاله عن ألمانيا المدمرة في الجهة الأخرى، واتصاله في الوقت نفسه، بما سيأتي وبما سينتج ويتم الكشف عنه. إنه فيلم عن تطور شخصية طفل يولد مع هزيمة ألمانيا، كنموذج لجيل لم يختر هتلر ولم يقف ضده، لم يحبه ولم يعاديه، لأنه باختصار لم يعرفه أصلا!

كان مما أدهشني أن يستبعد تييري فريمو المدير الفني لمهرجان كان، هذا الفيلم ويبرمجه خارج المسابقة الرسمية، فالمؤكد أن مستواه الفني أفضل من كثير من أفلام المسابقة التي شغلت النقاد طوال 12 يوما، سواء بداع، أو من دون داع.. في أكثر الأحوال!

 

موقع "عين على السينما" في

02.06.2025

 
 
 
 
 

«أمّهات شابّات» للأخوين داردين… الطفولة الواصلة بين أم وابنها

سليم البيك

بعد ربع قرن من فيلمهما «روزيتا»، الذي أطلق اسم المخرجين الأخوين داردين، بنيله السعفة الذهبية، يعود الأخوان البلجيكيان إلى المهرجان الفرنسي، بفيلم يستعيد هموماً كانت كذلك لنساء صغيرات، أو فتيات، إنّما في الأمومة، بفيلمهما «أمّهات شابّات»، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي، وقد خرج منها أخيراً بجائزة أفضل سيناريو.

لا يبتعد الأخوان جان بيير ولوك داردين في فيلمهما عن المقاربة لقصص تبدو لشخصيات حقيقية، في واقعية اجتماعية ميزت عموم أعمالهما، وجعلتهما من بين مخرجين قلائل ينافسون بكل جديد لهم على السعفة الثالثة، لا الأولى ولا الثانية.

بشخصياتهما الأقرب للحقيقية، وبواقعية اجتماعية، استحضرا، ودائماً كما هو حال سينماهما، حوارات تلقائية، سريعة، انفعالية، تتغيّر فيها الأمزجة بخفّة، تبعاً للتغيّر الدرامي، التراجيدي في حالات معينة، للشخصيات. هنا، الحوارات هي مركز الفيلم الذي صوِّر، لواقعيته، بكاميرا متنقّلة مهتزّة، كما هي دواخل الشخصيات وخوارجها المتقلّبة. كما هي عواطفها وظروفها.

ولأن الحديث هنا عن أمّهات شابات، فتيات في سن المراهقة أصبحن أمّهات، تبقى الأحاديث المنفعلة على تلقائيتها. فتيات في ظروف قاسية، في حالات وجودية، بدأت من حمل الجنين والرغبة في الإجهاض لدى بعضهن، ولا تنتهي عن الاضطرار إلى إيداع الطفل للتبني. التداخل هذا بين مرحلتين عمريّتين، للفتيات، والعنوان المنتقى بعناية، أحال إلى الرواية الكلاسيكية «نساء صغيرات» (1868) للأمريكية لويزا ماي ألكوت، حيث تعلق فتيات ما بين الطفولة وما بعدها، فلم يخرجن تماماً من المراهقة الطفولية ولم يدخلن تماماً في ما بعدها، في الرشد. في الفيلم كذلك، لسنا أمام فتيات ولا نساء، بل في المرحلة الانتقالية وقد علقن فيها. نحن أمام أطفال يربّين أطفالاً. تصرفات الفتيات طفولية، وإن جرّت إحداهن طفلها في عربته وبدّلت الأخرى له ملابسه. تقول مديرة المأوى لإحداهن بأن تقوم لتطعم ابنها فهو جائع، تردّ الفتاة بأنها هي جائعة. كأنها، الأم/الطفلة، في حاجة إلى من يطعمها، ويطعم من بعدها طفلها. الطفولة هنا واصلة بين الأم وابنها، متشارَكة بينهما.

يحكي الفيلم عن فتيات لكل منهن سبب أودى بها إلى مؤسسة لرعاية الأمهات الشابات وإيوائهن مع أطفالهن، إلى أن يجدن حياة مستقرة، أو يقدّمن الطفل للتبني. لكل من الفتيات أسباب حالت دون عمليات إجهاض أو إكمال حياة مع الشريك، والد الطفل، المراهق كذلك، مع مشاكل عائلية لكل منهن، ودائماً ضمن حالات وطبقات وأعراق متنوعة، في مدينة لييج البلجيكية.

قوة السيناريو لم تكن في الحوارات التلقائية، كأن الفتيات شاركن في كتابتها، وحسب، بل امتد إلى سرد قصة كل منهن، وهي قصص منفصلة متصلة، لا يجمعهن المكان، المبيت، وحده وحسب، بل السياق الذي لأي منهن وقد نُسخ بشكل ما وتوزّع على الأخريات، أمّهات تشاركن الظرف الإنساني، الحالة الاجتماعية، الرغبة في الاعتناء بالطفل والرغبة في التخلص منه، وهذا كله مرفق بإشكالات وارتباكات مع العائلة الأكبر، الأم أو الأخت الكبرى، مع تفكّك مسبق للعائلة، وغياب للأبوة، إن كانت في الشريك لأي من الفتيات تجاه الطفل، أو في والد أي منهن بوصفهن فتيات لم يتخطين سن الطفولة تماماً. هذه السياقات المتماثلة لكل منهن، تتشابك سردياً، وإن كان لكل منهن حياتها الخاصة المنفصلة عن تلك التي للأخريات.

يمكن للفيلم (Jeunes mères) أن يكون قصصاً قصيرة منفصلة تماماً، ربع ساعة لكل فتاة تخوض عالماً عالقة فيه مع طفل لا تعرف ما تفعل به أو معه. لكنه، لوحدة الحال في القصص كلها، وهذه نقطة قوة في السيناريو، قطّع الفيلمُ القصص كلها وأعاد خلطها بعضها ببعضها الآخر، مع الحفاظ على التسلسل الزماني، فقدم بها قصة واحدة بشخصيات متفاوتة، لكل منها تفاصيلها غير المتداخلة مع الأخرى. نتيجة هذه البراعة الكتابية كانت فيلماً واحداً متكاملاً لا يسائل أحدنا عن علاقة هذه الفتاة بتلك، وعن مبرر وجود أي شخصية من عدمها، مع إمكانية إزالة فتاة أو إضافة واحدة. كأن الحالة المعمَّمة هنا لا تنحصر بالشخصيات في الفيلم فتمتد منهن إلى الكثيرات خارجه، أمكن لهن الدخول في الفيلم لو تضاعفت مدّته مثلاً.

هذا ما يمنح مصداقية للواقعية الاجتماعية، التي سادت في عموم أفلام الأخوين داردين، والتي وصلت، من بعد أفلام متفاوتة المستوى، إلى استعادة مستوى فني جيّد كان للأخوين البلجيكيين في أفلام سابقة لهما، مع حفاظهما على مساحة التخصص السينمائية لهما، أي الطفولة واليفاعة، وما فيهما وما بينهما وما يلحقهما من إشكالات اجتماعية ونفسية.

كاتب فلسطيني/ سوري

 

القدس العربي اللندنية في

03.06.2025

 
 
 
 
 

«موجة جديدة».. تحية مهذبة لتاريخ سينمائي عظيم

أحمد شوقي

بينما تنبع أهمية بعض الأفلام من داخلها، باعتبارها أعمالًا فنية متفردة بذاتها، وهي الأفلام التي تصير مع الوقت كلاسيكيات يؤرخ للسينما من خلالها، فإن أفلام أخرى تستقي متعتها من ارتكازها على تلك الكلاسيكيات. بمعنى أن الفيلم نفسه قد لا يحمل فرادة خاصة، لكن ارتباطه بعملٍ آخر عظيم تمنح مشاهدته متعة خاصة. ولعل مهرجان فينيسيا كان الأسبق إدراكًا لأهمية ذلك عندما أطلق قسمًا خاصًا له جائزة تتنافس فيه الأفلام الوثائقية المصنوعة عن فن السينما.

هذا المدخل يعد جوهريًا في فهم سر جاذبية «موجة جديدة Nouvelle Vague»، أحدث أفلام المخرج الأمريكي ريتشارد لينكلاتر، والذي شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان الثامن والسبعين. صحيح أنه خرج دون الحصول على أي جائزة، لكنه حمل إعجاب المتابعين، وسمعة طيبة ستكفل له الهدف الأكثر منطقية لفيلم له هذه الطبيعة: الحصول على عرض تجاري لائق وإقبال جماهيري كبير.

لينكلاتر يمتلك شعبية دولية معتبرة، كوّنها بالأساس من خلال ثلاثيته الرومانسية الشهيرة «قبل الشروق Before Sunrise» و«قبل الغروب Before Sunset» و«قبل منتصف الليل Before Midnight»، ناهيك عن تجربته السينمائية التي استغرقت أعوامًا ونالت الأوسكار «صبا Boyhood» وفيها تابع حياة ممثل طفل من عمر السادسة حتى الثامنة عشر، مع وضعه في مواقف درامية تتطور بمرور الأعوام وتقدم السن.

إلا أن المخرج الأمريكي أخذ مؤخرًا اتجاهًا جديدًا في أفلامه، يعيد من خلالها زيارة لحظات بعينها من تاريخ الفنون، ليقدم شخصيات ذات خصوصية في سياقات درامية ممتعة، تخاطب الجمهور العريض بالأساس. فعلها لينكلاتر في مطلع العام بفيلم «قمر أزرق Blue Moon» الذي عُرض في مسابقة برلين، وجسّد فيه المخرج ليلة من آخر سنوات حياة مؤلف المسرحيات الموسيقية الأمريكي الشهير لورينز هارت، قبل أن يعود في كان بقصة تحمل قيمة أكبر بالنسبة للجمهور الفرنسي، ولكل محبي السينما الأوروبية بشكل عام.

بطل من نوع خاص

بطل الحكاية شاب فرنسي مثقف، ناقد سينمائي حانق على كون كل أصدقاءه قد تركوا النقد وصاروا صناع أفلام معروفين، بينما هو لا يزال لم يصنع فيلمًا طويلًا. صحيح أن البعض يعتبره الأذكى بين تلك المجموعة التي صنعت مجلة «كراسات السينما» التي أعادت تعريف فن السينما ومفهوم النقد، لكن لم يصنع إلا عدة أفلام قصيرة، بينما يصمم ألا يعتبر الأفلام القصيرة أفلامًا حقيقية. يحلم بصناعة فيلم طويل على طريقته، يقدم فيه الحياة على الشاشة كما هي في الواقع، لا كما اعتاد البشر مشاهدتها في الأفلام. شاب اسمه جان لوك جودار.

تنبع المفارقة المركزية في «موجة جديدة» من كون الجميع يعلم من هو جودار، أحد ألمع العقول وأنجح الفنانين في تاريخ الفن السابع. الجميع يعرف أيضًا ما هو الفيلم الذي يصنعه، «حتى آخر نفس Breathless» الذي قلب الموازيين فلم تعد السينما قبله كما كانت بعده. وبينما يعرف كل المشاهدين الفيلم وصانعه وإن جهلوا تفاصيل صناعته، فإن كل المشاركين في رحلة الفيلم افتقروا لتلك المعرفة. كانوا مجموعة من المجبرين على التعامل مع هذا الشاب غريب الأطوار، صاحب الآراء العجائبية والقرارات الشاطحة، إما لأنهم مجبرين على ذلك، أو لأنه ببساطة يعمل بسرعة ولن يكلفهم خسارة مالية كبيرة، أو لأنهم مؤمنين بموهبته. النوع الأخير يتضمن اسمًا واحدًا هو بطل الفيلم، ممثل ناشئ اسمه جان بول بلموندو.

مخرج شاب يتخذ اختيارات لحظية، غير معتادة، تخالف تراث صناع السينما، بل والمنطق نفسه، فيستسلم من حوله لأسباب متباينة ليس من بينها الثقة المفرطة. وبينما يفعلون ذلك وينتظرون لحظة انتهاء تلك المهزلة التي يعيشونها، نعلم نحن المشاهدين أنهم كانوا منخرطين في كتابة التاريخ دون أن يدروا.

التواضع في حضرة الكبار

على النقيض من صناع «حتى آخر نفس» الذين لم يدركوا ما في أيديهم من قيمة، يعرف ريتشارد لينكلاتر جيدًا ما تملكه قصته من جاذبية، ويتفهم أنه يصنع فيلمًا عملته الرائجة هي النوستالجيا، ذلك الحنين إلى عصر الحرية السينمائية، عصر التمرد والثورات الطلابية والرغبة في إعادة كتابة التاريخ. تلك الروح الثائرة الساخرة الصاخبة التي صنعت مجد جودار وبني جيله، والتي صارت أقرب للحلم في عالمنا المعاصر، التي غدت حتى السينما المستقلة فيه تخضع لقواعد ومعامل ومسارات يخوضها الجميع رغم علمهم إنها تقوّض حريتهم ولو بشكل جزئي.

انطلاقًا من هذا الفهم يصنع لينكلاتر فيلمًا ذكيًا، يستخدم طرقًا تقليدية مباشرة لوضع الجمهور في قلب لحظة غير تقليدية. فيبدأ كل مشهد بلقطات ثابتة تقدم الشخصيات التاريخية بأسماء مكتوبة لا تدع مجالًا للتخمين أو إضاعة الوقت، ليستغل كل لحظة في سرد اليوميات الصاخبة لصناعة التحفة السينمائية، وبدلًا من أن ينشغل ذهن المشاهد في تخمين هل هذا الممثل يؤدي شخصية فرانسوا تروفو أم جاك ريفيت أم كلود شابرول أو أي شخصية أخرى، يدخل مباشرة في إسقاط ما يعرفه عن المشاهير على تصرفات الممثلين.

على صعيد الإبداع، لا تبدو طريقة لينكلاتر خلّاقة أو مبتكرة، ربما لو شاهدها جودار نفسه لسخر منها ووصف صانعها بالكسل والاستسهال. لكن بمنطق براغماتي ينجح المخرج الأمريكي بتفوق في تحقيق هدفه السردي: أن يصنع فيلمًا تقليديًا عن صناعة فيلم غير تقليدي، ويتركنا نستمتع بالمفارقة في الحكاية الأصلية بدلًا من مدح أسلوب من يعيد سردها. يتضاءل لينكلاتر طواعية أمام إنجاز جودار الشاهق، وهو بلا جدال أفضل الخيارات الممكنة، وأكثرها اعترافًا بقدر الفنان الحقيقي.

مفارقة النهايات

يمتلئ «موجة جديدة» باللحظات المضحكة، والمبهجة، والمؤثرة، التي يحاول المخرج فيها الاحتفاء بالجرأة والغرابة، وبالطموح الشاهق الذي يسعى صاحبه لتغيير مسار فن بأكمله، حتى لو كان أغلب من حوله لا يشاركونه نفس الحلم، وهو ما يجعل مشاهدته تجربة ممتعة عمومًا، تزيد لذتها لدى محبي الموجة الفرنسية الجديدة، بكل ما حملته من قلب للموازين، وتناقضات، وتجسيد لروح اللحظة السياسية والاجتماعية والثقافية.

ولعل أحد أطرف اللحظات وأكثر تأثيرًا تأتي مع تترات النهاية التي تختصر ما نعرفه سلفًا عن نجاح الفيلم ومصير صنًاعه، لكنها تركز بوضوح على الفارق بين بطلي «حتى آخر نفس». البطل جان بول بلموندو كان ممثلًا ناشئًا، يؤمن بجودار ويقدر له منحه الفرصة الأولى في حياته، بما يجعله يرد على من يحذروه من الفيلم بأنه مصمم على مشاركة صديقه الحلم، حتى لو كان آخر دول سيلعبه في حياته. أما البطلة جين سيبرج فكانت نجمة أمريكية متحققة، تنتمي للسينما الكلاسيكية ولمكتشفها أوتو بريمنجر، تورطت في قبول الدور ولعبته على مضض، وكانت مستعدة في كل لحظة أن تترك الأمر برمته وتعبر الأطلنطي كي تُمثل في «فيلم حقيقي»، لا في لعبة عبثية كالتي يلعبها الشاب الفرنسي المتغطرس.

تذكرنا تترات نهاية «موجة جديدة» بمفارقة المصائر: لم يكن الدور هو الأخير في حياة بلموندو الذي استمر حتى آخر يوم في حياته واحدًا من أهم النجوم في تاريخ السينما الأوروبية، بينما استمرت سيبرج تختار المشاركة في أفلام حقيقية، لكنها عندما انتحرت وعمرها لا يتجاوز 40 سنة، وصفت كل الصحف الواقعة بأنها «رحيل بطلة فيلم حتى آخر نفس»!

 

موقع "فاصلة" السعودي في

03.06.2025

 
 
 
 
 

ناقدان عربيان عن "سعفة" جديد بناهي: لا يستحقّها

بيروت/ العربي الجديد

كالعادة، تُثير جوائز المهرجانات السينمائية الدولية، خاصة المصنّفة فئة أولى، سجالاتٍ مختلفة، بعضها غير نقديّ، وبعضها الآخر يتضمّن شيئاً من النقديّ، وإنْ يُنشر في فيسبوك. فوز "حادث بسيط" للإيراني جعفر بناهي بـ"السعفة الذهبية" للدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ"، تأكيدٌ إضافي أنّ السجالات مستمرّة، فهناك من يرى فيها (السعفة الذهبية) موقفاً سياسياً، غير غافلٍ السينمائيّ أيضاً وإنْ باهتمامٍ أقلّ؛ وهناك من يعتبر الجائزة مكافأة "سينمائية" لفيلمٍ "مناضل".

هنا تعليقان فيسبوكيان لناقدين عربيين، لهما مصداقية تحليل ومتابعة وثقافة، "يهاجمان" الفيلم ومخرجه، مع قليل من النقد:

أمير العمري (ناقد وكاتب من مصر مُقيم في لندن) يكتب (فيسبوك، 24 مايو/ أيار 2025) التالي: "كما توقّعت بالضبط. أسوأ فيلم يحصل على السعفة الذهبية، تضامناً مع مخرجه وكراهية بإيران. باقي الجوائز غلبت عليها المجاملات والرغبة في إرضاء جميع الزبائن. الجوائز، مهما كانت، لن تجعل فيلماً ضعيفاً عملاً عظيماً".

في اليوم نفسه، يتساءل العمري: "هل سيجرؤ أي ناقد كبير في الغرب، يكتب في صحيفة معروفة، على القول إنّ فيلم جعفر بناهي ضعيفٌ ومتهالك، ويدور حول نفسه، ويعجز عن تقديم دراما مقنعة؟ هل سيعتبر الفيلم، بشكل عام، رديئاً، ينتمي إلى سينما عفا عليها الدهر: سينما الصراخ والاحتجاج الصوتي والإدانة، من دون أي بعد جمالي، أو صورة واحدة تبقى في الذهن؟ هل سيحتجّ بأنّ الفيلم أقلّ كثيراً بمسافة ضوئية عن أفلام أخرى أفضل منه، وتستحق الجائزة؟".

يتابع العمري: "أتحدّى أنْ يجرؤ أحد منهم على التعبير عن رأيه الحقيقي في هذا الفيلم. لماذا؟ لأنّ نقاد الغرب مُصابون بعقدة المركزية الأوروبية. كما أنّهم يخضعون للسائد والمُقرّر والمفروض، والصائب سياسياً (Politically Correct)، حسبما يرى صاحب الدكان، أي مالك الصحيفة. فهل تجرّأ أحد منهم على الاحتجاج بقوة على غياب السينما الروسية العظيمة، بعد أنْ فرضوا عليها مقاطعة تامة في مهرجان "كانّ" بسبب الوضع السياسي؟ ومنعوا أيضاً حضور النقاد والصحافيين الروس، إلّا من كان مُنشقّاً يقيم خارج روسيا؟".

من جهته، يكتب المغربي محمد بكريم (في اليوم نفسه) أنّ "حادث بسيط" يرتكز على حبكة مستهلكة جداً عالمياً: "ضحية اعتقال تعسّفي، يتعرّف على جلّاده من خلال مجموعة علامات، سمعية أساساً (...)". يُشير إلى أنّ المهمّ في مهرجان "كانّ" ذاك "ليس الفيلم"، فالأساسيّ "تسجيل هدف برنامج مُحدّد سلفاً". مُضيفاً أنّه (بكريم) كان متأكّداً من فوز بناهي عند مشاهدته صُور حضوره في المهرجان "بربطة العنق، في طقس رمزي بليغ الدلالة".

يختم بكريم تعليقه بالقول إنّ هذا "تحوّل مُعلن عنه، رغم أنّه، في فيلمه الجميل السابق "لا دببة" أعلن (بشكل غير مباشر) عن موقف، عندما رفض بطل الفيلم ـ المخرج نفسه عبور الحدود ومغادرة البلد. نجمٌ هوى".

 

العربي الجديد اللندنية في

04.06.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004