ملفات خاصة

 
 
 

"حادث بسيط"... سعفة ذهبية لبناهي الذي يُسائل نفسه

كان/ محمد هاشم عبد السلام

كان السينمائي الدولي

الثامن والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

انطلاقاً من الذاتيّ، يُقدّم الإيراني جعفر بناهي "حادث بسيط" الفائز بالسعفة الذهبية للدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ"، ليؤكّد عبره أنّه ليس ضرورياً أن يسرد المخرج سيرته الذاتية بحذافيرها للتحدّث عن نفسه، إذ يمكن الاكتفاء بمحطات فارقة، ليصنع منها عالمه الصادق والمؤثّر والمشوّق. لذا، يُعتبر جديده فيلماً ذاتياً جداً، يتوجّه به، وبما يطرحه فيه من أسئلة ملحّة وإشكالية، إلى نفسه أولاً، مستلهماً تجربته في الاعتقال والسجن، من دون أن يحيد عن توجيه إدانة صارخة إلى أي سلطة قمعية مسيئة، في بلده وفي غيره. كما فضح الآثار الغائرة التي تعرّض لها من تجاسروا يوماً على التمرّد والاحتجاج ورفض القمع.

ربما تبدو الخيوط العامة للحبكة مُتناوَلة بأساليب ومعالجات مختلفة. البشر متشابهون، كذلك تجاربهم وخبراتهم المؤلمة. لذا، ليس للحكاية أهمية بالغة بقدر التأمّل في جرأة بناهي في الطرح السياسي والمواجهة المباشرة والتمعن في خطابه الذاتي، والأسئلة التي يطرحها على نفسه. ومنها، كيفية التصرّف لو كان مكان شخصيات فيلمه، المستلهمة ممّا تعرّض له. إذ يكشف "حادث بسيط"، صراحة وبشكلٍ مُفجع، ما عانته شخصياته المرسومة بإتقان، ويتساءل إن كان ممكناً تبرير استخدامها الأساليب الإجرامية نفسها التي استخدمها مضطهدوهم للتنكيل بهم. السؤال محوري، كدوافع الشخصيات وتصرّفاتها وردود أفعالها، وما ينطوي عليه من أخلاقيات، يطرحه بناهي على نفسه أولا، قبل المشاهدين.

فنياً، وبعيداً عما يحمله من قضايا وتأويلات وأسئلة سياسية وأخلاقية شائكة، وعن المباشرة والتناول البسيط للموضوع، يجب ألا يغيب عن البال تناول "حادث بسيط" في سياق سينما مخرجه. هكذا تظهر فيه فروقات كثيرة عن المعتاد، إلى مألوف أيضاً. من بين أفلامه (لم ينجز روائياً خالصاً منذ فترة طويلة)، يُعتبر جديده هذا الأكثر توظيفاً للممثلين غير المحترفين، الذين يقودهم باقتدار، بعد سنوات من عجزه عن القيام بهذا، بحرية.

يُلاحظ أيضاً ظهور أكثر من ممثلة من دون غطاء رأس، وهذا تحدّ، بل جرأة تحدّ لقوانين الرقابة في بلده. كذلك، استخدام لقطات طويلة، مُصوّرة في الخارج وليس خلسة كالعادة، أو في شقة أو سيارة أجرة، باستخدام هاتف أو كاميرا مخفيّين. هذا انعكس كثيراً على حرية الاشتغال السينمائي. لتوظيف الصوت أهمية كبيرة، إذ يُلاحظ أنّ أغلب الشخصيات عالية الصوت، ينتابها صراخ دائم أو صياح بعضها ضد بعض. إضافة إلى وقع الأقدام العرجاء ذات الدلالة البالغة التي فجرت القصة، وقادت الأحداث إلى التعقيد فبلوغ الذروة. للأمر وجاهته طبعاً، إذ من يتعرّض للتعذيب معصوب العينين، يكون الصياح والصراخ والصوت المرتفع وسيلته للتعبير، إلى جانب حاسة السمع المرهفة للتواصل مع المحيط. وبالأخص، التعرّف على الوقع المميّز للأقدام، لا سيما الاصطناعية منها.

يبتعد النسيج العام للرؤية البصرية، قليلاً، عن المعهود في الأفلام السابقة لبناهي. أما الجديد اللافت للانتباه، فقدرته على صُنع مواقف طريفة، وإثارة ضحكات عبثية غير مفتعلة. مع هذا، لم يحد كثيراً عن سينما التقشّف الخاصة به، وولعه بالتصوير في أماكن مغلقة، وحشر الشخصيات في إطار/مكان ضيق أو محدود. إذ إن مشاهد كثيرة تحصل في عربة "فان" مغلقة، تعكس مساحتها الضيقة والخانقة والمظلمة الكثير من دواخل الشخصيات وردود أفعالها.

في "حادث بسيط" (أو "كان مجرّد حادث")، هناك إقبال (إبراهيم عزيزي)، المسؤول الأمني الذي، أثناء عودته إلى منزله ليلاً مع زوجته (أفسانة نجم آبادي) وابنته (دلماز نجفي)، يصدمه كلب، فتتعطّل السيارة. يتمكّن من بلوغ مستودع قريب طلباً للمساعدة. عندها، ينتقل الفيلم فجأة إلى وحيد (وحيد مبصری)، عامل بسيط يعاني آلام الكلى بسبب التعذيب، فيتعرّف إلى إقبال، بل يسمع وقع قدمه الاصطناعية. لأسبابٍ تنكشف تدريجياً، يتبعه إلى منزله. ثم يضربه ويخطفه، ويتجه به إلى الصحراء، ويحفر حفرة لدفنه فيها حياً. لكنّ الأمور تتعقّد في اللحظات الأخيرة، بعد أن يساوره الشكّ في أنّه إزاء الشخص الخطأ، وليس من أشرف على تعذيبه.

منذ تلك اللحظة، يكتسب الوقت أهمية جوهرية، إذ يصارع وحيد الزمن في توجّهه إلى أكثر من شخص تعرّض للتعذيب مثله، كي يتأكّد من الأمر. سريعاً، تمتلئ الشاحنة ببعض الضحايا، لكلّ منها قصة مؤثّرة. الجميع تحدوهم، في لحظات مختلفة، الرغبة نفسها في الانتقام ممن اعتدى عليهم شهوراً متواصلة. يتزايد التشويق أكثر، نظراً إلى عجزهم عن التيقّن من الأمر، فهم يجهلون وجهه، ودليلهم الوحيد ساقه الاصطناعية. حتى بعد التيقّن، يتساءلون: هل ينكّلون به، وينتقمون منه، أو يقتلونه؟ أي: هل يتحلّون بأخلاقياته وسلوكياته نفسها؟
يتعيّن الوقوف طويلاً أمام الطرح القوي لبناهي في "حادث بسيط"، لكونه الأكثر مباشرة وجرأة وتحدياً، كما أنّه لم يخلُ من تغيير فني في اشتغاله السينمائي، مقارنة بسابقه "لا دببة" (2022). مع ذلك، هل يعتبر الفيلم أهم ما أنجزه بناهي فنياً في مسيرته؟ تساؤل يثير أسئلة جمّة، يصعب حسمها لاختلاف الأذواق. لكنّه بالتأكيد ليس الأسوأ بين أفلامه
.

يُذكر أنّ جعفر بناهي، بحصوله على السعفة الذهبية هذه، ينضمّ إلى مخرجين قلائل جمعوا الجوائز الثلاث الكبرى للمهرجانات المُصنّفة فئة أولى، كالإيطالي ميكلأنجلو أنتونيوني، والأميركي روبرت ألتمان، والفرنسي هنري ـ جورج كلوزو. فبناهي، قبل السعفة، فاز بالأسد الذهبي في فينيسيا عن "الدائرة" (2000)، وبالدب الذهبي في برلين عن "تاكسي" (2015).

 

####

 

"العميل السري" للبرازيلي فيليو: سينما مقاومة الاستبداد

كان/ سعيد المزواري

ينطلق "العميل السري" للبرازيلي كليبير موندونسا فيليو ـ الفائز بجائزتي السعفة الذهبية وأفضل ممثل (فاغنر مورا)، إضافة إلى جائزة "فيبريتسي" ـ في الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ"، من مشهد رجل في أربعينياته (مورا) يلج بسيارته "الخنفساء" الصفراء إلى محطة وقود شبه مهجورة، في ضاحية "ريسيفي" بمنطقة "نورديستي" (شمال شرق البرازيل)، فيُفاجأ بجثة رجل مجهول، مُضرّجة بالدم ومغطاة بورق كرتوني، غير بعيد عن المحطة. تجذب الجثة، التي بدأت تتعفّن، كلاباً ضالة، يقرنها انتقال بديع بين سلالم اللقطات بسيارة رجال شرطة تمرّ بالقرب من المحطة، في مثل بارز على أنّ مونتاج إدواردو سيريانو وماتيوس فارياس من أهم نقاط قوّة الفيلم.

يُضاف حقل ذرة في الخلفية، لتدلّ تفاصيل هذه اللوحة الافتتاحية على أننا إزاء فيلم بوليسي، والجثة المهملة تُذكّر بديفيد لينش، الذي نسج مسلسل "توين بيكس" من جثة لورا بالمر، المغلّفة بغطاء بلاستيكي، على شاطئ البحر. لكن المخرج لا يفتأ يشوّش على مفاتيح النوع، ليذهب في منحى لا اعتيادي وغير متوقع، وفق "موتيف" يتكرّر طيلة الفيلم، وفق نزعة سينما شاملة، تمزج أنواعاً عدّة بتحكّم وإيقاع سَلِسين للغاية، وتنسج طرحاً شديد الكثافة لتقول، ككلّ أفلام المؤلف الكبيرة، الكثير عن العالم المعقّد الذي نعيش فيه، انطلاقاً من موشور البرازيل، بصفتها بلداً كبيراً ومُعذّباً كان ولا يزال يشكل ساحة صراع رئيسية بين منحى التحرر والديمقراطية، وقوى الرجعية التي لا تفتأ تنبعث بأقنعة جديدة كلّ مرة (الديكتاتورية العسكرية، اليمين المتطرّف... إلخ).

فلا مارسيلو العائد إلى ريسيفي لرؤية طفله وبدء حياة جديدة مُهتمّ بالجثة، بل يحاول أنْ يتراجع عن التزوّد بالبنزين ما إنْ يلمحها، لولا إصرار العامل على عودته. ولا الشرطيان، اللذان يتوقّفان لمراقبة أوراق السائق المجهول (لكنّ هدفهما الحقيقي سلبه مالاً)، جاءا ليحقّقا في جريمة القتل، رغم علمهما بها منذ أيام.

لا شيء يهمّ في فترة الكارنفال المستبدّة بالمدينة سوى الرقص المحموم على نغمات الموسيقى وفق تقليد برازيلي عريق، تتوقّف من أجله عقارب الساعة، وينطلق له عدّاد إحصاء الموتى الذين يتساقطون ضحايا حوادث عنف متجذّر، يبدو كوجه مقابل للفساد المستشري في جهاز شرطة محلية، لا يتأخر مارسيلو في اكتشاف أساليبه الملتوية، الأقرب إلى عمل العصابات المنظّمة، منذ اليوم الأول في عمله الجديد بمركز تسجيل البطاقة الوطنية.

يتقدّم الحكي في ثلاث فترات زمنية: الحبكة الرئيسية (نهاية سبعينيات القرن الـ20)، والحاضر المقتصر على فتاتين تشتغلان في تفريغ تسجيلات صوت مارسيلو، وشذرات من حياته السابقة مع زوجته المتوفاة أثناء اشتغاله مدرّساً جامعياً، يُكتَشف فيها أنّ اسمه الحقيقي أرماندو. يلتقي مارسيلو حماه، الذي تكفّل بتربية ابنه فرناندو ويعمل مسؤولاً عن العرض بصالة سينما، فتغدو الأخيرة نقطة لقاء سرية بصحافيّين مسؤولين عن تسجيل شهادة مارسيلو. خيط حكي بالغ الابتكار والدلالة عن دور الفن السابع في توثيق انتهاكات حقوق الانسان، وإخراجها إلى النور. لا يتوقف توظيف فيليو حسّه السينفيلي هنا، بل يمتد إلى التلميح بالتشابه اللافت للانتباه مع ميكانيزمات هيمنة السينما الهوليوودية، عبر بورنوغرافيا العنف وأساليب القمع الديكتاتوري.

يتعلق الأمر بتأثير Jaws، المعروض في قاعات المدينة، على الحشود، إلى درجة استغلال أجواء البارانويا المستولية على العقول من الصحافة الصفراء، التي تفضّل نشر قصص مُختَلَقة تهاجم المثليين المختبئين في زقاق مظلم بحثاً عن المتعة، بدل أنْ تقوم بعملها في فضح تواطؤ الشرطة المتورّطة في التسلّل إلى المشرحة، وتعويض قدم إنسان عثر عليها في سمك قرش بقدم بقرة، لطمس آثار جرائم الاغتيال والتمثيل بجثث الضحايا. خبرٌ يستعير فيليو أجواء أفلام الرعب من فئة "ب" لتخيّله، بينما يقرأ أحدهم الخبر على مسامع مارسيلو وجيرانه، في مشهد جريء شكلياً، ما كان ليمرّ بالسلاسة نفسها لولا سحر السينفيليا الذي يفتح كلّ الأبواب.

ينبعث ماضي أرماندو ليقضّ حاضره، حين يرسل مديره السابق في الجامعة قاتلين مأجورين في إثره، انتقاماً من وقوفه في وجه مخططات تسليع الجامعة، وتبضيع مشاريع البحث. ألا يُرى في هذا صدى ممارسات الحكومات اليمينية في العالم، وأولها إدارة دونالد ترامب، وسعيها إلى تطهير الدراسات العليا من كلّ نزوع إلى نقد الهيمنة ومقاومة مدّ التحكّم؟

تحمل حبكة محاولة اغتيال مارسيلو الفيلم إلى إيقاع ثريلر يشدّ الأنفاس، ويفصح عن تمكّن كبير لفيليو في مفاتيح النوع، لكنّه ينزاح عنها مرة أخرى تاركاً مآل مارسيلو خارج حقل الحكي، ولا ينبئنا به إلاّ في النهاية.

كلاب ضالة، وأسماك قرش مبقورة البطن، وأقدام أبقار، وقطّ بثلاث عيون: الحيوانية في "العميل السري" تمثّل رافداً أساسياً لتغذية جو غرائبي، يرنو إلى تمثّل عبثية أساليب قمع وسادية سلطة، تسعى إلى أنْ تنزع عن ضحاياها كلّ معاني الإنسانية. التطبيع مع القتل وطمس آثاره من جهة (تجاوز عدد الموتى في فترة الكارنفال 90 فرداً)، وتوثيق الجرائم وفضحها من جهة أخرى، توجّهان يحرّكان الحكي. إنّها ثنائية الصراع الأزلي بين قوى الطمس والنسيان، وغريمتها التي تجهد في توثيق الجرائم وحفظها في ذاكرة الأوطان، التي لا تزال مستمرة في أشكال مختلفة إلى اليوم.

في مشهد، تسأل الشابة فلافيا (لورا لوفيزي) زميلتها المشتغلة معها على تفريغ التسجيلات، في فترة استراحتهما، إنْ أجرت بحثاً عن الأشخاص المذكورة أسماؤهم، فتجيبها من دون أنْ تتوقف عن مشاهدة وثائقي حيواني على حاسوبها: "حاولت فقط على النّت من دون أنْ أجد لهم أثراً. إنهم يعودون إلى فترة ما قبل غوغل". كأنّ في ذلك غمزة إلى أنّ اقتصار الجيل الجديد على الإنترنت وذاكرته القاصرة وغير الموثوقة مصدراً وحيداً للمعلومة أصبح بحدّ ذاته سلاحاً قوياً للديكتاتوريات القمعية. وحدهم "غريبو الأطوار" كفلافيا لا يزالون يتحملون عناء البحث في العالم "الواقعي".

تعثر فلافيا على فرناندو، ابن مارسيلو الوحيد الذي غدا كهلاً يشتغل طبيباً في مركز تحاقن الدم، وتسلمه نسخة من تسجيلات والده. لكنه يبدو غير متحمّس للاستماع إليها، مُسرّاً لها أنّ والده الحقيقي هو جدّه الذي ربّاه. يرافقها إلى الخارج ليخبرها قبل توديعها، بينما تتراجع الكاميرا لتكشف عن لقطة عامة ومهيبة للمبنى: الأرض التي أُنشئ عليها مركز تحاقن الدم كانت تضم صالة سينما.

مشهد ختام بديع يلخّص طرح "العميل السري" برمّته باستعارة بالغة الدلالة.

 

العربي الجديد اللندنية في

26.05.2025

 
 
 
 
 

صوت السقوط»… ذاكرة ألمانيا متمثلة في أجيال من النساء

نسرين سيد أحمد

كان – «القدس العربي»: في فيلمها الثاني اللافت «صوت السقوط»، الحائز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان في دورته الثامنة والسبعين، تقدم المخرجة الألمانية ماشا شيلينسكي عملاً سينمائياً آسراً وموحشاً في آن، يتتبع حيوات أربع فتيات من أجيال مختلفة، داخل مزرعة ريفية في شمال ألمانيا، حيث تمتزج ذكرياتهن وآلامهن وتجاربهن الحسية في جدران المكان نفسه، وكأن الزمن نفسه يدور في دوائر مغلقة لا تنتهي. ما يبدو للوهلة الأولى وكأنه سرد مفكك أو صور متناثرة، يتحوّل تدريجياً إلى نسيج متكامل يربط بين الطفولة والأنوثة والألم والحنين، في عمل يتجاوز الزمان والمكان، ويستقر في جوهر التجربة الإنسانية.

لا يلتزم «صوت السقوط» بزمن خطي تقليدي، بل يتنقل بسلاسة بين أربع حقب زمنية، تبدأ في أوائل القرن العشرين، وتمر بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم بجمهورية ألمانيا الديمقراطية في الثمانينيات، وصولاً إلى الزمن المعاصر. كل حقبة تمثل وجهاً مختلفاً من معاناة الأنثى في السياق الألماني، من الطفولة المشوبة بالأسى، إلى اكتشاف الذات والجنس مروراً بعلاقة الجسد بالسلطة والسياسة والأسرة.

تُقدَّم الشخصيات الرئيسية، وهي ألما، وإريكا، وأنغيليكا، ولينكا، وكأنهن أطياف متكررة لروح واحدة تعيد التجربة نفسها كل جيل، ولكن بوجه جديد. ما من رابط سردي واضح بينهن، إلا أن الفيلم يوحي بعلاقة أسرية تربط بينهن، فهن ربما حفيدات أو بنات عم، إلا أن ذلك غير مهم، بقدر ما يهمنا الشعور بأن كل واحدة تعيد تكرار ألم سابقتها دون أن تدري.

يرصد الفيلم تفاصيل البيت العتيق وسط مزرعة في الريف الألماني، كما لو كان يعيد للحياة أشباح الماضي. أحياناً تكون النظرة من وجهة نظر شخصية بعينها، وأحيانًا أخرى تأتي من كيان خفي، مثل ذاكرة تسكن البيت. يخلق الفيلم شعورا بأن الذاكرة هي التي تُشاهد، وليست الشخصيات. وهي ذاكرة حسية تتذكر ملمس الهواء، وصوت الذباب، ووقع الخطى، أكثر مما تتذكر الأحداث. ورغم غياب الحدث التقليدي والصراع المباشر، فإن الفيلم مشبع بالمشاعر. كل فتاة تعيش صراعاً داخلياً مع جسدها ورغباتها، مع حدود المجتمع والأسرة، ومع فكرة الغياب.

إريكا مثلا، تعيش في زمن الحرب، تحاكي فقدان أحد الأطراف كنوع من التجربة مع الألم الجسدي. أنجيليكا تتخيل انمحاء جسدها تحت آلة ضخمة في مزرعة والدها، فيما تتأمل لينكا في الحاضر نظرات الآخرين لها، وكأنها سهام تخترق جلدها. إنهن يتشاركن الحساسية المفرطة، وشعوراً دائماً بأن وجودهن عبء أو خلل لا يمكن شرحه. واحدة من أقوى لحظات الفيلم تأتي عندما تقول إحدى الشخصيات: «من الغريب أن شيئاً ما قد يؤلمك وهو لم يعد موجوداً» هذه العبارة تختزل ما يحاول الفيلم تصويره: الألم كذاكرة جسدية لا تزول، حتى إن اختفى مصدره.

الفيلم يشبه إلى حد كبير حلماً طويلاً، أو شريط فيديو منزلي صامت يمتد لمئة عام، حيث تتلاشى الحدود بين الماضي والحاضر، بين الشخصية ومحيطها. لا يهتم «صوت السقوط» بالصراعات الدرامية التقليدية، بل يفضل الغوص في الطبقات الخفية من الشعور: صوت الأغاني التي تتكرر، الخوف من أعماق مياه نهر ما، صمت الصيف. بهذه العناصر تصنع شيلينسكي عالماً مشحوناً بالمعاني رغم هدوئه الظاهري. كما يمكن القول إن الفيلم يعيد طرح أسئلة عميقة عن الذات: هل نرى العالم مقلوبا أم نحن من نقلبه؟ هل يمكن أن نعي لحظة سعادتنا أثناء وقوعها؟ هذه الأسئلة لا تُطرح بشكل مباشر، لكنها تتسرب من بين ثنايا المشاهد كهمس داخلي يعكس التوتر المستمر بين الوعي والنسيان.

ما يثير الحزن العميق في «صوت السقوط» هو أن هؤلاء الفتيات، رغم تقارب معاناتهن، لا يتواصلن فعلياً. إنهن منفصلات عن بعضهن في الزمان، لكن أرواحهن تتقاطع في المكان والذاكرة. وكأن الفيلم يخبرنا بأنهن لو استطعن مشاركة الألم، لربما تجاوزنه. لكن الفيلم أيضاً يقر بأن هذا هو جوهر التجربة البشرية، التفرد في الألم، والصمت في لحظة الانكسار.

«صوت السقوط» ليس فيلما سهلا، بل هو عمل يتطلب الانتباه، وربما أكثر من مشاهدة واحدة لفهم عمقه الحقيقي. لكنه فيلم يكافئ المتلقي، لا بالإجابات، بل بإحساس نادر بأن السينما قادرة على التقاط ما لا يُقال. هو عمل عن الغياب، لكن حضوره الفني صارخ، عن الألم، لكنه لا يصرخ؛ عن الذاكرة، لكنه لا يشرح. إنه دعوة إلى النظر إلى الخلف، ليس لنحزن، بل لنفهم، وربما، لنتجاوز.

في النهاية، «صوت السقوط» ليس فقط تأملا سينمائيا في أنوثة ألمانية متعددة الأجيال، بل شهادة على قوة السينما حين تتجرأ على الاقتراب من أعماقنا بصمت، وتضيء زوايا مظلمة في وعينا لا تستطيع الكلمة وحدها الوصول إليها.

 

القدس العربي اللندنية في

26.05.2025

 
 
 
 
 

«إلى عالم مجهول»... لا حياة مع اليأس

تصقله كاميرا واقعية ومواهب خام لافتة

بيروتفيفيان حداد

منذ اللحظة الأولى، تأسرنا كاميرا المخرج مهدي فليفل في فيلمه «إلى عالم مجهول»، إذ تتحرَّك بعفوية وواقعية لافتتين، مُحدِثة عند المُتلقي نوعاً من الشراكة، فيشعر كأنه يرى مجريات الفيلم بأمّ العين، مباشرة من شوارع أثينا حيث تدور أحداثه.

عُرض الفيلم للصحافة في سينما «متروبوليس» بمنطقة مار مخايل، بدعوة من شركة «إم سي» للتوزيع، تمهيداً لعرضه في الصالات اللبنانية.

يحكي الفيلم مأساة شابين فلسطينيين لاجئين هما «شاتيلا ورضا»، وقد وصلا إلى أثينا على أمل الوصول إلى ألمانيا، بحثاً عن حياة أفضل من تلك التي تركاها خلفهما في مخيم عين الحلوة بالعاصمة بيروت. وبعد جمعهما المال لشراء جوازي سفر مزوِّرين للخروج من أثينا، تتبدَّد أحلامهما بسبب إدمان رضا، فيلجأ شاتيلا إلى خطة للهروب، لكنها تنتهي بمصير غامض يفوق توقعاتهما.

عُرض الفيلم لأول مرة في مهرجان «كان السينمائي الدولي» 2024، وحصد جوائز عِدة، أبرزها «التانيت الفضي» في «أيام قرطاج السينمائية»، و«اليسر الفضي» في «مهرجان البحر الأحمر»، إضافة إلى جائزة أفضل ممثل لمحمود بكري عن دور شاتيلا.

وقد أشار فليفل إلى أن بكري لم يكن الخيار الأول للبطولة، لكنه أرسل شريطاً تجريبياً أقنع المخرج بإسناد الدور إليه. وأضاف: «عندما شاهدت الشريط، أدركت أن بكري هو الشخص المثالي، وكان العمل معه مصدر فرح. لقد أسهم بشكل فعَّال في نجاح الفيلم، مما جعله يحقق هذا التميز في المهرجانات».

قدّم بكري أداءً عفوياً لامس صدق الشخصية، وشاركه أرام صبَّاح بأداء مُتقن عزَّز من التفاعل بينهما، وشكَّلا معاً ثنائية متجانسة.

تتنقّل كاميرا فليفل في شوارع أثينا وأحيائها العتيقة، وتمنح المشاهد انطباعاً وكأنها تسير في أزقة بيروت الضيقة. ومن خلال رحلة البطلين، يُسلِّط الفيلم الضوء على معاناة اللاجئين الفلسطينيين وضغط المسؤولية الملقاة على عاتقهم، خصوصاً تجاه عائلاتهم التي لا تنفكُّ تُذكِّرهم بها من خلال مكالمات هاتفية فتحثّهما على الكفاح مجدداً.

على مدى ساعة و45 دقيقة، يمزج الفيلم بين التشويق والدراما، ويصوِّر سلسلة من العقبات التي تُحاصر الشابين وتبدِّد أحلامهما. وكلَّما لاح بصيص أمل، يُطفئه واقع أكثر قسوة، فينغمس المُشاهد في مشاعر الخيبة والتعاطف.

ينجح فليفل في تصوير المأساة بلا رتوش، موثقاً صراع اللاجئين في بحثهم عن مستقبل مجهول. العنوان نفسه يُجسِّد محنة بطليه، اللذين يقاومان واقعاً ظالماً ويفشلان في انتزاع حريتهما، ليبقى الأمل سراباً، والطريق إلى النجاة محفوفاً بالخذلان، فذهبت آمالهما سدى، حتى إنهما فكَّرا مراراً بالعودة إلى مخيم عين الحلوة.

يعيش المشاهد جرعات كبيرة من الكآبة، واليأس، والتشتّت، والضياع مع بطلي الفيلم، وفي كل مرة تلوح أمامهما فرصة للنجاة من حياة بائسة فُرضت عليهما، كانت الصدمة تخطفها. وهكذا يجد المشاهد نفسه معلقاً معهما بين أمل زائف ومصير مجهول. فحقوقهما المهدورة منذ ولادتهما في مخيم اللاجئين كانت تخنقهما، فلا أثينا ولا خططهما الذكية استطاعت أن تُنقذهما أو تحقِّق أحلامهما.

سعى المخرج فليفل إلى تقديم صورة واقعية خالية من أي رتوش عن مأساة اللاجئين، وترجم عنوان الفيلم «إلى عالم مجهول»، بسلسلة من الحروب النفسية والاجتماعية يخوضها البطلان في سعيهما نحو الحرية، لكنَّها كانت حروباً خاسرة، تتطلَّب تضحيات تفوق طاقتهما. وفي لحظات عدَّة من الفيلم، يجد المشاهد نفسه متعاطفاً مع تصرُّفات خاطئة ارتكبها الشابان، إذ يلهث معهما خلف بصيص أمل بعيد المنال، فالعتمة المظلمة، في نظرهما، تستحق عناء تجاوزها.

 

الشرق الأوسط في

26.05.2025

 
 
 
 
 

تصريحات مسيئة واستدعاء سفير.. فوز jafar panahi بالسعفة الذهبية يثير أزمة

لميس محمد

استدعت إيران القائم بالأعمال الفرنسي في طهران، احتجاجًا على تصريحات "مهينة" لوزير الخارجية الفرنسي عقب فوز المخرج الإيراني جعفر بناهي بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي.

ووفقًا لما ذكرته وسائل إعلام رسمية، وصف جان نويل بارو وزير خارجية فرنسا فوز jafar panahi بأنه "بادرة مقاومة ضد النظام الإيراني"، علي حد زعمه.

وحصل  بناهي، البالغ من العمر 64 عامًا، على جائزة السعفة الذهبية عن الدراما السياسية "حادث بسيط".

وأضافت وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية الإيرانية: "عقب التصريحات المهينة والادعاءات التي لا أساس لها من الصحة التي أدلى بها الوزير الفرنسي، تم استدعاء القائم بالأعمال الفرنسي في طهران إلى الوزارة".

وقالت إن إيران تُدين "إساءة استخدام الحكومة الفرنسية" لمهرجان كان "لدفع أجندتها السياسية ضد الجمهورية الإسلامية".

فيلم بناهي، المُستوحى من فترة اعتقاله، تصدّر استطلاعات رأي النقاد طوال أسبوع مهرجان كان، وتجاهلت هيئة الإذاعة والتليفزيون الحكومية فوز بناهي.

 

####

 

jafar panahi ليس الأول في الفوز بالسعفة الذهبية لإيران من كان السينمائى

لميس محمد

تصدر اسم المخرج الإيراني جعفر بناهي التريندات بعد فوزه بـ السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائى، عن فيلمه حادث بسيط، خلال حفل الختام وتوزيع جوائز مهرجان كان السينمائي في دورته الـ78، وهي الجائزة التي وزعت في ختام فعاليات المهرجان وتسلمها من النجمة كيت بلانشيت وجوليت بينوش.

ويأتي فوز jafar panahi  بالسعفة الذهبية فى مهرجان كان السينمائي، ليكون المخرج الايرانى الثاني يحصل على هذه الجائزة بعد أن حصل عليها المخرج الراحل عباس كياروستامي عن فيلم "طعم الكرز" في عام 1997.

وشهد المهرجان أول أمس السبت حالة من الارتباك وذلك بعدما انقطع التيار الكهربائي عن جنوب شرق فرنسا، بما يشمل مدينة "كان" ومحيطها، لكن المنظمين قالوا إن الحفل الختامي لن يتأثر بذلك.

كما شهد افتتاح مهرجان كان السينمائي في دورته الـ78 يوم 13 مايو الماضي، منح النجم روبرت دي نيرو السعفة الذهبية الشرفية تكريما لمسيرته الممتدة، وذلك بعد 14 عامًا من ترأسه لجنة التحكيم في عام 2011، وقدمها له ليوناردو دي كابريو.

وخلال كلمته وبعد أن شكر المهرجان، انتقد روبرت دي نيرو الرئيس الأمريكي ترامب، منتقدا فرضه تعريفة جمركية على الأفلام المنتجة خارج أمريكا.

وأضاف دي نيرو: "الفن هو الحقيقة، الفن يحتضن التنوع، ولهذا السبب يشكل الفن تهديدا للمستبدين والفاشيين في العالم، ولقد قام رئيس أمريكا الضيق الأفق بقطع التمويل والدعم للفنون والعلوم الإنسانية والتعليم، والآن أعلن عن تعريفة بنسبة 100٪ على الأفلام المنتجة خارج الولايات المتحدة".

فيما منح مهرجان كان السينمائي، الممثل الأمريكي دينزل واشنطن السعفة الذهبية الفخرية، وذلك قبل عرض "Highest 2 Lowest".

وشهد المهرجان عودة الجناح المصري في مهرجان كان السينمائي 2025 بتنظيم مشترك بين مهرجان القاهرة السينمائي الدولي ومهرجان الجونة السينمائي ولجنة مصر للأفلام (EFC). ويهدف إلى إبراز دور مصر كموقع تصوير عالمي فريد ومركز إنتاج سينمائي متكامل، حيث سلط الضوء على الإمكانيات الإنتاجية الهائلة التي توفرها مصر. ودعم المواهب المصرية الشابة، من خلال تنظيم حلقات نقاشية وحفلات استقبال تهدف إلى فتح سبل جديدة للتعاون مع صناع السينما العالمية.

 

اليوم السابع المصرية في

26.05.2025

 
 
 
 
 

تعرف على 12 فيلماً بارزاً في مهرجان كان 2025

ريبيكا لورانس، هيو مونتغمري، ونيكولاس باربر

اختتم مهرجان كان السينمائي السبت 24 من مايو/أيار، بإعلان فوز المخرج الإيراني المعارض جعفر بناهي بجائزة السعفة الذهبية عن فيلمه "كان مجرد حادث".

ويُعدّ هذا الفيلم واحداً من بين 12 عملًا عُرض لأول مرة خلال المهرجان، ومن المتوقع أن تثير نقاشاً واسعاً وجدلاً مستمراً طوال عام 2025.

1. مُت يا حبيبي

كان فيلم "مُت يا حبيبي"، الذي أخرجته المخرجة الأسكتلندية الشهيرة، لين رامزي، ولعب دور البطولة فيه كل من النجمة جينيفر لورانس والنجم روبرت باتينسون، من أكثر الأفلام المنتظرة بشغف في مهرجان كان، إذ بيع لشركة موبي مقابل 24 مليون دولار.

والفيلم مقتبس من رواية أريانا هارويتز الصادرة عام 2017، ويلعب فيه نجما الفيلم دور زوجين عاشقين تنهار علاقتهما بعد انتقالهما إلى الريف وولادة طفلهما، ويركز الفيلم على الانهيار الذهني لشخصية الزوجة.

الأكثر قراءة نهاية

وفي فعالية ضمن المهرجان، انتقدت المخرجة تفسير الصحفيين للفيلم على أنه يتناول فقط الاضطراب الذهني ما بعد الولادة، قائلة إنه "يتناول انهيار العلاقة ككل، انهيار الحب، وانهيار العلاقة الحميمة بعد إنجاب طفل".

وقد أشاد النقاد بطاقم التمثيل تحديداً، والذي يضم سيسي سبيسك، ولاكيث ستانفيلد، ونيك نولت - لكن الفيلم يتميز بأداء لورانس الخام، الحسي، والفكاهي في آن واحد.

وكتبت ستيفاني زاكاريك في مجلة "تايم": "ما تقدمه لورنس في فيلم "مت يا حبيبي" دقيقٌ للغاية، حتى في تعبيره الجريء وغضبه الناري، لدرجة أنه يجعلك تبحث عن صفات تُناسبها". بينما وصفها نيكولاس باربر من بي بي سي بأنها كانت "أفضل من أي وقت مضى".

2. صوت السقوط

يُعد فيلم "صوت السقوط"، بمعايير مهرجان كان، عملاً فنياً طموحاً للغاية، غنياً بالتفاصيل، وجميلاً أيضاً.

وتدور أحداث الفيلم الروائي الثاني للمخرجة، ماشا شيلينسكي، في مزرعة واحدة وما حولها في ألمانيا، لكنه يتنقل بين أربع فترات زمنية مختلفة.

فنرى الشخصيات نفسها كأطفال صغار وكبار في السن، ونسمع الصدمات التي تتردد أصداؤها عبر الأجيال. منذ الوهلة الأولى قد يكون من الصعب فهم كيفية ارتباط كل شخص بالآخر.

وفي بعض النواحي، يُذكرنا فيلم "صوت السقوط" بروايةٍ أكثر من كونه فيلماً تقليدياً، لكن شيلينسكي تستحضر مؤثرات آسرة وغامرة لا تُتاح إلا على الشاشة الكبيرة.

قال دامون وايز عن الفيلم في موقع ديدلاين: "السينما كلمة صغيرة للغاية بالنسبة لما حققته هذه الملحمة الممتدة والحميمة في تألقها المذهل والمزعج". إنسَ مهرجان كان، وانسَ المسابقة، وانسَ العام بأكمله، حتى، يبقى فيلم "صوت السقوط" فيلم لا يُنسى.

3. بيليون

يمكن القول إنه لم يكن هناك فيلم آخر هذا العام يحمل فكرة أكثر إثارة من فيلم "بيليون" البريطاني الذي يحكي قصة حب بين رجلين من مجتمع ميم، ويلعب دور البطولة فيه نجم هوليوود، ألكسندر سكارسجارد، في دور راي، وهو سائق دراجات نارية يرتدي ملابس جلدية ويعيش في ضواحي لندن، يقع في غرام مفتش مواقف سيارات لطيف يدعى كولين، والذي يؤدي دوره نجم فيلم هاري بوتر، هاري ميلينغ.

الفيلم نفسه لم يكن مجرد استفزاز، بل قدّم استقصاء دقيقاً ومُثيراً للإعجاب في مثل هذه العلاقة. في البداية، مع انزلاق كولين، قليل الخبرة والمهووس، إلى عالم جديد كلياً من التجاوزات الجنسية. كما يبدو الفيلم وكأنه ينتمي إلى عالم الكوميديا البريطانية الكلاسيكية بنبرته الغريبة والهزلية، على الرغم من موضوعه الذي يتجاوز الحدود.

لكنه يزداد قتامة مع مرور الوقت، تاركاً الجمهور يتأمل فيما إذا كان هذا التمثيل المُهين يُعدّ إساءة عاطفية بحتة. وتصل الأحداث إلى ذروتها بمشهد غداء مُثير ومؤلم، عندما تواجه والدة كولين (الممثلة ليزلي شارب، الرائعة) راي بشأن معاملته الفظة لابنها.

وقد وجد بعض النقاد، مثل ديفيد روني من مجلة هوليوود ريبورتر، الفيلم "لطيفاً على نحو غير متوقع"، مع أنني وجدته أكثر إزعاجاً من ذلك بكثير - ربما إشارة إلى نوع الآراء المنقسمة التي قد يُثيرها عند عرضه على عامة الناس.

4. إدينغتون

يُعد فيلم إدينغتون، فيلم إثارة كوميدي فوضوي وجامح، أخرجه آري أستر، مخرج فيلمي "وراثية" و"ميدسمار"، وشارك في بطولته خواكين فينيكس، بدور عمدة بلدة صغيرة مُتخاذل يتخيل نفسه بطلاً صريحاً في قصته، لكنه قد يكون مجرد شريرها الماكر والبغيض.

وتدور أحداث الفيلم في مدينة نيو مكسيكو الأمريكية عام 2020. ويسخر أستر بشكل يائس من ردود فعل الأمريكيين تجاه جائحة كوفيد-19، وحركة "حياة السود".

شكّلت الاحتجاجات التي انطلقت من الولايات المتحدة تحت شعار "حياة السود مهمة"، إلى جانب الأحداث التي ميّزت ذلك العام الغريب، خلفية جعلت من هذا الفيلم واحداً من أبرز الأفلام الأمريكية القليلة التي تناولت ذلك الكمّ الكبير من القضايا السياسية المعاصرة المثيرة للجدل.

ويشارك بيدرو باسكال وإيما ستون وأوستن بتلر في بطولة ما وصفته صوفي مونكس كوفمان من صحيفة الإندبندنت بأنه "أكثر أفلام أستر إضحاكاً حتى الآن". وكتبت أن إدينغتون، "المُراقب جيداً"، "يتمتع برؤية شاملة تُظهر أن الغرب المتوحش لا يزال موجوداً على أرض الواقع وعلى الإنترنت، ولديه نظرة ثاقبة للأشخاص الذين نشأوا في بيئة رملية مُحاطة بالجبال، ووحيدة".

5. العميل السري

كان فيلم الإثارة البرازيلي لعام 1977 للمخرج كليبر ميندونسا فيلهو، والذي تدور أحداثه في البرازيل، والذي يروي قصة رجل هارب، من الأفلام المرشحة للفوز بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان.

وبالنظر إلى المستقبل، يبدو من المرجح أن يسير على خطى فيلم "ما زلت هنا"، وهو فيلم آخر تدور أحداثه في ظل الديكتاتورية البرازيلية التي سادت في سبعينيات القرن الماضي، والذي فاز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولي في حفل توزيع جوائز الأوسكار لعام 2025.

مدة فيلم "العميل السري" ساعتين وأربعين دقيقة، ويستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تبدأ مطاردة أخيرة مثيرة ودموية، ثم خاتمة مؤثرة تُحاكي فيلم "ما زلت هنا" في تأملاته حول إرث هذه الفترة المضطربة في تاريخ البرازيل.

ويؤدي فاغنر مورا دور البطل المتعاطف، مارسيلو، بأداء كاريزمي يؤهله للترشّح لجوائز التمثيل مع حلول موسم الجوائز.

في تقييمه ذي الخمس نجوم، يقول بيتر برادشو من صحيفة الغارديان: "فيلم العميل السري لا يستند إلى دوافع أفلام الإثارة التقليدية، بل إن توقّع مثل هذه الدوافع قد يدفع المشاهد إلى نفاد الصبر. إنه أقرب إلى الرواية، إذ يُجسّد الشخصية، ويُبرز أداء مورا المُعقد والمُثير للتعاطف، ولكنه يُمثّل أيضاً منصة لصناعة أفلام مُثيرة ومُبهرة".

6. القيمة العاطفية

حقق فيلم "أسوأ شخص في العالم" للمخرج خواكين ترير نجاحاً باهراً في مهرجان كان السينمائي عام 2021، ورُشّح لجائزتي أوسكار. والآن، يعود المخرج النرويجي بدراما كوميدية أخرى ثاقبة تدور أحداثها في أوسلو، مع النجمة اللامعة نفسها، رينات رينسفي.

في فيلم "القيمة العاطفية"، تُجسّد رينسفي دور ممثلة مسرحية وتلفزيونية شهيرة. والدها، المُتمركز حول ذاته بشكلٍ مُزعج، والذي يُجسّده الممثل ستيلان سكارسجارد، مُخرج سينمائيٌ بارز، لكنه لم يتمكن من جمع التمويل لمشروع جديد منذ 15 عاماً. فهل لهذا السبب كتب سيناريو خصيصاً لابنته الشهيرة؟ أم أن الفيلم المقترح محاولة صادقة لحل المشاكل بينهما؟

قال تيم غريرسون في مجلة سكرين إنترناشونال: "قد يتطرق الفيلم ظاهرياً إلى الموضوع المألوف، وهو كيف يستقي الفنانون من حياتهم الخاصة، لكن ريناتي راينسفي وستيلان سكارسجارد يُضفيان رقة لا تُضاهى على قصة تدور في جوهرها حول ما لا يقوله الأطفال والآباء لبعضهم البعض".

7. سيرات

على الرغم من جميع المشاريع التي تضم مواهب كبيرة، فإن إحدى متع مهرجان كان الحقيقية هي أن الأفلام التي شاركت في المهرجان بأسماء لامعة نسبياً، تُنهي المهرجان كنقاط نقاش رئيسية، بفضل تألقها الجريء والمُذهل.

هذا ما حدث هذا العام مع فيلم سيرات؛ أول فيلم للمخرج الإسباني أوليفر لاكس في المسابقة الرئيسية، والذي ترك الجمهور في حالة من النشوة والتوتر، حتى مع محاولتهم شرح محتواه.

تبدأ القصة بحفلة صاخبة في الصحراء المغربية، تُضفي تفاصيلها المتسارعة طابعاً مائلاً إلى التشويق، وتركز على أب يبحث عن ابنته المفقودة.

ومع وصول قوات عسكرية لتفريق التجمع، يُضاف عنصر كارثي إلى القصة، قبل أن تتحول إلى فيلم طريق مؤثر، حيث ينضم الأب وابنه الصغير إلى مجموعة من المتلذذين يقودون سياراتهم عبر الجبال في طريقهم إلى حدث آخر.

لكن سلسلة من التقلبات الصادمة تُغير كل شيء، مُحوّلة إياه إلى دراما وجودية، ذات طابع كوميدي أسود، تجمع بين ماكس المجنون وصمويل بيكيت - أو كما وصفتها جيسيكا كيانغ في مجلة فارايتي، "رؤية غريبة ببراعة، جاهزة للظهور في عالم الطوائف، للنفسية البشرية التي اختُبرت إلى أقصى حدودها".

وبفضل تصميمه الصوتي المذهل ذي النكهة التقنية والتصوير السينمائي المذهل للمناظر الطبيعية القاحلة في شمال إفريقيا، تجدر الإشارة إلى أن هذا الفيلم هو الأكثر روعة بين الأفلام المشاركة في دورة هذا العام - هذا، بالإضافة إلى عامل الصدمة، ما قد يجعله فيلماً مُثيراً للدهشة يتجاوز دائرة المهرجانات.

8. التسلسل الزمني للماء

منذ أن حققت كريستين ستيوارت نجاحاً باهراً بفيلمها "الشفق"، اتخذت المخرجة خيارات ذكية وجريئة في مسيرتها المهنية، متجنبة إلى حد كبير الأفلام الضخمة، مُفضّلة مشاريع فنية جريئة ومبتكرة. لذا، ليس من المُستغرب حقاَ أن يكون فيلمها الأول، الذي أخرجته، عملاَ مؤثرا للغاية، باستكشافه للأنوثة والصدمات، مُميزاَ إياها كمخرجة ذات رؤية واقعية.

الفيلم، المُقتبس من مذكرات الكاتبة ليديا يوكنافيتش - التي تُجسد دورها الممثلة إيموجين بوتس المُتألقة والجريئة - يروي قصة مؤثرة عن كفاحها لمعالجة ألمها من خلال الفن، مُتناولاَ طفولتها المُسيئة، ومعاركها مع المخدرات، وفاجعة ولادة جنين ميتا، من بين أمور أخرى.

إلا أن الفيلم، كما يُشير العنوان، لا يتبع الترتيب السردي التقليدي، بل تحاول ستيوارت أن تُغمرنا في وعي يوكنافيتش من خلال مجموعة مُجزأة من الصور ولحظات الحياة. كما يقول ديفيد فير في مجلة رولينغ ستون، فإن النتيجة "جذرية، مؤثرة، وعدوانية في صدقها" - حتى وإن كنت تتمنى أحياناً لو سمح ستيوارت بعرض بعض المشاهد التقليدية، لتقدير أداء الممثلين المساعدين بشكل أفضل، لا سيما ثورا بيرش بدور شقيقة يوكنافيت، وجيم بيلوشي بدور مرشدها، ومؤلف رواية "طار فوق عش الوقواق" كين كيسي.

لكن الانطباع القوي له يعني أنه من الأفلام التي تبقى عالقة في ذهنك وتطاردك حتى بعد انتهاء الفيلم - ولهذا السبب، بالإضافة إلى شعبية مخرجها، قد تجذب قاعدة جماهيرية وفية.

9. أورشين

كان من بين مواضيع مهرجان هذا العام تسليط الضوء على الأفلام التي حظيت باستحسان واسع، والتي قام بإنجازها ممثلون قرروا خوض تجربة الكتابة والإخراج بأنفسهم.

إلى جانب سكارليت جوهانسون وكريستين ستيوارت، ظهر هاريس ديكنسون لأول مرة خلف الكاميرا في فيلم "أورشين"، وهو دراما كوميدية حادة وذكية تدور حول شاب من الطبقة المتوسطة (فرانك ديلان) مدمن مخدرات بلا مأوى منذ سنوات.

يُعد الفيلم جريئاً، إذ لا يحاول أن يجعل بطله محبوباً، ولا يشرح كيف انتهى المطاف بشخص من بيئة ميسورة الحال في الشوارع. عادة ما يكون ديكنسون مبهراً عندما يظهر بنفسه في بعض المشاهد، لكن فيلم أورشين يُشير إلى أنه قادر على الإخراج والتمثيل من الآن فصاعداً.

يقول ديفيد روني في مجلة هوليوود ريبورتر: "يبدو أن أدواره السابقة كانت بمثابة مدرسة سينمائية غير رسمية، ما مكّنه من معالجة موضوع شائع جداً بطرق مدروسة ومميزة، ومستقاة بوضوح من دراسة دقيقة لعالم شديد الخصوصية".

10. ظل والدي

قد يكون مهرجان كان السينمائي المنصة الأبرز للسينما العالمية ككل، ولكن ليس كل جزء من العالم مُمَثَّل بالتساوي - ومن المُفاجئ أن تكون دورة هذا العام هي الأولى على الإطلاق التي تستضيف فيلماً نيجيرياً ضمن اختياراتها الرسمية. ومع ذلك، فبعد التأثير الذي أحدثه فيلم "ظل والدي" على مهرجان كان السينمائي، يُؤمل أن نرى المزيد من الأفلام النيجيرية تحذو حذوه في السنوات القادمة.

فقد لاقى فيلم أكينولا ديفيز جونيور، أول فيلم روائي طويل له، استحساناً عالمياً، مُقدماً تصويراً جميلاً ومؤثراً لذكريات الطفولة، في لحظة فاصلة من تاريخ البلاد في أوائل التسعينيات.

يُركز الفيلم على صبيين صغيرين، يصحبهما والدهما الحبيب فولارين (سوبي ديريسو) الغائب كثيراً في رحلة إلى العاصمة النيجيرية لاغوس - في نفس اليوم الذي ستُجرى فيه أول انتخابات ديمقراطية في البلاد منذ عشر سنوات لاختيار رئيس جديد.

وعلى الرغم من أن ما يلي هو صورة نابضة بالحياة، غنية بالتفاصيل، إلا أن النهاية حزينة للغاية لأب وطفليه يستمتعان بوقت ثمين معاً وسط مجتمع على حافة الهاوية.

وكما قال تيم روبي من صحيفة التلغراف في تقييمة ذي الخمس نجوم: "الفيلم سريع وساحر، يجسد جوانب كثيرة من الحياة بإيجاز في يوم واحد. إنه يحلم بمستقبل - للوطن والعائلة - وينعى سرقة ما كان يمكن أن يكون".

11. الموجة الجديدة

يُقدم ريتشارد لينكليتر في فيلمه تحية للمخرج جان لوك غودار، وهي نظرة خاطفة على كواليس تصوير فيلم الجريمة الكلاسيكي لغودار "لاهث" (À bout de souffle) عام 1960. ورسالة حب إلى السينما الفرنسية، ومجموعة كُتّاب "كاييه دو سينما"، و"الموجة الجديدة" الثورية في ستينيات القرن الماضي.

كان من الممكن أن يُصمّم فيلم لينكليتر خصيصاً لمهرجان كان السينمائي - حتى أنه تضمن بعض النكات الداخلية في كان التي أثارت سخرية مُفرطةً خلال العروض. لكن فيلم لينكليتر كان عبارة عن حلوى خفيفة، لكنها مُنفّذة ببراعة - بدءاً من اختيار الممثلين الرائعين (غيوم ماربيك في دور غودار، وأوبري دولين في دور جان بول بلموندو، وزوي دوتش في دور جان سيبرغ) وصولاً إلى موسيقاه الجازية النابضة بالحياة.

كتب بن كرول في مجلة ذا راب "عملٌ نابعٌ من الحب ونتاجٌ لمهارة عالية، الفيلم أكثر من مجرد هدية للموجة الجديدة الفرنسية. الفيلم أيضاً استعراض خفي لمخرج نادراً ما يُشاد به (أو يُحاكم) لدقّته التقنية".

12. كان مجرد حادث

هذا هو الفلم الذي قنص مخرجه جائزة السعفة الذهبية مع ختام فعاليات مهرجان كان السينمائي لعام 2025، فبالنسبة لعشاق السينما، كان حضور المخرج الإيراني جعفر بناهي أحد أهم أحداث المهرجان.

في الماضي، منع النظام الإيراني المخرج المحبوب من صناعة الأفلام والسفر، لذا كان حضوره في المهرجان، إضافة إلى إحضاره فيلماً جديداً رائعاً، مدعاة للاحتفال.

"كان مجرد حادث" فيلم إثارة ساخر عن انتقام، تدور أحداثه حول مجموعة من المواطنين العاديين الذين يعتقدون أنهم عثروا على المحقق الذي عذبهم في السجن، لكنهم غير متأكدين من أنهم عثروا على الشخص المناسب. الفيلم مُغذّى بالغضب من وحشية النظام الديكتاتوري في إيران، ولكنه في الوقت نفسه إنساني ومضحك بشكل عجيب.

قال بيتر برادشو في صحيفة الغارديان: "إنه فيلم آخر مثير للإعجاب، يجمع بين الجدية والكوميديا، من أحد أبرز الشخصيات وأكثرها شجاعة في السينما العالمية".

 

الـ BBC العربية في

26.05.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004