ملفات خاصة

 
 
 

أوسكار 2025

نديم جرجوره

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

(أوسكار 97)

   
 
 
 
 
 
 

مسألتان أساسيتان تلفتان انتباهاً في النسخة الـ97 لجوائز "أوسكار" (الثاني من مارس/آذار 2025): منافسةٌ حادّة بين فيلمي "إيمليا بيريز" للفرنسي جاك أوديار و"أنورا" للأميركي شون بايكر، بعد أشهرٍ على منافسة أولى حاصلةٍ في مسابقة الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كان" السينمائي، ونيلُ "لا أرض أخرى"، للفلسطيني باسل عدرا والإسرائيلي يوفال أبراهام، بالتعاون مع الفلسطيني حمدان بلال والإسرائيلية راحِل تسور (العربي الجديد، 15 يوليو/تموز 2024)، "أوسكار" أفضل فيلم وثائقي طويل.

أهمية هاتين المسألتين، سينمائياً وأخلاقياً، كامنةٌ في أنّ مناخاً يُسيطر على "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها"، مانحة الجوائز، يميل، وإنْ بمواربة تُطلق إشارات بدلاً من المواجهة المباشرة، إلى مناكفة الرئيس دونالد ترامب، العائد إلى البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني 2025. فـ"إيمليا بيريز" يضع في واجهة المشهد زعيم كارتل مكسيكي (تجارة المخدّرات) متحوِّل جنسياً، و"لا أرض أخرى" ينقل وقائع فلسطينية حيّة، تعكس منهجاً إسرائيلياً في التدمير والطرد والتغييب والنهب، قبل أنْ تبدأ حرب إبادة جديدة في غزة، رداً على "طوفان الأقصى" (السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023)، أمّا "أنورا"، فيروي حكاية راقصة تعرٍّ تقترن بابن أوليغارشي روسي، ما يستدعي نزاعات عائلية صاخبة.

يمسّ الموضوعان الأولان (شخصية المتحوّل جنسياً، وحكايات أبناء "مسافر يطا" في محافظة الخليل، جنوبي الضفّة الغربية) حساسية رئيس أميركي غير مُتوازن في سلوكه القياديّ، ولديه آراء رافضة للتحوّل والمثلية الجنسيَّين، وللمكسيك ومهاجريها إلى بلده، ولفلسطين التي يرغب في تحويل قطاع غزة فيها إلى ريفييرا. بينما يُصيب "أنورا" وتراً في تلك الحساسية أيضاً، لارتباطه بالأولغارشية الروسية، وعلاقتها بفلاديمير بوتين، في لحظة انفتاح ترامبيّ عليه.

سينمائياً، يتمكّن أنورا" من نيل خمس جوائز من أصل ستة ترشيحات، ما يعني "انتصاراً" على "إيمليا بيريز"، الفائز بجائزتين فقط من 13 ترشيحاً. هذا يُذكِّر قليلاً بالحاصل في مهرجان "كان"، إذْ يُمنح "أنورا" السعفة الذهبية، بينما ينال "إيمليا بيريز" جائزتي لجنة التحكيم، والتمثيل النسائي لممثلاته الأربع: زوي سالدانا (الحائزة على "أوسكار" أفضل ممثلة في دور ثان) وكارلا صوفيا غاسكن (أول ممثلة متحوّلة جنسياً تُرشَّح لـ"أوسكار" أفضل ممثلة) وسلنا غوميز وأدريانا باز.

في حفلة "أوسكار"، يغلب "أنورا" فيلمي "الوحشي (The Brutalist)" لبرادي كوربت و"شرير ـ الجزء الأول (Wicked – Part One)" للأميركي جون أم. تشو، المُرشَّح كلّ واحدٍ منهما لعشر جوائز، فيفوز الأول بثلاثة تماثيل في فئات أفضل ممثل لأدريان بردوي، بعد 23 عاماً على نيله إياها عن دوره في "عازف البيانو" (2002) لرومان بولانسكي، وأفضل تصوير للوي كراولاي، وأفضل موسيقى تصويرية لدانييل بلومبَرغ، بينما ينال الثاني جائزتين فقط في فئتي أفضل ديكور لناثن كراولي ولي ساندلس، وأفضل أزياء لبول تِزْوال.

أهذا قدر أدريان برودي، أنْ يفوز بجائزتي "أوسكار" أفضل ممثل، عن دورين في فيلمين يتناولان الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) والمحرقة النازية ضد اليهود؟ ربما. فبرودي يؤدّي، في فيلم كوربِت، شخصية يهوديّ مجريّ ناجٍ من المحرقة نفسها، يُدعى لاسلو توت. بينما في رائعة بولانسكي، يؤدّي شخصية فلاديسْلاف شيبلمان، عازف البيانو اليهوديّ البولندي، في الفترة نفسها. لكنْ، ربما يكون لبراعته في التمثيل دورٌ في نيله هاتين الجائزتين، علماً أنّ سيرته السينمائية حافلةٌ بأدوار لافتة للانتباه، لحساسية وعمق في البنى النفسية والانفعالية والاجتماعية والثقافية والتربوية للشخصيات السينمائية.

من جهته، ينتمي Wicked إلى الأفلام الموسيقية، وسيكون أول حلقة من اثنتين مُقتبستَين عن الكوميديا الموسيقية ذات العنوان نفسه (2003)، لستفن شوارتز وويني هولزمان: إلفابا شابّة يسخر الناس منها بسبب بشرتها الخضراء، وغاليندا فتاة مشهورة، تصبحان صديقتين في جامعة "شيز" في أرض "أوز". بعد لقاء مع ساحر أوز الرائع، تصل صداقتهما إلى مفترق طرق.

"أنورا" غير مكتفٍ بـ"أوسكار" أفضل فيلم، التي ينالها المنتجان ألكس كوكو وسامنتا كْوان إضافة إلى بايكر منتجاً، الذي يحصل على جوائز أفضل إخراج وأفضل سيناريو أصلي وأفضل مونتاج، بينما أفضل ممثلة تنالها مايكي ماديسن. أمّا "إيمليا بيريز"، فله، إضافة إلى أفضل ممثلة في دور ثانٍ، أفضل أغنية أصلية، بعنوان El Mal (موسيقى كليمان دوكُل وكاميل، اللذين لهما كلماتها أيضاً إلى جاك أوديار نفسه).

في التمثيل أيضاً، هناك أفضل ممثل في دور ثانٍ: كيران كولكن، عن دوره في "ألم حقيقي (A Real Pain)" لجيسي أيزنبرغ. رغم أنّ زيارتهما إلى بولندا منبثقة من وفاة جدّتهما، يغوض الشقيقان ديفيد وبنجي في تاريخٍ وحكاياتٍ ومفاصل، مع ضرورة تناول المحرقة أيضاً، زمن الحرب العالمية الثانية. أمّا أفضل سيناريو مقتبس، فيناله بيتر سْترانغ عن اقتباسه رواية روبرت هاريس، "اجتماع سرّي (Conclave)"، الصادرة عام 2016، قبل أنْ تُصبح فيلماً بالعنوان نفسه، لإدوارد بيرغر: لانتخاب بابا جديد للفاتيكان، يحصل اجتماع مغلق للكرادلة، فتظهر تحدّيات جمّة، أبرزها نزاع بين توجّهين يتناقض أحدهما مع الآخر: انفتاح وتشدّد.

إلى هذا كلّه، هناك جوائز أخرى أيضاً: أفضل ماكياج وتصفيف شعر لبيار ـ أوليفر بيرسن وستفاني غيّون وماريلين سكارسيلّي عن عملهم في "المادة (The Substance)" لكورالي فارغِت، وأفضل صوت لغاريث جون وريتشارد كينغ ورون بارتلِت ودوغ هامفيل عن عملهم في الجزء الثاني من "كثيب (Dune – Part Two)" لدوني فيلنوف، والفيلم نفسه يحصل على جائزة أفضل مؤثّرات بصرية، لبول لامبرت وستيفن جابيمس وريس سالكومب وغيرد نِفْزر.

أفضل فيلم دولي: "أنا ما زلت هنا" للبرازيلي والتر سالس. أفضل فيلم تحريك: "تدفق (Flow)" لينْت زلبالوديس وماتيس كازا. أفضل وثائقي قصير: "الفتاة الوحيدة في الأوركسترا" لمولي أوبراين وليزا ريمنغتن. أفضل روائي قصير: "أنا لستُ روبوت" لفكتوريا ورمردام وترنت. أفضل تحريك قصير: "في ظلال سيبريس" لشيرين سوهاني وحسين مولايمي.

 

####

 

"لا أرض أخرى"... لحظة غاضبة في شارع دولة الاحتلال

بيروت حمود

95 دقيقة وثقت معاناة قرية مسافر يطا جنوبي مدينة الخليل في الضفة الغربية المحتلة، ومواجهة سكانها الفلسطينيين ممارسات الاحتلال الإسرائيلي ومستوطنيه، وفي مقدمة ذلك فرض تهجير أهلها قسراً. الحديث هُنا عن فيلم "لا أرض أخرى" الذي فاز فجر أمس بجائزة الأوسكار 2025 لأفضل فيلم وثائقي.

"لا أرض أخرى" من إنتاج فلسطيني- نرويجي. سلاحه الوحيد عدسةُ الكاميرا. تولى إخراجه الفلسطينيان باسل عدرا وحمدان بلال، والإسرائيليان يوفال أبراهام وراحيل تسور. لعل هذه الشراكة كانت وراء موجة الغضب الإسرائيلي الذي طاول الفيلم، بصفته "لائحة اتهام سينمائية ضد الاحتلال الإسرائيلي"، كما عُنونت مقالة أوردها موقع واينت، في قراءة نقدية للوثائقي.

الغضب تفاقم كون "لا أرض أخرى" أتى في وقتٍ تواجه فيه إسرائيل تراجعاً في مكانتها على الساحة الدولية، إذ تخوض حرباً دعائية لاسترداد شرعيتها التي انخفض رصيدها لأدنى مستوى بعد عام ونصف العام من إيغالها في إبادة الشعب الفلسطيني وقهره؛ فالإدانة هذه المرّة أتت متّسقة مع "شهد شاهدٌ من أهله"، باعتبار المخرج، يوفال أبراهام، هو جندي سابق في جيش الاحتلال عُيّن لدى انضمامه إلى شعبة المخابرات، قبل أن ينسحب لأسباب ضميرية وشخصية، وينشغل في كتابة التحقيقات الاستقصائية التي فضحت جرائم الاحتلال، خصوصاً في موقع سيحاة مكوميت (حديث محلي)، ومجلة +972.

على أن أبراهام نفسه، الذي ينحدر من جدٍ يهودي ذي أصول يمنية، روّج مع اندلاع الحرب لمزاعم بارتكاب عناصر كتائب القسام "جرائم جنسية" خلال عملية طوفان الأقصى، ودعا إلى تدمير الحركة والقضاء عليها، ما شكّل أساساً أحد التبريرات الرئيسية التي استند إليها جيش الاحتلال لشروعه في إبادة للفلسطينيين.

ماضيه ومواقفه، لم يشفعا له ولم يقنعا الغاضبين الإسرائيليين بالنظر إلى الحقيقة الماثلة أمامهم؛ إذ وصف وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي، ميكي زوهار، فوز "لا أرض أخرى" بالأوسكار بـ"اللحظة الحزينة لعالم السينما"، معتبراً أنه "بدلاً من تقديم تعقيدات واقعنا، اختار صُنّاع الفيلم ترديد روايات تشوه صورة إسرائيل في العالم". ورأى أن "حرية التعبير قيمة مهمة، غير أن تحويل التشهير بإسرائيل إلى أداة للترويج دولياً ليس إبداعاً، بل تخريب بحق دولة إسرائيل، وخاصة بعد مذبحة السابع من أكتوبر، والحرب المستمرة؛ حيث يصبح الألم مضاعفاً".

أضاف الوزير الإسرائيلي في تغريدة نشرها على صفحته في "إكس" أنه "لهذا السبب بالضبط دفعنا بإصلاحات في السينما، حتّى نضمن توجيه الموارد العامة إلى الأعمال التي تخاطب الجمهور الإسرائيلي، وليس إلى صناعة تجعل من تشويه سمعة البلاد في المهرجانات الأجنبية مهنة لها".

من جهتها، اعتبرت القناة 14 اليمينية، الأكثر قرباً لخطاب حكومة الاحتلال، أن "لا أرض أخرى" يختصر جيش الاحتلال بكونه "يقود حملات قتلٍ وهدمٍ، بينما في الواقع فإن السكان الفلسطينيين هم من اقتحموا أرضاً إسرائيلية مصنّفة منطقة تدريبات عسكرية للجيش"، مستندةً بذلك إلى قرار المحكمة العليا الإسرائيلية الذي قضى بأن على "الجيش تهجير القرية لمتابعة تدريباته التي تضررت بشدة".

يُقدّم "لا أرض أخرى"الذي أثار غضب المستوطنين، إسرائيل، وفقاً للقناة، على أنها "تمارس انتهاكات وإيذاء ممنهجاً ضدّ القرويين الذين عاشوا على أرضهم التاريخية لأجيال عديدة"، مشيرةً إلى أنه وفقاً لصناع الفيلم فإن "جنود الجيش والمستوطنين استغلوا الحرب لشن حملات قتل وإطلاق نار وتهديد". وبالرغم من أن هذه أرض فلسطينية خالصة، ادعت القناة أن جيش الاحتلال قد أعلنها "منطقة إطلاق نار وتدريبات فقط في أوائل الثمانينيات بعدما تأكد خلوها من السكان، الذين شيّدوا فيها منشآت من دون تصريح"، ما أثر بحسبها على اعتباراته الأمنية وتدريباته.

الفيلم الذي يحكي قصة عائلة من المنطقة، اتهمته القناة بأنه يعرض "صورة ورواية أحادية الجانب للتهجير والاحتلال، مصوّراً جنود الجيش والمستوطنين مجرمين"؛ إذ "تجاهل صناع الفيلم تماماً الحقائق والوقائع التي تضر بصورة أبطال القصة أنفسهم، بما في ذلك حقيقة أن مصدر رزقهم هو محطة وقود غير قانونية لا تطابق المعايير البيئية، فضلاً عن التورط غير القانوني لجهات أجنبية، بقيادة الاتحاد الأوروبي، في تمويل وتوجيه البناء في المنطقة في انتهاك لاتفاقيات أوسلو والقانون الإسرائيلي".

بدوره، اعتبر المدير التنفيذي لحركة ريغافيم الاستيطانية، مائير دويتش، "لا أرض أخرى" بأنه "دعاية تخدم الرواية الفلسطينية الكاذبة؛ فيسعى إلى تقويض شرعية دولة إسرائيل على الساحة الدولية". واتهم صنّاعَه بأنهم يسعون إلى "التسبب في مقاطعة مقاتلي الجيش وفرض عقوبات عليهم، بصفته يقدّم خدمة للفلسطينيين ومؤيديهم الذين يسعون إلى تعزيز الخطوات السياسية والقانونية ضد إسرائيل؛ إذ يقدم حكم القانون في إسرائيل باعتباره غير شرعي مضراً بذلك في قدرة إسرائيل على الحفاظ على النظام وإنفاذ القانون في يهودا والسامرة (الاسم التوراتي للضفة الغربية)".

أضاف دويتش أنه "لا يجوز لدولة إسرائيل التخلي عن الساحة الدعائية، ويجب عليها أن تقدم الحقيقة التاريخية للعالم. وفي الوقت نفسه، عليها حظر دخول العناصر الفوضوية الأجنبية إلى إسرائيل والتي تعمل في يهودا والسامرة للتسبب الاضطرابات في المنطقة، لأنه في الحقيقة لا توجد أرض أخرى".

في هذا السياق، هاجم رئيس المجلس الإقليمي لمستوطنات جبل الخليل، إيليرام أزولاي، الفيلم: "نحن الذين نعيش في المنطقة نعرف الحقيقة: الدعاية والأكاذيب ذاتها، مثل دعاية حماس التي تحاول تصوير العرب بأنهم فقراء جرى احتلالهم، في حين أن الهدف كله هو إنشاء دولة فلسطينية بحكم الأمر الواقع من خلال التضييق على المستوطنات؛ وذلك في وقتٍ يتحرك فيه الفوضويون من حولهم للحصول على صور جيدة للدعاية الفلسطينية".

أزولاي دعا وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، إلى المساعدة في عملية تهجير الفلسطينيين و"إخلاء جميع المباني غير القانونية فوراً"، معتبراً أنه "لا توقيت أفضل من الآن لفعل ذلك". وأشار إلى أن الساحة الدعائية تتطلب توفير موارد حكومية "لإظهار الحقيقة البسيطة المتمثلة في أنهم يريدون طرد جميع اليهود من جبل الخليل، تماماً كما هو الحال في أي مكان آخر في إسرائيل".

 

####

 

"لا أرض أخرى" يعيد السياسة إلى حفل توزيع جوائز أوسكار

(فرانس برس، أسوشييتد برس)

بين الفوز الكبير لـ"أنورا" وخيبة أمل "إميليا بيريز"، حضرت السياسة وإن بخجل، الأحد، في هوليوود خلال حفلة توزيع جوائز أوسكار بنسختها السابعة والتسعين، بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.

وفي ما يلي بعض من أبرز اللحظات خلال الأمسية:

تلميحات سياسية

لا بد أن أولئك الذين توقعوا هجمات مباشرة ضد دونالد ترامب وصيحات مقاومة بوجه سياساته قد أصيبوا بخيبة أمل. فقد اعتمدت النخبة في هوليوود مقاربة حذرة، ولم تدخل السياسة المشهد في حفلة أوسكار إلا بلمسات صغيرة. ومن بين اللفتات السياسية، استهلال الممثلة داريل هانا كلامها بعبارة "سلافا أوكرانيا" (المجد لأوكرانيا).

وبعد دقائق قليلة، ذكّرت زوي سالدانيا، المولودة في الولايات المتحدة لوالدين من جزيرة الدومينيكان، إثر نيلها جائزة أوسكار أفضل ممثلة بدور ثانوي عن دورها في "إميليا بيريز"، بجدتها "التي جاءت إلى هذا البلد في عام 1961". وأضافت: "أنا فخورة بكوني ابنة والدين مهاجرين أتيا مع أحلامهما وكرامتهما وحبّهما للعمل"، في حين يتوعّد دونالد ترامب بطرد ملايين المهاجرين غير الشرعيين الذين يشبّههم بـ"المجرمين"، ويسعى لإسقاط حق الجنسية بالولادة في الولايات المتحدة.

لكنّ أكثر الإيحاءات السياسية في الأمسية وردت على لسان عريف الحفلة، الممثل الكوميدي كونان أوبراين، الذي قال في أحد تعليقاته: "إنها ليلة رائعة بالنسبة لأنورا. فقد فاز بجائزتي أوسكار حتى الساعة. أعتقد أن الأميركيين سعداء برؤية أحدهم يقف أخيرا في وجهِ روسي قوي". وفي هذا الكلام إشارة إلى قصة فيلم المخرج شون بيكر، وأيضا إلى دونالد ترامب وتقاربه مع فلاديمير بوتين، ما يثير مخاوف من التخلي عن أوكرانيا بعد ثلاث سنوات من بدء الغزو الروسي.

أوسكار لفيلم عن تهجير الفلسطينيين

فاز فيلم "نو آذر لاند" (أو "لا أرض أخرى")، الذي يتناول الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، بجائزة أوسكار لأفضل فيلم وثائقي، في إنجاز كبير لهذا العمل ذي الميزانية المتدنية والذي أنجزته مجموعة من الناشطين الإسرائيليين والفلسطينيين.

ودعا الفلسطيني باسل عدرا، الذي شارك في كتابة وإخراج الوثائقي، في كلمة أثناء تسلّم الجائزة، إلى إنهاء "التطهير العرقي" للفلسطينيين، وقال: "أتمنى ألا تُضطر ابنتي أبدا إلى عيش الحياة التي أعيشها، مع كل هذا العنف وتدمير المنازل".

أما زميله الإسرائيلي يوفال أبراهام، المشارك أيضا في إخراج العمل، فقال: "لقد صنعنا هذا الفيلم، فلسطينيون وإسرائيليون، لأن أصواتنا معا أقوى". وأضاف: "عندما أنظر إلى باسل أرى أخي، لكننا لسنا متساويين"، موجها انتقادات للدبلوماسية الأميركية.

كما ظهر الممثل الأسترالي-البريطاني غاي بيرس، نجم فيلم "ذا بروتاليست" (أو "الوحشي")، وهو يرتدي دبوسا يحمل شعار "فلسطين حرة" والذي جاء على شكل حمامة بيضاء وغصن ذهبي

وتحدث بيرس، الذي عبر عن دعمه طوال موسم الجوائز من خلال ارتداء دبابيس متنوعة: "هذا أقل ما يمكننا فعله"، وتابع: "أنا دائما أركز على محاولة الاعتراف بفلسطين ومنحها أكبر قدر ممكن من الدعم لأنها بحاجة ماسة إلى ذلك". يذكر أن إسرائيل أوقفت في وقت سابق من أمس الأحد إدخال جميع المواد الغذائية والإمدادات الإنسانية الأخرى إلى قطاع غزة.

لكن من ناحية أخرى، تجنبت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى حد كبير تناول فيلم "لا أرض أخرى"، واقتصر الأمر على بعض التغطيات المتفرقة في وسائل الإعلام اليسارية في إسرائيل. ويعد هذا تحولا صارخا عما كانت تناله أفلام إسرائيلية أخرى مرشحة لجائزة أوسكار، والتي عادة ما كانت تحظى باشادات كبيرة قبيل حفل توزيع جوائز أوسكار.

ووصف وزير الثقافة والرياضة الإسرائيلي ميكي زوهار فوز الفيلم بجائزة أوسكار لأفضل فيلم وثائقي بـ"اللحظة الحزينة لعالم السينما"، معتبراً أنه "بدلاً من تقديم تعقيدات واقعنا، اختار صُنّاع الفيلم ترديد روايات تشوه صورة إسرائيل في العالم. إن حرية التعبير قيمة مهمة، غير أن تحويل التشهير بإسرائيل إلى أداة للترويج على المستوى الدولي ليس إبداعاً - إنه تخريب بحق دولة إسرائيل، وبعد مذبحة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 والحرب المستمرة، فإن الألم يصبح مضاعفاً". وأضاف أنه لهذا السبب بالضبط "دفعنا بإصلاحلات في السينما، حتّى نضمن توجيه الموارد العامة إلى الأعمال التي تخاطب الجمهور الإسرائيلي، وليس إلى صناعة تجعل من تشويه سمعة البلاد في المهرجانات الأجنبية مهنة لها".

وترى رايا موراج، وهي أستاذة في جامعة القدس العبرية متخصصة في السينما والصدمات النفسية، إن التوقيت حساس للغاية. وأضافت: "الجميع في حالة حداد أو صدمة، ومن الصعب سماع أي صوت آخر حول أي موضوع آخر".

كما واجه فيلم "لا أرض أخرى" الكثير من المعاناة في الولايات المتحدة، وذلك لأنه لم يعثر على أي موزع على الرغم من الإشادات العديدة التي حصل عليها، وفوزه بجائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين السينمائي

صرخة عن "معاناة دور السينما"

أطلق المخرج شون بيكر، الذي حاز فيلمه "أنورا" خمس جوائز أوسكار، صرخة بشأن "معاناة دور السينما". فخلال الجائحة "خسرنا نحو ألف صالة سينما في الولايات المتحدة، وما زلنا نخسر المزيد. إذا لم نعكس هذا الاتجاه، فسنفقد جزءا حيويا من ثقافتنا". وتابع المخرج الذي يُعدّ شخصية بارزة في السينما الأميركية المستقلة: "أين نقع في حب الأفلام؟ في السينما (...) حيث نبكي ونصرخ معا".

وحضّ صانعي الأفلام والموزعين على تفضيل دور السينما على منصات البث التدفقي، قبل التوجه إلى أولياء الأمور بالقو:ل "دعوا أبناءكم يستكشفون الأفلام في السينما".

تكريم عناصر الإطفاء

قبل شهرين، شهدت مدينة لوس أنجليس حرائق وُصفت بالأكثر تدميرا في تاريخها، إذ أودت بحياة 29 شخصا وتسببت بتدمير أكثر من عشرة آلاف منزل. والأحد، كُرّم عناصر الإطفاء في كاليفورنيا الذين تصدّوا للنيران على مدى ثلاثة أسابيع.

وقد اعتلوا المسرح فيما وقف الحاضرون مصفقين لهم، قبل أن يدعو كونان أوبراين "الأبطال" لقراءة بعض النكات المكتوبة على شاشة القراءة أمامهم. وألقى أحدهم: "لتأدية دور بوب ديلان، تعلّم تيموتيه شالاميه الغناء، لكنه غنّى جيدا لدرجة أنه كاد أن يخسر الدور".

 

####

 

أبرز الفائزين في حفل توزيع جوائز أوسكار: أنورا ومسافر يطا

(العربي الجديد، فرانس برس، أسوشييتد برس)

تصدّر فيلم "أنورا" قائمة الفائزين بجوائز أوسكار بدورتها السابعة والتسعين التي أقيمت في لوس أنجليس فجر الأحد، إذ حصد خمس مكافآت، أبرزها في الفئات الرئيسية لأفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل ممثلة. ويدور العمل حول راقصة تعر تقع في غرام ابن أحد رموز الأوليغارشية الروسية. وصعد فريق العمل مع المنتجين أليكس كوكو وسامانتا كوان والمخرج شون بيكر إلى المسرح لتسلم جائزة أفضل فيلم.

وقالت كوان إن الفيلم صنع "بأموال قليلة، وبكل قلوبنا"، بينما قال بيكر، الذي حصل أيضا على جائزة أفضل مخرج: "أريد أن أشكر الأكاديمية على اعترافها بفيلم مستقل حقيقي". وأضاف أن الفيلم صُنع بـ"الدم والعرق والدموع" من قبل فريق العمل.

من جهة ثانية، فاز فيلم No Other Land، للمخرج الفلسطيني باسل عدرا والإسرائيلي يوفال أبراهام، بجائزة أفضل فيلم وثائقي. وكان عدرا قد بدأ عام 2019، وقبل 4 سنوات من بدء حرب الإبادة في قطاع غزة، توثيق التهجير القسري الوحشي الذي عاناه مجتمعه الجبلي في مسافر يطا الفلسطينية من سلطات الاحتلال. وخلال استلامه الجائزة في حفل أوسكار طالب عدرا بوقف "الظلم والتطهير العرقي للفلسطينيين". بينما قال يوفال أبراهام "عندما أنظر إلى باسل، أرى أخي، لكننا غير متساويين. نعيش في نظام حاكم حيث أنا حر بموجب القانون المدني وباسل يخضع للقانون العسكري الذي يدمر حياته ولا يستطيع السيطرة عليه". وأضاف "هناك طريق مختلف. حل سياسي دون تفوق عرقي، مع ضمان الحقوق الوطنية لكلا شعبينا. ولا بد أن أقول في أثناء وجودي هنا إن السياسة الخارجية في هذا البلد تساهم في قطع هذا الطريق".

الفائزون في الفئات الرئيسية لجوائز أوسكار:

أفضل فيلم: "أنورا"

أفضل مخرجشون بيكر (عن أنورا)

أفضل ممثلأدريان برودي (عن ذي بروتاليست)

أفضل ممثلةمايكي ماديسون (عن أنورا)

أفضل ممثل في دور ثانويكيران كالكن (عن إيه ريل باين)

أفضل ممثلة في دور ثانويزوي سالدانيا (عن إميليا بيريز)

أفضل فيلم دولي: "آيم ستيل هير" (البرازيل)

أفضل فيلم رسوم متحركة: "فلو"

أفضل فيلم وثائقي: "نو آذر لاند"

أفضل سيناريو أصليشون بيكر (عن أنورا)

أفضل سيناريو مقتبسبيتر ستروغان (عن كونكلايف)

 

العربي الجديد اللندنية في

03.03.2025

 
 
 
 
 

لا أرض أخرى”.. حينما لا يبقى للفلسطيني سلاح سوى الكاميرا

أمير العمري

في حفل ختام دورة مهرجان برلين السينمائي الـ74، صعد على المنصة شابان هما الفلسطيني باسل عدرا، والإسرائيلي يوفال أبراهام، لاستلام جائزة أفضل فيلم وثائقي طويل في المهرجان. وألقى كل منهما كلمة تطالب بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، كانت لها أصداء قوية فيما بعد، حيث وجهت الاتهامات إلى المهرجان بالسماح بإلقاء كلمات “معادية للسامية”. وقال المخرج الإسرائيلي إنه تلقى تهديدات بالقتل بعد أن أدان سياسة التفرقة العنصرية التي تمارسها إسرائيل.

من التجارب النادرة أن يشارك عدد من السينمائيين الشباب، من فلسطين وإسرائيل معا، في إنجاز فيلم واحد، في التجربة السينمائية الجماعية الجديدة التي تحمل عنوان “لا أرض أخرى” No Other Land وهو الفيلم الذي عرض في قسم “بانوراما” بمهرجان برلين السينمائي الأخير.

هذا الفيلم الوثائقي الطويل (95 دقيقة) هو نتاج عمل استغرق عدة سنوات، جمع، من ناحية، بين المحامي والصحفي الفلسطيني باسل عدرا، والمصور والمزارع الفلسطيني حمدان بلال، ومن ناحية أخرى، الصحفي الاستقصائي الإسرائيلي يوفال أبراهام، والمصورة السينمائية الإسرائيلية راشيل سزور. وقد قام الأربعة بالتصوير والإخراج والمونتاج، كما ظهر معظمهم في الفيلم وإن برز حضور باسل ويوفال، اللذين كان من الواضح وجود علاقة صداقة تجمع بينهما من فترة، إلا أن الفيلم يجسد بوضوح أيضا لحظات التناقض والخلاف فيما بينهما بحكم موقف كل منهما في دولة تقمع الأول، وتتيح الحرية للثاني. وهذا تحديدا كان محور الكلمة التي ألقاها يوفال أبراهام في ختام المهرجان.

صور الفيلم قبل أحداث “طوفان الأقصى”، ولكنه جاء كما لو كان تعليقا على سياسة الهدم والتهجير القسري للفلسطينيين التي ازداد سعارها منذ “طوفان الأقصى”، فالفيلم يتوقف كثيرا أمام قيام الجيش الإسرائيلي بهدم وإزالة منازل الفلسطينيين في عدد من القرى الفلسطينية، في منطقة “مسافر يطا” الواقعة في جنوب الضفة الغربية بالقرب من مدينة الخليل. وقد تعرضت قرى مسافر يطا منذ سنوات، لأكبر عملية قمع وهدم للمنازل، من أجل تهجير السكان الفلسطينيين، تمهيدا لتحويل المنطقة إلى منطقة تدريبات تابعة مباشرة للجيش الإسرائيلي، ثم الاستيلاء على الأرض لبناء مزيد من المستوطنات.

وكانت أوامر السلطات الإسرائيلية بالاستيلاء على المنطقة قد صدرت في عام 1980، إلا أن الطرد القسري لم يبدأ رسميًا إلا بعد أن انتهت محكمة إسرائيلية من نظر الالتماس الذي تقدم به السكان الفلسطينيون في عام 2022. وأيدت المحكمة القرار السابق.

إنه فيلم عن الهدم، عن الإخلاء، وعن القمع اللامحدود الذي يمارس تحت القوة العسكرية الجبرية، وعن الكاميرا وكيف تتحدى وتواجه وتصمد في وجه البطش، وما يتعرض له بشكل مباشر كل من باسل ويوفال، وهما يصران على التصوير، وكيف يتعرضان للمطاردة وخطر الاعتقال، ومصادرة الصور، لكنهما يعودان أكثر إصرارا وتحدياً، ويتمكنان من استعادة جهازي الهاتف المحمول.

يتوقف الفيلم أمام ضحايا “مذبحة” هدم المنازل وإجبار سكانها على المغادرة، من دون أي تعويض بل ومن دون سابق إنذار، ويظهر رجل إسرائيلي ممثل للسلطة المدنية، يرتدي ملابس تجعله يبدو كمهرج، يدعى “إيلان”، يحفظ تاريخ وموقع ومكان كل بيت من بيوت الفلسطينيين في المنطقة، وهو مكلف بتنفيذ قرارات السلطة بإخلائها وهدمها، وعندما يتكلم فهو يتكلم بلسان قوة الاحتلال، ويعتقد أنه يقوم بعمل بطولي، لكن الفيلم يقدمه في سياق ساخر، بنظاراته العاكسة اللامعة، وردائه الرياضي الفضفاض، حتى ليبدو مثل رجال العصابات في الأفلام الأمريكية!

تُستخدم في الفيلم مواد كثيرة قديمة مصورة من قبل باسل ووالده، توثق لعمليات الاعتداء والهدم عبر السنين، وهي المهمة التي يواصل باسل القيام بها اليوم ولكنه لا يبدو متفائلا، فالهدف من التصوير المستمر منذ سنوات هو إطلاع العالم على ما يجري ولفت الأنظار إلى جرائم الاحتلال، لكن باسل يرى أن لا أحد يهتم. ولعل سلبية العالم، تجسدت بشكل أكثر وضوحا مع تواصل العدوان الإسرائيلي على سكان غزة يوميا، والمجازر الموثقة التي ترتكب في حقهم.

ينقسم الفيلم إلى فصول، تتخذ أسماء فصول العام، بداية من صيف 2019 حتى شتاء 2023، مع استمرار محاولات الفلسطينيين العودة وإعادة بناء بيوتهم التي تم تدميرها من جديد، ولكن لكي يتم تدميرها مجددا من دون أدنى اعتبار. وعندما يقفز الفيلم إلى شتاء 2020، نرى كيف يتصدى الفلسطيني هارون أبو عران، للجنود الإسرائيليين الذين يصادرون المولد الكهربائي الصغير الخاص به، فيطلقون عليه الرصاص ويصيبونه في رقبته مما يؤدي إلى إصابته بالشلل فيلجا مع أمه العجوز للعيش في ملجأ بدائي. وتظل أمه ترعاه دون كلل.

الصور حقيقية ومباشرة وصادمة، ومعاناة السكان الفلسطينيين لا تنفصل أو تختلف كثيرا عن معاناة أشقائهم في غزة اليوم، والمقصود من التدمير والهدم والاستبعاد والتهجير، هو أساسا كسر الإرادة، وتكريس اليأس في نفوسهم، إلا أن هذا الهدف لا يتحقق. فالإرادة قوية، والأمل لايزال قائما، اعتمادا على الصمود والمقاومة. فمجرد أننا نشاهد استمرارا لمحاولات الاحتلال كسر الإرادة عبر سنين طويلة دون أن يتوقف السكان الفلسطينيون عن العودة والتجمع والاحتجاج بل وإعادة البناء، هو في حد ذاته دليل على فشل القوة الإسرائيلية في كسر الإرادة.

يكرس “باسل عدرا” نفسه لمتابعة ورصد ما يحدث لأهله، فهو ابن المنطقة، وقد شهد بعينيه منذ أن كان في الخامسة من عمره (باسل من مواليد 1996)، الهدم والتشريد، كما يتذكر اعتقال الشرطة الإسرائيلية لوالده بسبب نشاطه في حماية المنطقة من الهدم والاعتداءات، وتجميع الأهالي وتنظيمهم من أجل مقاومة الاحتلال. وهو يروي لنا بصوته قصة عائلته وخصوصا نضال والده الذي يخشى هو ألا يرتفع الآن إلى مستواه، وأن يصاب باليأس. إنه يرى الأمور بمنظور عقلاني تماما على حين أن زميله الإسرائيلي يوفال أبراهام، يعتقد أنه يمكن أن يحرك العالم بواسطة نشر الصور والشرائط على وسائل التواصل الاجتماعي.

سنعرف أن القرى الفلسطينية في “مسافر يطا”، تعرضت أيضا لهجمات منتظمة من جانب المستوطنين اليهود، الذين ظلوا يمنعون السكان من إعادة التجمع وبناء منازلهم التي تهدمت. وباسل يريد أن يلفت أنظار العالم إلى تلك المأساة المتكررة التي تشمل إلى جانب تدمير المنازل، تدمير الطرق وأنابيب وخزانات مياه الشرب وأنظمة الطاقة الشمسية. وهو يواجه التعنت الإسرائيلي بالكاميرا، وبالتالي يمكن القول إن الكاميرا هي البطل الحقيقي في الفيلم.

ويظهر في الفيلم مجموعة من الصحفيين الأجانب الذين يأتون لتصوير ورصد ما يجري في المنطقة، ولكنهم لا يبدون متعاطفين مع قضية السكان الفلسطينيين، بقدر ما يبحثون عن مادة ساخنة من أجل الاستعراض، وهو ما يدفع السيدة المسنة، والدة هارون أبو عران، إلى إبداء غضبها منهم ومن محاولاتهم الاهتمام بزوايا التصوير أكثر من اهتمامهم بالإنسان وما يقع له.

نحن نرى كيف تستمر محاولات إعادة البناء التي تتم في الليل، ولكن سرعان ما تأتي الجرافات، تزيل ما تم بناؤه. وتستمر الاحتجاجات وتستخدم الشرطة الغاز المسيل للدموع والقسوة المفرطة.

ويتذكر باسل زيارة توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ومبعوث المجموعة الرباعية للشرق الأوسط، إلى المنطقة، عندما كان باسل لايزال طفلا صغيرا، وكيف قضى بلير عدة دقائق فقط يسير بين البيوت محاطا بحراسه، ولم تنجح زيارته سوى في تأجيل هدم بيوت إحدى القرى لبعض الوقت، وهو ما لا جدوى منه، لأن مشروع الهدم مستمر طالما استمر الاحتلال.

وعندما يصل الفيلم إلى عام 2023، نشاهد كيف وصل العنف إلى أقصاه مع اقتحام الجرافات مبنى مدرسة أثناء وجود التلاميذ في داخل الفصول، وكيف لا يجد التلاميذ مفرا سوى القفز من النوافذ للفرار، وهو مشهد يعتبر بأي مقياس نوعا من السوريالية التي تتجاوز أي واقع.

وتيرة التوتر ترتفع مع تصاعد الأحداث، وينقسم أبطال التصوير والعمل المشترك في الرأي وتدور بينهم مناقشات مباشرة تعكس اختلافاتهم في الرأي والرؤية: بلال لا يرى فائدة من التعاون مع أي إسرائيلي بل يتشكك في إمكانية أن يفهم الطرف الآخر، المحنة، كما يتشكك أيضا زميله حمدان بلال، ولكن يوفال أبراهام يصر على إمكانية العمل على إنهاء الاحتلال وأنه سيواصل الوقوف مع الحق الفلسطيني في الاستقلال، وباسل يقول له إن الاحتلال لا يمكن إنهاؤه في بضعة أيام من خلال نشر بعض الصور على مواقع التواصل، وأن الأمر يحتاج إلى نضال طويل، وصبر طويل.

ولكن هناك فرقا، بين الإسرائيلي الذي تتيح له السلطات حرية الحركة والعودة إلى بيته على الجانب الآخر والاستحمام، وبين الفلسطيني الذي يعتقل ويمنع من العبور إلى حيث يوجد منزله، بل ويعتقل أيضا. ولعل هذا الفرق هو ما عبر عنه يوفال أبراهام في ختام مهرجان برلين وهو يقف جنبا إلى جنب مع باسل عدرا، عندما قال: “إننا نقف أمامكم. الآن، نحن في نفس العمر. أنا إسرائيلي وباسل فلسطيني.. وفي غضون يومين، سنعود إلى أرض لسنا فيها متساويين.. فأنا أخضع للقانون المدني؛ وباسل يخضع للقانون العسكري. نحن نعيش على بعد 30 دقيقة من بعضنا البعض، ولكن أنا أتمتع بحق التصويت.  بينما لا يملك باسل هذا الحق. أنا حر في التحرك حيث أريد في هذه الأرض. أما باسل، فهو، مثل ملايين الفلسطينيين، محاصر في الضفة الغربية المحتلة. هذا الفصل العنصري القائم بيننا، يجب أن ينتهي.”

إن فيلم “لا أرض أخرى” يلخص في شجاعة ووضوح رؤية، كيف ترتكب إسرائيل سياسة التفرقة والحرمان والقوة والهدم والتشريد منذ أكثر من 70 عاما، وكيف أن عملية “طوفان الأقصى” لم تنبع من فراغ بل كانت أسبابها قائمة وواضحة أمام أنظار العالم.

نشر هذا المقال في موقع الجزيرة الوثائقية بتاريخ 18 مارس 2024

 

موقع "عين على السينما" في

03.03.2025

 
 
 
 
 

أوسكار 2025.. مبالغات Anora وانتصار "لا أرض أخرى" ونكتة عمال الإطفاء

القاهرة -عصام زكريا*

أن يكتسح فيلم Anora كل هذه الجوائز هو أمر مبالغ فيه، بالرغم من أنه فيلم ممتع وذكي، لكن الطبيعة "الانتخابية" للأوسكار، التي تقضي بانتخاب كل فئة على حدة، وبشكل سري، دون مناقشات أو توازنات كما يحدث في لجان تحكيم المهرجانات، هي طبيعة ظالمة أحياناً

ولا يعني ذلك أن Anora فيلم ضعيف، لكن يعني أن هناك أفلاماً أخرى كانت تستحق بعض الجوائز الإضافية مثل Conclave في المونتاج، و The Brutalist، في الإخراج، و I’m Still Here في التمثيل، بالإضافة إلى خروج أفلام جيدة من السباق بخفي حنين، مثل Complete Unknown.

لكن التصويت السري له إيجابياته على ما يبدو، فلولاه ما فاز الفلسطيني No Other Land بأوسكار أفضل فيلم وثائقي طويل، وهي أهم وأصعب جائزة ينتزعها فيلم هذا العام.

ذلك أنه حتى الآن فشل الفيلم في العثور على موزع له في الولايات المتحدة الأميركية، ربما خوفاً من نفوذ اللوبي الصهيوني، وهو ما يذكرنا بأول جائزة حصدها الفيلم منذ عام كامل في مهرجان برلين، فقد كانت جائزة الجمهور – التي تعتمد على الانتخاب السري أيضاً، وليلة فوزه تفوهت وزيرة الثقافة الألمانية بكلمات غبية، تفيد بأنها صفقت لنصف الفيلم فقط، أي المخرج الإسرائيلي يوفال أبراهام دون شريكه الفلسطيني باسل عدرا!

على أي حال، فإن حصول الفيلم على الأوسكار، والخطبتين العظيمتين اللتين ألقاهما عدرا وإبراهام ضد التهجير والتجريف والإبادة كان أكثر حدث صفق له الحاضرين في حفل الأوسكار، وإذا كان لذلك معنى فهو أن قبضة اللوبي الصهيوني في هوليوود بدأت في الارتعاش!

من أجمل لحظات الأوسكار أيضا حصول فيلم التحريك Flow على الجائزة، متغلبا على كل الأعمال الأميركية الضخمة المنافسة، Flow ليس فقط فيلماً أجنبياً، من لاتفيا، التي تشارك في الأوسكار لأول مرة، ولكنه فيلم مستقل، بدون ميزانية تقريباً، من صنع فنان التحريك جينتس زيبالودس وبعض مساعديه، الذين يعتمدون على استخدام الكمبيوتر فقط.

من اللحظات اللافتة الأخرى فوز فيلم التحريك القصير الإيراني In the Shadow of the Cypress، أو "تحت ظلال شجرة السرو"،  هذا الفيلم الذي عرض لأول مرة في مهرجان الإسماعيلية 2024، حيث حصل على الجائزة الفضية، يعبر عن التطور الذي أحدثه صناع الأفلام الإيرانيين في مجال التحريك، كما أن خطبة صانعيه حسين موليمي، وشيرين سوهاني، حول حصولهما على تأشيرة دخول أميركا قبل ساعات فقط من الحفل، أشارت بشكل غير مباشر إلى الصعوبات التي بدأ يواجهها معظم المسافرين إلى أميركا الآن. وقد حظيت كلمتهما بتحية خاصة، نالتها كلمة زو سالدانا الحاصلة على أوسكار أفضل ممثلة في دور ثانٍ، عندما أشارت إلى والديها المهاجرين من الدومينيكان وبورتو ريكو.

وقبل ختام الحفل، وجّه شون بيكر رسالة قوية دعا فيها إلى دعم دور السينما المستقلة، مشيراً إلى أن "أكثر من 1000 شاشة سينمائية أغلقت في الولايات المتحدة خلال الجائحة، وإذا استمر هذا الاتجاه، سنفقد جزءًا حيوياً من ثقافتنا".

وفيما غلبت الجدية على حفل هذا العام، باستثناء بعض النكات التي أطلقها مقدم الحفل كونان برايان، ربما بفعل المناخ السياسي المتجهم، والكوارث التي ضربت هوليوود مؤخراً، كان من اللافت صعود فريق من رجال الحماية والإنقاذ بشرطة لوس أنجليس، وتوليهم إلقاء النكات بدلا من برايان، ولعل أفضل نكتة ترددت في الحفل هي ما قاله أحد الضباط عن تعاطفه مع المنتجين الذي خربت بيوتهم، ومنهم منتجي فيلم "الجوكر 2"، في إشارة إلى فشل الفيلم الذريع في شباك التذاكر!

* ناقد فني

 

####

 

أوسكار 2025: I’m Still Here.. عن قوة الابتسامة في عز المأساة

القاهرة -عصام زكريا*

يستحق فيلم I’m Still Here للبرازيلي والتر ساليس ذلك التقدير الذي حظي به والجوائز التي حصل عليها بداية بجائزة أفضل سيناريو التي حصل عليها من مهرجان فينيسيا الماضي، ثم الجولدن جلوب والبافتا وآخرها الأوسكار، مروراً بعشرات الجوائز الأخرى، هو واحد من أفضل أفلام العام وأكثرها تأثيراً.

عن سيناريو موريلو هاوزر وهيتور لوريجا المقتبس بدوره عن كتاب Feliz Ano Velho (سنة قديمة سعيدة) لمارسيلو بايفا، يتتبع فيه الكاتب سيرة أمه، أونيسة، عقب اختطاف أبيه وقتله على يد رجال النظام في برازيل السبعينيات، وقيامها بتربية أبناءها بجانب النضال من أجل استعادة حق زوجها المغدور، يبدع المخرج والتر ساليس في صياغة عمل تاريخي سياسي إنساني فذ.

ساليس، 65 سنة، هو أحد علامات السينما البرازيلية، وأكثر من وصل بها إلى العالمية، محققا عشرات الجوائز في "كان" و"فينيسيا" و"برلين" والجولدن جلوب والبافتا، من أشهر أعماله Central Station عام  1998، الذي يستعرض حياة الفقراء في محطة القطار الرئيسية، والذي لعبت بطولته فيرناندا مونتينجرو، أشهر وأعظم ممثلات البرازيل، وهي بالمناسبة والدة فيرناندا توريس بطلة I’m Still Here، والتي تظهر في المشهد الأخير منه، في شخصية أونيس بعد أن صارت عجوزاً!

من أشهر أعمال ساليس أيضا فيلم The Motorcycle Diaries، 2004، الذي يرصد جزءا من حياة تشي جيفارا الشاب. وساليس، بالمناسبة أيضا، كان بين 50 سينمائيا عالميا وقعوا خطابا مفتوحا يطالب بإيقاف النار في غزة نشر في صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية في ديسمبر 2023.

قبل العاصفة

تشير عناوين I’m Still Here الأولى إلى أننا في ريو دي جانيرو، 1970، تحت الحكم العسكري، لكن ما نشاهده بعد ذلك، على مدار نصف ساعة تقريبا، هو الحياة اليومية لعائلة ثرية، مكونة من أب وأم وخمسة أبناء، يقيمون في "فيلا" فاخرة على بعد خطوات من الشاطئ، ويستمتعون بإجازة صيف طويلة، سعيدة، يدعون الأصحاب والمعارف على الغذاء أو العشاء، يسبحون، ويلعبون الطاولة و"الفوسبول"، يستمعون إلى الأغاني عبر جهاز الأسطوانات (البيك أب)، ويلتقطون الصور الفوتوغرافية، أو يصورون أفلاماً عائلية بالكاميرا 8 مللم.. حتى عندما يقوم رجال الأمن باعتراض سيارة تقل البنت الكبرى وأصحابها ويعاملونهم بقسوة، ناعتين إياهم بالـ"هيبيز"، أو عندما تمر سيارة عسكرية تمتلئ بالجنود في شارعهم، لا يبدو أن شيئاً يمكن أن يعكر صفو هذه الحياة البريئة المكتفية بذاتها.

بإيقاع هادئ، وتفاصيل منزلية دقيقة، يستعيد ساليس فترة بداية السبعينيات، بأغانيها وأفلامها وملابسها وأفكارها، الشوارع والسيارات والثقافة والفنون والملابس.

العنف السياسي: عنف الدولة العسكرية والعنف المضاد للجماعات المسلحة من خلال اختطاف السفراء للمطالبة بالإفراج عن سجناء الرأي،  يدخلنا والتر ساليس إلى عالم أسرة "بايفا"، الأب الطيب "روبنز"، عضو الكونجرس السابق، والأم، "يونيس"، التي تدير بيتها وحياة أبناءها الخمسة بحب غير مشروط مقرون بالحزم، الابنة الكبرى التي تستعد للسفر إلى لندن للدراسة، المفتونة بالثقافة الأوروبية: البيتلز، جون لينون، جودار، فيلم "تكبير الصورة" لأنطونيوني، "سايكو" لهيتشكوك، الأغاني الفرنسية الجريئة. الابنة الوسطى، الأكثر تمرداً، والأصغر منها، الأكثر رهافة وهشاشة، والولد الوحيد المدلل، الذي يصطحب إلى البيت كلباً صغيراً لطيفاً وجده على الشاطئ، والصغرى التي تفقد إحدى أسنانها، فيصطحبها الأب إلى الشاطئ لدفن السن (هذه الشعيرة التي نجدها في ثقافات أخرى، مثلما يفعل المصريون حين يلقون السن المخلوعة في الشمس، حتى تطلع محلها "سنة العروسة"، ولكن الأب يستعيد السن من الرمل، لنعرف في مشهد متأخر من الفيلم أنه احتفظ بها داخل علبة كبريت في درج مكتبه.. تفاصيل حميمة دافئة، وممثلين طبيعيين طيبين، كأنهم أسرة فعلاً، وكأننا أصبحنا جزءاً من هذه الأسرة.

ولذلك عندما تأتي المصيبة، التي تتجمع نذرها تدريجياً، مخلفة الترقب والقلق، يشعر المشاهد بالجزع والألم، متماهيا مع الأم وأبناءها. ذات يوم يقتحم رجال أمن يرتدون الملابس المدنية البيت، ويصطحبون الأب إلى مكان مجهول، ويبقى بعضهم داخل البيت، نهاراً وليلاً، على مدار أيام، قبل أن يتم اعتقال الأم وإحدى بناتها، حيث تتعرض الأم لاستجواب قاس، وتسجن في زنزانة بمفردها، لا ترى شيئاً، ولا تسمع سوى صرخات الذي يتعرضون للتعذيب، أو شدو أغنية حزينة يرددها سجين بالزنزانة المجاورة ليلاً.

مولد البطلة

بعد أيام طويلة في الحبس، يفرج عن الأم وإعادتها إلى البيت ليلاً، أول ما تفعله هو أن تستحم، مزيلة طبقات الطين التي تراكمت على جسدها، وتنام.

في الصباح تتحول إلى امرأة أخرى.. الآن زال عنها الخوف، واكتسبت قوة جديدة، وشخصية جديدة، ربما لا تعرف بالضبط ما ستصبح عليه، ولكن خلال الأسابيع والشهور التالية سيكتمل التحول. كل ما تفكر فيه وتسعى إليه الآن هو حماية وتربية أبناءها وإخفاء، أو على الأقل تخفيف الألم عليهم، واستعادة زوجها، أو اعتراف الحكومة بأنها أعدمته، وهو أمر يستوجب منها أن تترك ريو دي جانيرو، وتصطحب العائلة إلى مدينة ساو باولو، مسقط رأسها، حيث تلتحق بالجامعة، لتحصل على شهادة في القانون وعمرها 48 عاما (!) وتواصل النضال من أجل استعادة حقوق المفقودين والمقتولين، إلى أن تتسلم شهادة رسمية بموت زوجها على يد النظام السابق في 1996.

أداء رائع من فيرناندا توريس، كانت تستحق عليه الأوسكار بجدارة، ولعل أهم تحدٍ قامت به هو أن تؤدي هذا الدور المأساوي بعزة نفس وكرامة تمنعها من البكاء في أحلك اللحظات، بل تصر، كمسألة مبدأ، متحدية خصومها، وحتى لا تثير حزن أبناءها، على الابتسام دائما.

ما بين المشهد الذي يصور رد فعلها يوم اقتحام منزلهم وأخذ زوجها: الصوت المبحوح من شدة الخوف، وهي تسأل الرجال الأجلاف بتوسل، "هل يمكن أن أذهب معه؟"، والمشهد الذي تظهر فيه كناشطة من أجل حقوق الإنسان وحقوق السكان الأصليين، مرورا بالمشهد الذي تتخذ فيه قرارها بالرحيل عن ريو دي جانيرو، رغم اعتراض الأبناء، رحلة زوجة من حياة الدعة الناعمة والاعتماد على الزوج (وهي تطلب منه تكييفاً لحرارة الصيف، مثلاً) إلى امرأة دخلت الجحيم، وخرجت منه، وقد صهرتها التجربة، وكشفت عن معدنها الفولاذي المختبئ.

 I’m Still Here ليس فقط فيلماً عن الديكتاتورية أو التوثيق لقصة تاريخية بعينها، ولكنه فيلم عن قوة بعض النساء التي لا تبارى في حماية العائلة والعمل والجهاد الوطني في الوقت نفسه

قفزتين للأمام

يتوقف ساليس عند رحيل العائلة إلى ساو باولو، مكتفيا بقفزتين كبيرتين في الزمن، الأولى بعد 25 عاماً، حين تحصل "أونيس" على شهادة موت زوجها، والثانية بعد 18 عاماً أخرى، في أيامها الأخيرة، وقد فتك بذاكرتها الألزهايمر.. وإن كانت حياتها لم تزل تعيش في مكان ما في الذاكرة، أو في ذاكرة وقلوب الأبناء والأحفاد الذين يلتقطون معها الصورة الأخيرة.

هذا القرار باختزال 43 سنة من عمر بطلته في مشهدين واحد من أجرأ القرارات الفنية التي يمكن أن يتخذها مخرج، فبدلاً من تعقب حياة بطلته أفقياً لرصدها بمشاهد سريعة تتقافز في الزمن، هذا النوع الذي يخاطب الجزء المعلوماتي من العقل فقط، ينحاز ساليس للبناء الرأسي الذي يتميز بالعمق، ويركز على فترة قصيرة وشخصيات أقل، متتبعاً الشهور القليلة الأهم في حياة البطلة وعائلتها، التي سبقت وأعقبت اختطاف الأب واختفاءه، والتي قلبت عالمهم رأسا على عقب.  

 I’m Still Here، فوق كل شيء، هو فيلم عن المشاعر والوجدان وصدمة وعذاب الاعتقال السياسي الذي يؤثر على العائلة بأسرها، وهو أيضاً عن قدرة الحب والتماسك العائلي على مداواة مثل هذه الجروح العميقة، هذا الانحياز للعمق يترك أثره على مشاعر وعقل المشاهد بشكل يستحيل أن يفعله البناء الأفقي للأحداث التاريخية، بجانب مضمونه التاريخي المهم، فإن  I’m Still Here دراما عائلية وإنسانية ونسوية من الطراز الأول.

صورة عائلية

ينقسم الفيلم إلى نصفين/ حركتين، الأول يمتد لساعة تقريباً، يبدأ بدراما هادئة جدا، تتسارع تدريجياً وصولاً إلى الذروة (يونيس في ظلام الحبس)، ويبدأ الفصل الثاني بخروجها من الحبس، سريعاً أيضا حتى  السفر إلى ساو باولو، حيث تتجول الكاميرا ببطء بين حوائط البيت الخاوي الصامت، ثم تهدأ الحركة تدريجياً، لتعيدنا إلى البداية، بصورة الشاطئ العائلية التي تستعيدها الأم، ثم يستنسخها الأبناء والأحفاد بصورة عائلية جماعية أخيرة، لنعود إلى البيت القديم، حيث تتجول الكاميرا بين حوائطه مرة أخيرة، في صمت غارق في الظلال، مع نزول العناوين الأخيرة التي تستعرض صور العائلة الأصلية.

لا غرابة إذن أن  تكون صورة الشاطئ العائلية هي صورة الملصق الرئيسي للفيلم، وهو ما يكمل المعنى الذي قصده الابن مارسيلو بعنوان كتابه "سنة قديمة سعيدة" (عاكسا تعبير"سنة جديدة سعيدة" الذي يقال في الاحتفالات)، ذلك أن هذه العائلة لم تعرف السعادة منذ رحيل الأب، إلا من خلال استعادة الماضي (ورمزيا استعادة الأب ولو بشهادة وفاة)، بتذكر واستحضار العام السعيد الأخير الذي قضوه معاً، وهو ما يحققه لهم والتر ساليس (وللمشاهدين أيضاً) باستحضار الماضي وتجسيده على الشاشة.

لقد مر ساليس، المولود 1956، بتجربة شخصية تشبه تجربة عائلة "بايفا" كثيراً، فقد قضى جزءاً كبيراً من طفولته وصباه في أميركا وأوروبا بصحبة أبيه الديبلوماسي، قبل أن تعود العائلة إلى البرازيل عقب الحكم العسكري، وقد عايش فترة السبعينيات، ولاحقا ربطته صداقة بإحدى بنات عائلة بايفا!

هذا أيضا فيلم ذاتي، مفعم بذكريات ومشاعر مخرجه، ومن ثم هذه القوة والأثر الذي يتركه الفيلم على المشاهد.

* ناقد فني

 

####

 

شون بيكر.. أمير الصعاليك الذي أصبح ملكاً

القاهرة -عصام زكريا*

على مدار 25 عاماً، منذ فيلمه الأول Four Letter Words، عام 2000، وحتى فيلمه الأخير Anora، سعى صانع الأفلام شون بيكر، إلى شيئين: الاستقلال الفني والمالي عن أساطين وتجار هوليوود، ورصد حياة المهمشين والصعاليك بأنواعهم في نيويورك وخارجها.

في فيلمه الثاني Take Out، عام 2004، الذي قامت سلسلة "كرايتريون" بترميمه وإعادة إصداره في نسخة 4k و Blue-Ray ضمن كلاسيكيات السينما العالمية، يرصد شون بيكر حياة شاب صيني مهاجر بشكل غير شرعي في مدينة نيويورك، خلال يوم واحد.

يبدأ الفيلم باثنين من "البلطجية" يقتحمون مسكناً للعمال المهاجرين يبحثون بين النائمين عن شخص يدعى مينج دينج. إنه مدين لرجل عصابات بمبلغ اقترضه لكي يرسله إلى أمه في الصين، بعد أن قضى ستة أشهر في أميركا لم يستطع فيها توفير أي أموال، يهدده المقتحمان بأن المبلغ، وقدره 800 دولار، سوف يتضاعف إذا لم يقم بتسديده حتى المساء.

ويتتبع الفيلم رحلة الشاب على دراجته في شوارع نيويورك كعامل توصيل طلبات في مطعم صيني، بينما يبحث أيضاً عن شخص يقرضه المبلغ المطلوب، في نهاية اليوم بعد ان كاد يبلغ هدفه يتعرض للسطو على يد اثنين آخرين من المهاجرين.

بيكر الذي أنتج وكتب وأخرج الفيلم بمساعدة شريكته في ذلك الوقت شي شينج تسو، قام بالتصوير أيضاً مستخدماً كاميرا رقمية صغيرة محمولة على الكتف، كعادة الأفلام المستقلة في التسعينيات وبداية الألفية.

بهذا الفيلم الذي يستعيد روح مدرسة "الواقعية الجديدة" الإيطالية، خاصة رائعة فيتوريو دي سيكا Bicycle Thieves، وضع شون بيكر قدمه على الطريق الذي سيسلكه بعد ذلك وصولاً إلى Anora، الذي حظي عنه بأكبر عدد من جوائز الأوسكار يحصل عليها فنان عن فيلم واحد: الإنتاج والإخراج والتأليف والمونتاج، بجانب حصول الفيلم على أوسكار أفضل ممثلة لمايكي ماديسون أيضاً.

من المهاجرين الصينيين ينتقل بيكر في فيلمه التالي Prince of Broadway، عام 2008، إلى مهاجر إفريقي من غانا، يبيع البضائع المقلدة في شوارع مانهاتن، يكتشف فجأة أنه أب لصبي صغير، وكالعادة يفعل بيكر كل شيء من الإخراج والتصوير والمونتاج والمشاركة في الكتابة والإنتاج، أما بطل الفيلم، فيؤدي شخصيته الحقيقية، ما يكسر الخطوط بين الروائي والوثائقي، ويشيع نوعاً من الواقعية بات مميزاً لكثير من أفلام الألفية الجديدة (بعد أن راج في السينما الإيرانية، لظروفها الخاصة، خلال التسعينيات).

في فيلمه التالي Starlet، عام  2012، يروي بيكر قصة إنسانية تجمع بين شابة في العشرينيات وسيدة عجوز في منتصف الثمانينيات، غير أن الشابة تعمل في الأفلام الإباحية، وهو ما سيفتح الباب أمام بيكر لتناول هذه الفئة في أفلامه اللاحقة: Tangerine، Red Rocket و Anora، باستثناء The Florida Project الذي يرصد الحياة داخل أحد المجمعات السكنية الفقيرة.

بينما يرصد Tangerine، عام 2015، حياة عدد من البغايا والمتحولين جنسياً، يرصد Red Rocket، عام 2021، أزمة بطل أفلام إباحية في الأربعينيات يحاول البحث عن عمل آخر، متسكعاً لبعض الوقت في بيت زوجته التي كانت تمثل أيضاً في هذه الأفلام، وحالماً باستعادة شبابه وحياته من خلال علاقة بفتاة لا تتجاوز العشرين.

مزاج الفيلمان ونهايتهما تميلان للكآبة، بالرغم من أن الثاني، Red Rocket، كوميدي. ويبدو أن Anora يمثل مرحلة جديدة في أعمال شون بيكر، أكثر ميلاً للتفاؤل والخفة في طرح الموضوعات، وهي خفة قد تمثل ابتعاداً وتناقضاً مع الواقع، لكنها قادرة على جذب الجمهور ونيل إعجاب النقاد أكثر، بدليل حصول Anora على كل هذا التقدير والجوائز، أو ربما يمثل الفيلم لحظة نادرة يحلم بها كل سينمائي مستقل، وهي تحقيق المعادلة بين صنع ما يريده المرء فنياً وتحقيق النجاح الشعبي الضخم في الوقت نفسه.

يعيش شون بيكر، ويعمل في نيويورك، موقع معظم أفلامه، على الطرف الشرقي من الولايات المتحدة، بعيداً للغاية عن هوليوود الغربية، حيث يعيش وودي ألين ومارتن سكورسيزي وفرانسيس فورد كوبولا وغيرهم من الفنانين المستقلين عن هوليوود إنتاجياً وفنياً وفكرياً.

وينضم بيكر إلى هذه المدرسة المختلفة التي تغذي السينما الأميركية عادة بأعمال أكثر جدية وفنية، ونجاحه الهائل في حفل الأوسكار ليس فقط تتويجاً لمسيرته الطويلة الصعبة، ولكنها تتويج لمدرسة نيويورك كلها وأسلوبها في صنع الأفلام.

* ناقد فني

 

####

 

أدريان برودي.. العبور الثاني إلى الأوسكار

دبي -محمد عبد الجليل

في هوليوود، حيث تتغير الأضواء كما تتغير الفصول، وحيث يصعد نجم، ويخفت آخر في طرفة عين، يبقى أدريان برودي حالة لافتة ومميزة في مسيرة السينما، حيث بدا وهو يحمل جائزة الأوسكار الثانية له أشبه بمن عبر النهر مرتين، مرة كفائز شاب، ومرة كرجل تمرس على المسافات الطويلة، وعاد ليؤكد أن السينما لا تنسى من يهبها روحه.

وسط تصفيق حار وترقب كبير، اعتلى أدريان برودي مسرح الأوسكار للمرة الثانية في مسيرته، ليحصد جائزة أفضل ممثل عن دوره في الفيلم الملحمي The Brutalist، من إخراج برادي كوربيت

بهذا الفوز، انضم برودي إلى نخبة من الممثلين الذين فازوا بهذه الجائزة مرتين، مثل مارلون براندو، جاك نيكلسون، شون بن، وتوم هانكس، بينما يبقى دانيال داي-لويس الوحيد الذي فاز بها 3  مرات.

يأتي هذا التتويج بعد أكثر من عقدين من فوز برودي الأول في عام 2003 عن The Pianist، عندما دخل التاريخ كأصغر ممثل يفوز بجائزة أفضل ممثل رئيسي في عمر 29 عاماً، وسط منافسة شرسة مع جاك نيكلسون، ودانييل داي لويس، ومايكل كين، ونيكولاس كيج.

خلال كلمته المؤثرة هذا العام، بدأ برودي حديثه بالتعبير عن امتنانه للحياة والمسيرة التي منحته هذه الفرصة، مؤكداً أن "التمثيل مهنة هشة، قد تبدو ساحرة في بعض اللحظات، لكنها قد تختفي في أي وقت"، ثم أضاف: "ما يجعل هذه الليلة مميزة بالنسبة لي هو إدراكي لهذه الحقيقة، وامتناني العميق لأنني ما زلت قادراً على ممارسة العمل الذي أحبه".

لم يكن حديثه مجرد استرجاع لمسيرته، بل حمل رسالة قوية عن أهمية مواجهة العنصرية والتطرف، حيث قال: "أنا هنا مرة أخرى أمثل آثار الحروب، والاضطهاد المنهجي، ومعاداة السامية، والعنصرية، وكل أشكال التمييز.. أدعو لعالم أكثر صحة وسعادة وشمولاً، وأؤمن بأن التاريخ يعطينا درساً واحدًا واضحاً: لا يجب أن نترك الكراهية تمر دون مواجهة".

في الفيلم، يجسد برودي دور "لازلو توث"، المهندس المعماري الذي يهرب من المجر إلى الولايات المتحدة، حيث يحاول بناء حياة جديدة، لكنه يجد نفسه في مواجهة تحديات غير متوقعة عندما يحصل على فرصة لبناء مشروع معماري ضخم لصالح رجل أعمال ثري في بنسلفانيا، بينما ينتظر وصول زوجته وابنة أخيه.

بفوزه الثاني، يضع أدريان برودي اسمه جنباً إلى جنب مع بعض أعظم ممثلي السينما، ليؤكد مجدداً قدرته على تقديم أدوار تحمل أبعاداً إنسانية عميقة، ومعالجة قضايا لا تزال تؤرق العالم

البحث عن الأثر

وُلد أدريان برودي في 14 أبريل 1973 بمدينة نيويورك، ونشأ في بيئة تجمع بين الفن والثقافة، حيث كانت والدته المصورة سيلفيا بلاشكو ووالده أستاذ التاريخ الهنجاري إليوت برودي، منذ طفولته، أبدى اهتماماً واضحاً بالتمثيل، فشارك في عروض مسرحية مدرسية، قبل أن يلتحق بمدرسة Fiorello H. LaGuardia، التي تخرج منها العديد من النجوم البارزين.

واصل برودي صقل موهبته بالدراسة في American Academy of Dramatic Arts، حيث بدأ في تشكيل أسلوبه التمثيلي القائم على التقمص العميق والالتزام التام بالشخصيات التي يجسدها.

كان أول ظهور سينمائي لأدريان برودي في الفيلم التليفزيوني Home at Last، عام 1988، ولكن في السينما كان الظهور الأول في فيلم New York Stories عام 1989، وهو فيلم يضم 3 أفلام قصيرة أخرجها وودي آلن، وفرانسيس فورد كوبولا، ومارتن سكورسيزي، لكن بدايته الحقيقية جاءت عام 1993 عندما شارك في فيلم King of the Hill للمخرج ستيفن سودربيرج، حيث لفت الأنظار بأدائه المميز.

لاحقاً، بدأ برودي في الحصول على أدوار أكثر أهمية، حيث شارك في أفلام مثل Angels in the Outfield (1994) وBullet (1996) إلى جانب مغني الراب توباك شاكور، غير أن انطلاقته الكبرى جاءت عام 1998 عندما قدم أداءً قوياً في فيلم The Thin Red Line للمخرج تيرينس مالك، حيث جسد شخصية جندي في الحرب العالمية الثانية ضمن طاقم تمثيلي حافل بالنجوم.

كان هذا الفيلم خطوة مهمة نحو الاعتراف بموهبته، لكنه لم يكن سوى تمهيد لدوره الأسطوري في The Pianist (2002)، الذي منحه شهرة عالمية وجائزة الأوسكار، حيث قدم واحدة من أعظم الأداءات في تاريخ السينما، مجسداً شخصية عازف البيانو البولندي فلاديسلاف شبيلمان، الذي يواجه وحشية الاحتلال النازي في وارسو خلال الحرب العالمية الثانية

خسر برودي وزناً كبيراً، انعزل عن العالم، وعاش في عزلة نفسية تشبه عزلة الشخصية التي لعبها، عندما وقف على مسرح الأوسكار ليصبح أصغر ممثل يفوز بجائزة أفضل ممثل، لم يكن مجرد فوز، بل شهادة على موهبة نادرة.

لكن برودي لم يكن أسير هذا الدور، بل أثبت أنه قادر على التنقل بين عوالم مختلفة، وتنقل بين أدوار تختبر قدراته كممثل، محاولاً دائماً التمرد على القوالب الجاهزة في هوليوود، في King Kong (2005)، لعب دور جاك درايسكول، الكاتب الذي يجد نفسه في مواجهة وحشية الطبيعة على جزيرة الجمجمة، في تجربة جمعت بين المغامرة والرومانسية، وأظهرت جانبه الأكثر حساسية أمام وحشية العالم

أما في The Darjeeling Limited (2007)، فقد أبدع في تقديم شخصية بيتر ويتمن، الأخ الذي يرافق شقيقيه في رحلة روحية عبر الهند، ضمن فيلم مليء باللحظات الإنسانية العميقة والسخرية الهادئة، بأسلوب المخرج ويس أندرسون الذي أتقن برودي التأقلم معه لاحقاً في The Grand Budapest Hotel (2014) في دور دميتري، الوريث الجشع الذي يحمل كاريزما قاتلة، ثم في Asteroid City (2023).

لم يكن برودي بعيداً عن الإثارة أيضاً، ففي Predators (2010) جسّد شخصية المرتزق رويس، في إعادة إحياء لسلسلة أفلام الخيال العلمي الشهيرة، مقدّماً نسخة أكثر تعقيداً لبطل الأكشن المعتاد، بينما في Detachment (2011)، عاد إلى الدراما الاجتماعية بدور معلم بديل يعاني من العزلة في نظام تعليمي قاسٍ، في أداء منحه إشادة نقدية كبيرة، وفي نفس العام، أدهش الجمهور بتجسيده الساخر لشخصية الرسام سلفادور دالي في Midnight in Paris (2011).

أما في مسلسل Houdini (2014)، فقدم سيرة ذاتية مبهرة عن الساحر هاري هوديني، بأسلوب جعل الشخصية تتجاوز مجرد خفة اليد إلى عمق الصراع النفسي والبحث عن الحقيقة

وفي Blonde (2022)، ظهر في دور آرثر ميلر، الكاتب الشهير الذي عاش علاقة مضطربة مع مارلين مونرو، ليقدم صورة جديدة للرجل الذي وقف خلف أسطورة

 

الشرق نيوز السعودية في

03.03.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004