“لعبة
الحرب”.. احتلال الكونغرس يوم التصديق على الانتخابات الرئاسية
عبد الكريم قادري
لا تزال أحداث يوم 6 يناير/ كانون الثاني 2021 صدمة سياسية
رهيبة لدى كل أمريكي، حين اقتحمت مجموعة معارضة مبنى البرلمان (الكابيتول)،
محاوِلة منع أعضاء الكونغرس من التصديق على نتائج الانتخابات الرئاسية،
لتنصيب “جو بايدن” رئيسا جديدا، وقد كادت تلك الحادثة تشعل حربا أهلية، لن
يكون يسيرا إخماد نارها.
بعدها طُرحت عدة احتمالات مخيفة، عن مدى تسيس أعضاء وزارة
الدفاع بشتى أجهزتها، وقوات الحرس الوطني الأمريكي، ونسبة الأعضاء
والمتعاطفين مع من أثاروا الشغب، والسؤال الأهم هو: ما مدى استجابة هؤلاء
لنداءات المنقلبين، وهل سيخرجون عن القَسم أمام نداءات التطرف تلك، وهل
سيتكرر الأمر مرة أخرى؟
هي أسئلة حاول إجابتها الفيلم الوثائقي الأمريكي المثير
“لعبة الحرب” (War
Game)،
الذي عُرض عام 2024، وهو عمل مهم للمخرجين “جيسي موس” و”توني غيربر”، أرادا
من خلاله دق ناقوس الخطر، ووضع الأمريكي أمام صفحة سياسية جديدة، بعد أن
أصبحت الديمقراطية مهددة.
ففي ظل تنامي مظاهر التطرف والعنصرية، وتنامي ظاهرة التشكيك
الواضح في نتائج الانتخابات، جاء الفيلم رسالة تنبيه واضح لما يمكن أن يحدث
مثلا في التصديق على الانتخابات يوم 6 يناير/ كانون الثاني 2025، أو حتى في
جميع الانتخابات الرئاسية المستقبلية، انطلاقا من أحداث آخر تصديق في
الكابيتول الأمريكي.
ست ساعات لمواجهة “المارقين” من الجيش
من الأشياء المهمة التي عكسها فريق صناعة فيلم “لعبة
الحرب”، هو أنهم أرادوا محاكاة انقلاب محتمل في الولايات المتحدة، وقد
أشركوا في تلك الأدوار شخصيات سياسية وأمنية وعسكرية سابقة، قدّم كل منهم
شخصيته وكأنه مسؤول في تلك الحقبة.
تدور قصة الفيلم في مجملها حول مجموعة من صناع القرار
السياسي المنتخبين في الولايات المتحدة، ومسؤولي الدفاع والاستخبارات،
الذين ينتمون إلى 5 إدارات رئاسية، وقد شاركوا في تمرين لعبوا فيه أدوارا
غير مكتوبة.
أمام الرئيس 6 ساعات لمواجهة انقلاب سياسي مدعوم
وقد جسدوا شخصية رئيس الولايات المتحدة الخيالي ومستشاريه،
من خلال خلق خلية أزمة، لمواجهة انقلاب سياسي يدعمه أعضاء “مارقون” من
الجيش، في أعقاب انتخابات رئاسية متنازع عليها في عام 2024، وهذا انطلاقا
من تجربة انتخابات 2020.
وقد أعد فريق الفيلم لذلك سيناريو مثيرا ومخيفا ومستفزا،
يمثل أخطارا حقيقية، مع تحديد مدة زمنية تقد بـ6 ساعات عن موعد التصديق على
الانتخابات، وخلال هذه المدة يجب على الفريق إيجاد حلول عملية، لإنهاء
الانقلاب وإعادة الهدوء، فهل ينجح؟
عصبية التطرف.. فكر خطير يتوسع في الجيش الأمريكي
استند فيلم “لعبة الحرب” على عدد من المعطيات المهمة،
والأرقام الصحيحة، والنسب المستنبطة من بعض المؤسسات. من تلك النسب الخطيرة
التي تدق ناقوس الخطر، أن ما بين 7-8% من أعضاء الجيش الأمريكي العاملين
يحملون فكرا متطرفا، أي أن بوسعهم الحنث بالقسم الذي أدّوه، في سبيل خدمة
أناس أو منظمات أو جهات تغذي توجههم وتعصبهم.
والغريب في الأمر أن الجيش يقف عاجزا أمام هذه الظاهرة،
لأنه ليست لديه تشريعات تجعله يتصدى لها، لهذا قدّم بعض المشرعين -بعد
أحداث 2021- مقترحات في الكونغرس، لتصفية صفوف الجيش من ظاهرة التطرف،
لكنهم لم يحصلوا على الدعم الكافي من باقي الأعضاء.
يعني ذلك أن هناك من يستفيد ويدعم هذا التوجه الذي يهدد
الديمقراطية، ويقدم منطلقات عملية لترتيبات يمكن أن تقود إلى التمرد،
والخروج عن الدستور الذي يزيد عمره عن 250 سنة كاملة.
ألاعيب الساسة.. شرارة تشعل نيران انتقام الجنود
انطلاقا من معارف السياسيين والأمنيين وخبراتهم، حاول
الفيلم عكس تجاربهم القانونية والأمنية، لكن يبدو بأن الثمن سيكون مرتفعا
جدا، لا سيما أن المتطرف أو المتعصب لفكرته وتوجهه، يستعصي إقناعه بما
يخالف فكره.
وقد استعان الفيلم بمجند سابق في الجيش الأمريكي هو
“كريستوفر غولدسميث”، ليلعب في الفيلم دور زعيم إحدى الخلايا الفاعلة في
تحريك الاحتجاجات، والتوجه نحو استعمال القوة، انطلاقا من ماضيه الحقيقي.
ولأن “كريستوفر” خارج سياق التمثيل، فقد تحدث عن تجربته
الشخصية، وكان جنديا في العراق، واجهته أخطار كثيرة، وأصابه كثير من
الأمراض، ثم سُرح فيما بعد من دون حقوق.
ثم أدرك بأنه كان مجرد لعبة في أيدي السياسيين، لأنه عرف
كثيرا من الحقائق، فتوجه نحو التطرف وأظهر نزعة خطيرة، وانخرط في المنظمات
المتطرفة، حتى ينتقم بطريقته. وقس على ذلك باقي الأفراد والمنظمات.
التلاعب بالمعلومة.. عاصفة الخطر القادمة من الشاشات
من الأشياء المهمة والخطيرة التي نبّه إليها فيلم “لعبة
الحرب” هي الحرب الموازية، وهي لا تقل خطورة عن الحرب الحقيقية، حتى إنها
تتفوق عليها في كثير من الجوانب.
فمن خلال المشاهد التمثيلية في الفيلم، أُبرزت كيفية توظيف
المعلومة لخدمة الجهة المنقلبة التي يمثلها الحاكم (روبرت ستيكلاند)، الذي
مثل دور المترشح الرافض لنتائج الانتخابات.
بمعنى أن هناك خلايا مهمتها هي تأجيج الصراع والمواجهة،
بخلق المعلومات والتلاعب بها وتوظيفها، مثل توظيف مناوشات قديمة وتدريبات
للجيش، على أساس أنها سيطرة على الثكنات، وذلك تصوير للجهة الشرعية على
أنها عنيفة، لمحاولة إسقاط الشرعية عن الآخر.
بمعنى أن هناك تلاعبا في كل شيء، في حين أن المؤسسات
الرسمية الشرعية ليس لديها الوقت لتفنيدها أو دحضها، لأنها هي أيضا باتت
مشوشة في ظل تسارع الأحداث، وسيطرة المتمردين على بعض عواصم الولايات، التي
عجز حكامها عن المواجهة.
من هنا يتبين بأن هناك غرفا خاصة لصناعة المعلومة وتسويقها،
يُعتمد فيها على المعرفة الجيدة بالخصم، ودراسة شروط التلقي لدى الجماهير،
وأكثر من هذا فهم جميع الفئات، للسيطرة عليها وكسب عطفها، في سبيل حسم
المسألة والتحكم في تفاصيلها.
خلايا متطرفة نائمة تنظر الإشارة لزرع الفوضى
مشاركة سياسيين بارزين ورجال أمن وأفراد جيش، تثبت بأن هناك
خوفا واضحا على مستقبل الولايات المتحدة، ومن هؤلاء الممثلين “ستيف بلوك”،
وهو محامٍ وسياسي حكم ولاية مونتانا سابقا، وقد لعب دور الرئيس الأمريكي
“جون هوثام”، ومنهم عضو مجلس الشيوخ السابقة “هيدي هيتكامب” التي لعبت دور
مستشارة الرئيس، وغيرهما من الأسماء.
هذه المشاركات توحي بأن هناك خطرا حقيقيا يترصد الولايات
المتحدة، بسبب تنامي المشاكل والانقسامات والتوجهات، مما يجعلها أقرب إلى
الحرب الأهلية، لا سيما أن معظم هؤلاء -ونخص المتطرفين منهم- لديهم
متعاطفون في الجيش وخارجه، مدربون تدريبا جيدا، حتى أنهم يملكون الأسلحة
مثل غيرهم من فئات كثيرة من الأمريكيين.
يعود هذا لتنامي ظاهرة التطرف، وهي حاليا عبارة عن خلايا
نائمة، تنتظر الوقت المناسب للبروز والظهور، وما من توقيت أكثر مثالية من
توقيت الخلافات السياسية الكبرى، مثل ما حدث في 2021.
فقد أظهر الفيلم استطاعتهم السيطرة على بعض العواصم من خلال
تلك التدريبات، وتحليلهم وفهمهم للخصم والوضع، كما جهزوا لكل شيء سلفا، حتى
أن هناك من كان يحاول استفزاز الحرس الوطني، لا سيما يوم 6 يناير/ كانون
الثاني، لدفعهم إلى العنف، لأن الدماء وحدها كفيلة بتأجيج المشاعر، لانخراط
كل الفئات في هذا الصراع، حتى يتسنى خلق الفوضى، ثم السيطرة على مقاليد
الحكم والسلطة.
وثائقي مختلف.. شجاعة البحث عن قوالب جديدة
فيلم “لعبة الحرب” عمل وثائقي استشرافي مختلف ومثير. وقد
انعكس هذا التميز في مسألتين مهمتين وأساسيتين؛ الأولى هي الذهاب صوب
المستقبل لاستشراف الأحداث وفهمها، وبهذا الفهم تُتخذ الخطوات المناسبة قبل
حلول الكارثة، لتجهيز المتلقّي جيدا للأحداث الكبرى.
وقد أشرك معه في هذا المغامرة بعض صنّاع السياسة، وذلك ما
أعطاه قوّة توثيقة هائلة، وأخرجه من تصنيف الفيلم “الخيالي”. كما أنه أعطى
الفرصة لهؤلاء ليتصرفوا انطلاقا مما يوضع أمامهم من أخطار، فأصبحوا شركاء
في كتابة حوارات الفيلم، انطلاقا من تجاربهم ومكتسباتهم.
أما المسألة الثانية التي صنعت تميزه، فهي أن المخرجين
“جيسي موس” و”توني غيربر” قد غامرا بالذهاب صوب بناء وثائقي خرجا به عن
السائد، وهي مخاطرة فنية كانت محفوفة بالفشل، لا سيما إن لم يتعاطيا جيدا
مع رسائله الواضحة والمبطنة، أو فشل ارتجال الشخصيات، ناهيك عن المفاجآت
التي قد تحدث.
لكن الفيلم نجح في هذا الرهان، وأظهر مخرجاه مقدرتهما على
صياغة أبجدية سينمائية، يخرجان بها عن السائد والمألوف.
دق ناقوس الخطر في ثوب الترفيه والإثارة
قدّم الفيلم الوثائق والمعلومات والنسب والأرقام المهمة،
وهي معطيات مخيفة ومفجعة، وتنذر بغدٍ صعب جدا، لكنه في المقابل قدّم
الترفيه والإثارة للمتلقي، من خلال لجوء المخرجين إلى البناء التقليدي
الموجود في الأفلام الروائية بكثرة، وهي المقدمة والعرض والخاتمة السعيدة.
أي أنه وظّف تلك العناصر التقليدية بما تحتويه من تصاعد في
الأحداث وعقدة وذروة، لخدمة “فعل المشاهدة”، وهي طريقة تضمن بقاء المشاهد
لآخر مشهد من الفيلم، بحكم محاصرته بمنطلقات التشويق، وشحن فضوله لمعرفة ما
سينتهي له العمل بعد انتهاء الساعات الست التي يجب التصرف فيها للقضاء على
التمرد، وضمان أمن المشرعين للتصديق على الانتخابات يوم 6 يناير/ كانون
الثاني 2025.
من هنا يكون فيلم “لعبة الحرب” عملا متماسكا وقويا، ومع أنه
يقود إلى فعل التخويف والتنبيه، فإنه يقدم قراءة واعية ورزينة للأحداث، من
دون انتصار لحزب أو جهة على حساب أخرى، وإنما يدين العنف والتطرف والخروج
عن الشرعية فقط. |