“ماريا”..
مأساة الأيام الأخيرة من حياة أعظم أصوات الأوبرا
أحمد الخطيب
من الصعب المساس ببعض الأساطير، فالفنان الذي تجاوز فرديته
ومنتجاته الإبداعية وأصبح أسطورة في الوعي الجمعي، لن يسلّم نفسه للمادة
الإبداعية بسهولة، لا سيما إذا انطوت حياته على بعض الغموض، واشتملت أيامه
الأخيرة التباسا راعيا للمقدس والإلهي، كأنه خلّف وراءه إرادة مستقلة،
تعاكس محاولات إخضاع الشخصية لنمط سردي معيّن.
إن تمنّع تلك الشخصيات يغري كثيرا من الفنانين، لمحاولة
وضعها في إطار حكي معين، والحقيقة أن الأمر أشبه بمقامرة، فما من ضمانات
حقيقية على نجاح فيلم السيرة الذاتية، حتى في أكثر المساحات أمانا.
فالأمر يتعلق أكثر بأسلوبية التناول، وإمكانية مدى دفع
الشخصية بكل سياقها الزمني وثرائها التاريخي في إطار منهجية الحكي،
فالتعاطي مع كل شخصية يأتي بطريقة مختلفة، حسب ما يريده المخرج والكاتب،
وما يمكن للشخصية ذاتها أن تحتمله، من دون أن يفرط عقد الحكي في ذروات
جانبية أو خواطر عابرة.
لذلك فكتابة ذلك النوع من الأفلام شيء في غاية الصعوبة، لأن
الكاتب ليست له حرية الحركة التي لديه في المخيال، بل هو مشدود بالسياقات
والمحاور والشخصيات التاريخية، لذلك يحاول بعض المخرجين الإفلات من المستوى
التقريري للحكي، وإيجاد منفذ لتفكيك الشخصية والاشتباك معها، في حيّز أكثر
مرونة، وأكثر سينمائية.
فأفلام السيرة تستند في متنها إلى الثراء المعرفي، لبناء
العالم وتفاصيل الشخصية، مما يمنح المخرج خيارات محددة في البداية؛ بيد أن
مرونة اللغة السينمائية توفر فرصا لخلق تقاطعات بين ما هو افتراضي متخيل
للداخل، وما هو واقع حقيقي مؤرّخ ومرصود في سياق زماني ومكاني.
هذا ما حاول المخرج “بابلو لارين” الاشتباك معه في فيلم
“ماريا”
(Maria)،
وهو آخر أفلام ثلاثيته “نساء مهمّات”، بعد فيلمه عن “جاكي كينيدي” بعنوان
“جاكي”
(Jackie)
عام 2016، وفيلمه عن الأميرة دايانا بعنوان “سبنسر”
(Spencer)
عام 2021.
يدور فيلمه الثالث والأخير عن أسطورة الغناء الأوبرالي
“ماريا كالاس”، ذات الصوت الذي يصنفه البعض أعظم الأصوات وأفضلها على
الإطلاق، ويتناول أيامها الأخيرة، حين تأثر صوتها كثيرا، وفقدت ما كان
يمنحها القيمة والعنفوان والحيوية الكافية للبقاء والوجود، بوصفها أنثى
مستقلة.
قاعات فارهة وسراديب نفسية متآكلة
تستلزم الحياة الاستثنائية دائما شخصية وصفات استثنائية،
و”ماريا كالاس” امرأة عنيدة لا تتحمل الخسارة، ولا تستسلم لقسوة الأيام
الأخيرة، وقد خسرت كل شيء، فهي غارقة في هلوسات الاستعادة.
يسحبنا “لارين” في دوامة من القاعات الفارهة، ثم يهبط بنا
في سراديب نفسية متآكلة، بيد أن دهاليز السوبرانو الداخلية وقاعات الأوبرا
الخارجية لا يتسقان بما يكفي على مستوى رواية الحكاية.
يطلق “لارين” عدة تستسلات مربكة، فلم يستطع الربط بين
الداخلي والخارجي، والقديم والجديد، ليصبح الفيلم أشياء جميلة في ذاتها،
ومؤثرة تأثيرا مستقلا لا تكامليا، لنراقب باندهاش كيف يحول “لارين” عشوائية
الحكاية إلى قطع مؤثرة وعاطفية، بيد أنها تظل مفقودة داخل سياق الحكي
العام.
الأناقة البصرية
من اللحظة الأولى نلاحظ أن الحرفة السينمائية لدى المخرج
“بابلو لارين” تلعب الدور الأكثر مركزية في الفيلم، فالفيلم مخلص لنمط بصري
يعتمد على قيمة شكلانية، تأتي من تصميم الإنتاج والنمط المعماري، الذي يتسق
مع رقي حياة “ماريا كالاس”، وتتبدى الأناقة البصرية في الانتقالات بين
أبنية فارهة ومساحات تاريخية ذات ثقل بصري.
يدور الفيلم كله في مكانين أساسا، وكلاهما ذو جودة بصرية في
ذاته، وهما قصرها الأنيق، وقاعة الأوبرا في باريس، مع مشاهد من شوارع باريس
ومشاهد الاسترجاع المتفرقة (فلاش باك)، لذا فهو -من النظرة الأولى- يبدو
فيلما مكانيا، يعتمد على المكان، ويتخذه عنصرا من العناصر الرئيسية لإكمال
الحكاية.
والحقيقة أن هذا الأمر ليس غريبا على المخرج “لارين”، فقد
أخرج أفلاما تتمحور حول شخصيات مهمة، لكن في فيلم “ماريا” لا يتعلق الأمر
بالمكان بقدر ما يتعلق بكيفية رواية الحكاية.
فالحرفة البصرية وحركة الكاميرا وتصميم الإنتاج الفاخر،
تخلق نمطا بصريا ذا جودة عالية، ربما يكون كافيا لدى البعض، ولكن على
الناحية الأخرى، فالقصة -مع ابتعادها عن الشكل العتيق للحكي- لا تتعدى
كونها فرقعات، تحدث صدى في فضاءات القصر.
فالأمر أشبه بأن تنفخ أبواق الحرب ثم لا تخوض حربا، فلن
تنتج إلا لحظة استثنائية أوليّة، ولكنك ستخلّف وراءك جيشا مرتبكا، لا يعرف
ماذا يفعل، فـ”لارين” صانع أفلام مميز يخلق لحظات استثنائية، ولكنه يقف
عندها.
استعادة الذات.. عمق عاطفي من الأيام الأخيرة
لا يشتبك المخرج “بابلو لارين” أو يحاول الربط في الفيلم
بين القديم والحديث، والعام والخاص، بل يعتمد في ربطه على أن جميع تلك
اللحظات تجمعها شخصية واحدة تحت المهجر، بالإضافة إلى التماسك البصري
والأداء المميز الذي قدمته الممثلة “أنجلينا جولي”.
وربما كان يقصد “لارين” أن يمنح الفيلم عمقا عاطفيا، يتسق
مع أيام “ماريا” الأخيرة، ذلك القلق الوجودي حول صوتها يستدعي ارتباكا
كثيرا في حياتها، وهو ما يسعى إليه “لارين” وكاتبه “ستيفن نايت”.
وبدلا من الاعتماد على ديناميكية شريط التاريخ وأحداثه
الزمانية، يتمركز “لارين” حول فكرة استعادة الذات، ويحطم الأطر التاريخية،
بانتقائه الأيام الأخيرة من حياة “ماريا”، وتأطير الشخصية برمّتها داخل
لعبة ظهور واختفاء.
خطوط الفيلم السردية
يبدأ الفيلم ينقسم إلى خطوط سردية مختلفة، فقد قسّم “لارين”
الفيلم إلى ثلاثة خطوط، الخط الأول هو لحظة الآن، وهو لحظة الانهيار
الممتدة.
أما الخط الثاني فهو الخط الذي تتمركز حوله السردية، يقوده
“مانداكس” (الممثل كودي سميت ماكفي)، ويمنحه المخرج اسم الحبوب المهدئة
التي أدمنت عليها “ماريا كالاس” في نهاية أيامها، ويمكننا أن نرى ذلك الخط
السردي حصيلة مباشرة للخط الأول، أي أنه يعمل على تشريح الخط الأول
وتفكيكه.
ثم يأتي الخط الثالث في تتابعات بينيّة، تبدو عشوائية في
بعض اللحظات، ويتناول فيه المخرج مباشرة ماضي “ماريا” بالأبيض والأسود،
ويستغرق داخل لحظات حساسة في حياتها مع رجل الأعمال الشهير “أرسطو أوناسيس”
(الممثل خلوق بيلغينر ــ صاحب رائعة “البيات الشتوي” للمخرج نوري جيلان).
ومن بين الخطوط الثلاثة فالخط الثالث هو الأكثر ديناميكية
في الأحداث، لأنه مرسوم بنمط استعادي، يفترض أن يكثف أكبر قدر من المواقف
والذكريات، ليتسنى للمشاهد تكوين صورة خارج الإطار، الذي تكونه الخطوط
المرتبطة بحالة “ماريا” الحالية.
غير أن إعادة خلق المواقف بجودة بصرية، لا يمنحها القيمة
الكافية داخل القصة في مجملها بوصفها منتجا إبداعيا، فعندما ندمج الخطوط
الثلاثة سنرى التخبط الذي تخلفه المسارات المتعددة في الفيلم، تلك
التفريعات المفتوحة لغرض الثراء المعرفي، من دون ضرورة حقيقية في السرد.
استعادة الدراما.. فخ يقع فيه كثير من المخرجين
وقد وقع المخرج “لارين” في فخ المغريات الفنية، فحياة
“ماريا” ذاتها ملأى بالدراما، وبكثير من اللحظات الميلودرامية، لكن
الاستعادة دائما ما تكون المصيدة الذي يسقط فيها كثير من المخرجين.
فتلك اللحظات الموازية لحيوات جانبية لا يمكن تهميشها، لا
سيما إذا استخدم المخرج إطارا مختلفا للحكي، يهمّش الاستعادة أصلا لصالح
اللحظة الحالية والصراع القائم، فلا يمكن أن نجمع كل شيء في وعاء واحد، حتى
مع أسلوب “لارين” المميز، الذي يرتكن على أداء مميز لممثلة مخضرمة.
بيد أن طغيان الأسلوب على السرد يمنح الفيلم التفاصيل
البصرية التي ترفع المشاهد، ولكنه على الجهة الأخرى يتحرك في الداخل بلا
وجهة.
“أنجلينا جولي”.. أداء شبحي مطعم بسحر التفاصيل
تدربت “أنجلينا جولي” سبعة أشهر على دور “ماريا كالاس”،
وشملت التمرينات تأهيلا على الغناء، حتى لو لم تغنّ بصوتها في الفيلم،
ولكنها يجب أن تقرب التجربة التمثيلية إلى الواقع، وتطعّمها بأكبر قدر ممكن
من التفاصيل.
والحقيقة أن “أنجلينا” كالعادة لم تقصر في أداء دورها
بالتقريب، فقد حاولت بكل ما ملكت من حواس أن تتلبّس “ماريا كالاس” في
أيامها الأخيرة، كما أنها قد شارفت على الخمسين من عمرها، وذلك عمر “ماريا
كالاس” تقريبا في أيامها الأخيرة.
لذلك فقد قدمت أداء أقرب إلى الأداء الشبحي، الأداء الأقرب
إلى روح القصة، فجمعت بين سمات الشخصية الأساسية والشخصية المتخيلة، فتخيل
“لارين” عن الأيام الأخيرة أو المدخل الذي يدخل للشخصية منه هو أقرب
للإيهام، فأيامها الأخيرة عبارة عن رثاء لأسطورة قد انهارت، ولم يبق منها
سوى بضعة أنفاس أخيرة.
قسوة على شخصيات هامشية أدت أداء قويا
كل المشاهد يجمعها الأسى والكآبة في الطابع الأساسي، وكل
الشخصيات حولها يشاهدون النسخة الأكثر قسوة وبؤسا من “ماريا” لخادمها
(بييرفرانشيسكو فافينو) الذي ينحسر دوره في نقل البيانو من مكان إلى آخر،
وتلك علامة على اختلالها، كما أنه أيضا سائقها الشخصي. وكذلك شأن خادمتها
“برونا” (آلبا رورفاكير) التي تعد جمهورها الأخير، إلى جانب إعدادها
للطعام.
وقد قدم الممثلان أداء جيدا بقدر ما سمح لهم السيناريو،
فأدوارهم مهمشة تهميشا كبيرا، ولكن وجودهما منح الفيلم نوعا من الحميمية،
فهما آخر الحاضرين الحقيقيين في حياة “ماريا”.
ولكن في النهاية يمكننا أن نستعير أحد عناوين محمود درويش
الشهيرة، “نحن في حضرة الغياب” مدة ساعتين تقريبا، فالسردية كلها عن الغياب
تدريجيا، وعن الوعي، وعن الحياة، ونحن نرصد اختفاء “ماريا” التدريجي شخصيةً
وصوتا، حتى يصبح الغياب رحيلا نهائيا، باقتلاع حنجرتها الغائبة في صرخة
أخيرة، صرخة مدوية في وجه العالم. |