ملفات خاصة

 
 
 

"أنا ما زلت هنا": ملاحقة الماضي فنّياً

محمد هاشم عبد السلام

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

(أوسكار 97)

   
 
 
 
 
 
 

ألا يزال ضرورياً فضح/ملاحقة/محاكمة أفراد/أنظمة ديكتاتورية بائدة على جرائمها، بعد عقودٍ طويلة، أمْ أنّ هذا عبثيٌّ وغير مُجدٍ؟ أمُفيد نسيان أو تجاهل الماضي الدموي، بكلّ عنفه وبشاعته، وعدم الاشتباك معه، ولو فنّياً؟ أيُمكن إرساء ضمانات لتجنّب مآسي الماضي، أو أقلّه ترسيخ قواعد تحول دون تكرارها مستقبلاً؟

الأسئلة كثيرة. لكنّ البرازيلي والتر ساليس تعمّد تركها معلّقة، إذْ لم ينشغل بتقديم إجابات، قدر إيصاله أكبر شحنة صدق فنّية مُمكنة، عبر وقائع جديده "أنا ما زلت هنا" (2024). صحيحٌ أنّ هناك مُنجزات كثيرة سابقة، روائية ووثائقية، تناولت فظائع الديكتاتوريات العسكرية في دول أميركا اللاتينية، وما ارتكبته من جرائم ممنهجة وانتهاكات حقوق الإنسان، خطفاً وتعذيباً وقتلاً، وإخفاء قسرياً للمعارضين؛ وصحيحٌ أنّ الخيوط العريضة للحبكة لا تحيد كثيراً عن هذا، لكنّ ساليس نجح في تقديم مُعالجة جذّابة ومختلفة ومُقنعة للمُتَنَاول سابقاً، إذْ تمحورت معالجته أساساً حول الابتعاد قدر الإمكان عن التورّط في السياسي، والانغماس أكثر في الذاتيّ والنفسي.

لذا، يُلاحَظ أنّ عبقرية الفيلم لا تكمن في ركونه إلى سرد وقائع حقيقية، والتركيز على هذه النقطة فقط، ولا في تناوله الصريح للاختطاف القسري في البرازيل، زمن الديكتاتورية العسكرية، وفضح هذه الممارسات، بل في الجوانب المتكاملة للاشتغال الفني، والتركيز على كيفية نقل جوانب الموضوع بأكبر مصداقية ممكنة. تجلّت حِرفيّته الإخراجية في قيادته منظومة كاملة، لم تختلّ جوانبها الفنية: كتابة بارعة للسيناريو والحوار والأحداث، وأداءً تمثيلياً صادقاً وفريداً، وفنّيات لافتة أبرزها التصوير (أدريان تَيْخيدو)، وأغلبه داخلي ينقل حقبة سبعينيات القرن الـ20 وألوانها، وتوظيف فيديوهات منزلية وصُوَر فوتوغرافية ونقلات زمنية، وغيرها من فنيات ساهمت في إبعاد الفيلم عن أيّ ملل وتكرار وميلودرامية، وأحدثت تعاطفاً وتشويقاً كثيرين، وزادت من انشغال وتفكير عميق في المطروح، مباشرة أو مواربة، تحت سطح أحداث بسيطة.

من الأمور المُثيرة للانتباه في "أنا ما زلت هنا"، أنّ ساليس ـ الذي عاش الأحداث الحقيقية بنفسه، وعاصر أسرة بايفا (تظهر في الفيلم) التي أقام في منزلها وقتاً عندما كان مُراهقاً ـ لم يركن إلى سرد وقائع روايته الخاصة للأحداث، ولا رؤيته الذاتية، ولا ذكرياته عنها، بل اعتمد مذكرات مارسليو، أحد أبنائها الخمسة، الصادرة بالعنوان نفسه عام 2015.

إلى هذا، لم يكتب ساليس السيناريو بنفسه، ولا شارك في كتابته، إذ أوكل ذلك للشابين موريلو هاوزر وهيتور لوريغا، رغم أنّهما لم يُعاصرا الأحداث، ولم يحتكّا بهذه العائلة أبداً زمن حصولها، أو في سنوات لاحقة عليها، ومع هذا فازا معاً بجائزة "الأسد الفضي لأفضل سيناريو" في الدورة الـ81 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2024) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي". فوزٌ فيه تقدير والتفات لموهبتهما الواعدة في كتابة السيناريو، بعد تميّزهما أكثر من مرة بسيناريوهات رائعة ساهمت، في السنوات الأخيرة، في بروز اسم المخرج كريم عينوز وتألّقه.

في البداية، يظهر روبنز بايفا (سيلتون ميلو)، مهندس يساري وعضو حزبي وبرلماني سابق، ومعارض سرّي غير ناشط. تظهر أيضاً مدى روعته زوجاً وربّ أسرة، حنوناً ومُحبّاً وديمقراطياً، مع ما يحيطه من غموض غير مفهوم، يواكب تحرّكات سياسية محتدمة في أروقة السلطة في البلد، وتنعكس آثارها على الحضور القوي والمتزايد للجيش في الشوارع. إلى أنْ يقتحم رجال الأمن منزل الأسرة، ويصطحبونه بهدوء واحترام للتحقيق معه. ثم يمكثون أياماً في منزله مع أسرته، بحميمية وهدوء، قبل استدعاء زوجته يونيس (فرناندا توريس) للتحقيق معها أيضاً.

لاحقاً، يُفرج عن يونيس، وتُراقَب الأسرة ومنزلها بصرامة، لكن من دون أي خبر عن روبنز. يصل الأمر إلى حدّ إنكار اعتقاله، أو معرفة شيء عنه. وهذا قبل الزعم بإطلاق سراحه.

فور إطلاق سراحها، يتبدّل الفيلم. تبدأ الأحداث الفعلية، أو نقطة الانقلاب، إذْ تكاد الكاميرا لا تغيب عنها، فتنكشف قوّة المرأة المفجوعة (وصلابتها وجرأتها) في مصير الزوج والأب المجهول. دور صعب للغاية، يتطلّب قدرات تعبيرية هائلة، تجلّت أساساً في عينيها المُعبّرتين أكثر، ونبرات صوتها، وقدرتها على إبراز آثار الزمن وتغيّراته، خاصة أنّها وجدت نفسها فجأة مسؤولة عن عائلة مؤلّفة من خمسة أفراد بأعمار مختلفة، ورصيد مصرفيّ ممنوع استخدامه إلاّ بتوقيع الزوج، ومشاكل لا قِبَل لها بها.

تكافح يونيس من دون كلل، لمواجهة أعباء الحياة اليومية، ومن أجل قضية زوجها. تدرس القانون، بعد تجاوزها منتصف أربعينياتها، لملاحقة الدولة ودفعها إلى الاعتراف على الأقلّ بمسؤولية اختفائه أو خطفه أو قتله، أو في أسوأ تقدير معرفة مكان قبره. يُصبح البحث عن الزوج، والسعي الحثيث إلى تحقيق العدالة في عقودٍ عدّة، الشغل الشاغل لها، والأهمّ من أيّ شيء آخر.

عام 2010، تحصل يونيس على شهادة وفاة روبنز. لكنْ، أين قبره؟ من قتله؟ كيف؟ متى؟ لا أحد يعرف، فتظلّ حالة روبنز ومئات غيره من القضايا المُعلّقة والحسّاسة إلى الآن في البرازيل.

 

####

 

"المتدرِّب": سيرة صانع وحش يُدعى دونالد ترامب

نديم جرجوره

يُمكن مقاربة "المتدرّب (The Apprentice)"، لعلي عباسي (مخرج دنماركي ذو أصل إيراني، مولود في طهران عام 1981)، عبر شخصية تبدو ثانية لوهلة، قبل أنْ تُظهر حضوراً، يمنحها وصف الدور الأول. فالفيلم، الذي يستعيد فترة شبابية لدونالد ترامب (1946)، لن يبقى أسير شخصية المُرشّح ثانية إلى انتخابات رئاسة الولايات المتحدّة الأميركية (5 نوفمبر/تشرين الثاني 2024)، بقدر ما ستكون شخصية المحامي روي ماركوس كُون (1927 ـ 1986) ركيزة درامية للحكاية برّمتها، التي تكشف، في الوقت نفسه، البدايات التأسيسية لشخصية ترامب.

كُون يشتهر فعلياً في مرحلة التحقيقات الماكارثية (1950 ـ 1954)، المعروفة بـ"مطاردة الساحرات"، أي كلّ من يُشتَبه بأنّه/أنّها شيوعي. الأشهر في تلك الحقبة، بالنسبة إليه، قضية الزوجين إيتل ويوليوس روزنبرغ، المتّهمَين بالتجسّس للاتحاد السوفييتي (يُحكَم عليهما بالإعدام في 5 إبريل/نيسان1951، ويُنفّذ الحكم في 19 يونيو/حزيران 1953). لكنّ "المتدرّب" معني فقط بالعلاقة التي تنشأ بين محامٍ داهية ووصولي ومُخادع، وشاب حالمٍ بشهرة ومال وسطوة وحضور فاعل في المشهد العام.

اللحظات الأولى، التي يلتقطها علي عباسي (سيناريو غبريال شيرمان) "موحياً" برغبة ما للمحامي في الشاب (رغبة جسدية جنسية، فالمحامي مثليّ الجنس)، تؤسّس لعلاقة تقول، باختصار شديد، إنّ من يخلق الوحش في ذات فردٍ سيدفع لاحقاً ثمناً باهظاً، والفرد نفسه، بل الوحش الذي فيه، سيُرغِم صانعَه على دفع الثمن. اعتبار "المتدرّب" فيلماً عن الشاب دونالد ترامب، في فترات وحالات مختلفة (بداية تأسيس إمبراطوريته العقارية، علاقاته بأفراد عائلته، خاصة الأب ودونالد يكرهه، زواجه من عارضة الأزياء التشيكية إيفانا زلْنيتْشكوفا، إلخ)، صائبٌ وواضح. لكنّ روي كُون سيكون فعلياً "البطل" الحقيقي لفيلمٍ يختار زمناً مُحدّداً (سبعينيات القرن الـ20)، وهذا حسنٌ وجميل في أفلام السِيَر الحياتية ـ الذاتية، ليروي كيفية صُنع وحشٍ، من دون التغاضي عن أنّ في ترامب الشاب حينها ما يُسهِّل هذا الصُّنع.

كُون (جيريمي سترونغ) يدعو ترامب الشاب (سيباستيان ستان) إلى طاولته، للمرّة الأولى، في حانة فاخرة، وترامب الشاب سيُعجب به كثيراً، وسيتعلّم منه كيف أنّ الانحطاط، الأخلاقي أساساً، أداة سيطرة، ودافع إلى تحقيق المبتغى، وإنْ على حساب آخرين وأخريات، بل على حسابهم وحسابهنّ. ما يقوله المحامي للشاب، في بدايات التأسيس، قذراً ومنافياً لأي قيمة أخلاقية وبشرية وعاطفية. والشاب مولع بهذا كلّه، إلى حدّ أنّه لن يتردّد عن الاحتيال (بل محاولة الاحتيال) على والده، الذي ستُعطّله الأمّ في اللحظة المناسبة. لن يتردّد عن عدم الاهتمام بشقيقه الكحوليّ، الذي "يموت" بعد وقتٍ قليل. لن يتردّد عن اغتصاب امرأته، بعد أنْ يروي لكُون أنّه غير قادر على احتمالها، بعد جهدٍ يبذله لتوافق على الزواج به. لن يتردّد عن تحطيمٍ نفسي ومعنوي لصانعه، الذي يُصاب بمرض الإيدز، مع أنّه سيُخفي هذا كلّياً عن محيطين ومحيطات به.

رغم هذا، يحضر روي كُون كثيراً، في مفاصل جوهرية في حياة دونالد ترامب، وفي "المتدرّب" أيضاً. وحضوره طاغٍ، في قمّة سطوته، كما في انهياره في "وادي الظلمات"، بعد إصابته بالمرض، وبدء رحلة الموت، الصعبة والقاسية والمخيفة. رحلة كهذه تجعل روي كُون يُدرك أنّ "التخلّي" وحشٌ يُشبه الوحش الذي يُسمّى دونالد ترامب. كأنّ "المتدرّب" سيرة روي كُون أيضاً، لا سيرة دونالد ترامب الشاب فقط. وهذا غير عابرٍ.

"المتدرّب"، المعروض دولياً للمرّة الأولى في المسابقة الرئيسية للدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ"، تكثيفٌ لحكاية تبدو "أميركا" أقدر المواقع، الجغرافية والثقافية والتربوية والسلوكية والاجتماعية، على صُنعها. فيلمٌ يختلف عن اشتغال علي عباسي سابقاً، في الإيقاع الدرامي والسرد الحكائي وإدارة الممثلين/الممثلات، كما في ترجمة قصصٍ واقعية/حقيقية إلى أفلامٍ مشغولة بدقّة صائغٍ. "حدّ (ترجمة حرفية للعنوان الأصلي: Gräns)"، أو "حدود" (بحسب العنوان الإنكليزي الدولي)، موغلّ في غرائبية الذات البشرية، وتحوّلاتها الجسدية والروحية والمعنوية والفكريةفيلمٌ (2018) منبثقٌ من ثقافة وتربية وتفكير اسكندنافيّ، لن تحضر كلّها في "عنكبوت مقدّس" (2022)، المرتكز على قصة حقيقية، تحصل في "مشهد" (مدينة إيرانية مقدّسة) عامي 2000 و2001: رجلٌ، يُعرف لاحقاً باسم "العنكبوت"، يقتل 16 عاهرة، لكنّ الفيلم يفضح شيئاً من تناقضات مجتمع محافظ، وسطوة ذكورية، وعلاقات مخادعة.

لعلي عباسي أعمالٌ قليلة، سينمائية وتلفزيونية. "المتدرّب" تجربة مغايرة تماماً، تعتمد أسلوباً أميركياً في سرد فصولٍ من سيرة حياة شخصية عامة، بعمقٍ درامي يُحلّل نفوساً وأنماط عيشٍ وتفكير، بلغة سينمائية تمتلك إيقاعاً حيوياً، وأداءً رائعاً (خاصة جيريمي سترونغ، أحد أبرز الممثلين الرائعين في السلسلة التلفزيونية Succession المنجزة بين عامي 2018 و2023)، وتوليفاً (الدنماركيان أوليفي بوغي كاوتي وأوليفيا نيرغارد ـ هولم).

فيلمٌ يُروَّج له بأنّه مرآة فاضحة لدونالد ترامب الشاب، فإذا به يكون مرآة فاضحة لنمط تفكير أميركي استعلائي ولا أخلاقي ووحشيّ.

 

العربي الجديد اللندنية في

30.10.2024

 
 
 
 
 

بيدرو ألمودوفار سيد الأفلام الغامضة، ألَّف كتاباً لا يستطيع تصنيفه

كان يحلم منذ طفولته أن يصبح كاتباً

نيكولاس كيسي

يجري النظر إلى بيدرو ألمودوفار، على نطاق واسع، باعتباره أعظم مخرج سينمائي إسباني على قيد الحياة. أما هو فيرى نفسه كاتباً في المقام الأول - «كاتب حكايات»، بحسب وصفه. واتخذت هذه الحكايات الباذخة منعطفات يصعب التنبؤ بها أو حتى تحديدها.

دارت إحدى قصصه حول رجلين، يبنيان رابطة قوية بينهما، يطيلان النظر إلى امرأتين غائبتين عن الوعي، وفي قصته المعنونة «الجلد الذي أعيش فيه»، تناول قصة جراح تجميل يجري عملية جراحية لرجل أسير، ويحوله إلى امرأة ضد إرادته.

من بين أكثر من 20 فيلماً روائياً له، كتب ألمودوفار أو شارك في كتابة جميعها تقريباً. في الواقع، وربما أمضى أياماً على مكتب الكتابة، أكثر من وقته داخل مواقع التصوير.

وفي وقت لاحق، اتضح أنه كان يكتب أشياءً أخرى كثيرة - قصص قصيرة، ومذكرات يومية، وبضعة مقالات غير قابلة للتصنيف - على مدار فترة انهماكه في صناعة الأفلام. كانت القصص موجودة في عدة مجلدات زرقاء غامضة، جمعتها مساعدته لولا غارسيا على امتداد الفترة التي تنقل خلالها المخرج مرات عدة بين شقق مختلفة في مدريد.

وفي عام 2022. بناءً على إلحاح المحرر الأدبي الإسباني غاومي بونفيل، ألقى ألمودوفار نظرة على ما جرى حفظه من كتاباته على مر السنين.

يعلق بونفيل على الأمر بقوله: «كان الأمر أشبه برؤية جانب من شخصية بيدرو لم أكن أعرفه»، مضيفاً أن «المخطوطات التي تولوا فرزها تحتوي على كتابات كتبها المخرج عندما كان مراهقاً، بجانب قطع أخرى يبدو أن ألمودوفار كتبها بعد عقود»، ونشرت مجموعة كتاباته تحت عنوان «الحلم الأخير»، باللغة الإنجليزية، في 24 سبتمبر (أيلول)، الماضي.

يحيط الغموض بمحتوى هذه المجموعة: هل هي مذكرات؟ (كانت إحدى القطع عبارة عن فقرة كتبها في دفتر يوميات قبل عامين)، أم هي محض خيال، أم مجرد مسودات لأفكار يمكن أن تكون إلى قصص خيالية - أم قصص غير مكتملة لم يحولها المخرج إلى فيلم؟ (هناك قصة عن انضمام الكونت دراكولا إلى دير في إسبانيا).

ومثلما الحال مع أفلامه، لا يشعر ألمودوفار بالحاجة إلى وضع إنتاجه في خانة أي نوع أدبي محدد.

في مقدمة الكتاب، ذكر ألمودوفار أنه: «طُلب مني كتابة سيرتي الذاتية أكثر من مرة، ولطالما رفضت ذلك. ويمثل هذا الكتاب شيئاً من المفارقة. وربما يكون من الأفضل وصفه بأنه سيرة ذاتية مجزأة، غير مكتملة وغامضة بعض الشيء».

وربما يكمن اللغز الأكبر في «الحلم الأخير»، وفي السبب الذي دفع ألمودوفار إلى اختيار نشر أي شيء من كتاباته من الأساس. المعروف أن الكثير من الفنانين المشهورين يعمدون إلى حرق أعمالهم التي أبدعوها في فترات الشباب، بدلاً من أن ترى النور. أما ألمودوفار، فقد اختار النهج المعاكس، ونشر المجموعة دون أدنى تحرير تقريباً.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: لماذا، بعد سنوات من إبقاء هذه الحكايات بعيداً عن الأنظار، اختار ألمودوفار كاتب القصص الخيالية، إطلاقها للعالم؟

اليوم، في سن الرابعة والسبعين، يتمتع ألمودوفار بحضور نادر لرجل قلما يحمل بداخله ندماً. وقد ولد ألمودوفار في ظل حكم الجنرال فرانشيسكو فرانكو، لكنه بلغ سن الرشد بعد وفاة الديكتاتور، وفي وقت أصبح من الممكن إنتاج أفلام عن الجنس والمخدرات في إسبانيا.

عام 1986. أسس هو وشقيقه أغوستين، شركة إنتاج خاصة بهما، حملت اسم «إل ديسيو»، مما منح المخرج نوعاً من السيطرة الفنية على أفلامه، قلما تمتع بها أحد من قبله. وفي مقابلة أجريت معه في مكتبه، هذا الصيف، قال بنبرة عكست شعوراً بالفخر والدهشة معاً: «الآن، يدرس الناس أفلامي في أقسام الجامعة».

ورغم ادعاء ألمودوفار بأن كتابه سيرة ذاتية، لن يشعر سوى القليل من القراء أن «الحلم الأخير» مذكرات شخصية. ومع ذلك، فإن المجموعة، قصة تلو الأخرى، تستعيد ذكريات الماضي، وتعكس مراحل مختلفة من حياة ألمودوفار، وتحمل كل قطعة مفتاحاً يسلط الضوء على مجمل أعمال ألمودوفار.

وباستطاعة أي متابع لألمودوفار أن يتعرف على الفور على حبكة فيلمه المثير «التعليم الرديء» ــ وقد ظلت القصة حبيسة مجلد أزرق لسنوات، قبل أن يحولها ألمودوفار أخيراً إلى فيلم عام 2004. وعبر القراءة، لا تملك سوى أن تتساءل أحياناً: هل القصة التي أطالعها الآن، ذات المخطوطة التي شاهدتها على الشاشة قبل عشرين عاماً؟

والآن، من هو ألمودوفار؟ أجاب عن ذلك بقوله: «في هذا القرن الجديد أصبحت أكثر كآبة، وأكثر تقشفاً، وأكثر حزناً، وأقل ثقة، وأكثر افتقاداً للأمان، وأشد خوفاً».

وخلال المقابلة، بدا وكأنه يقول إنه رغم إنتاجه المستمر للأفلام، فإن ثمة جزءاً منه يتباطأ: «هناك مهارات معينة تتلاشى تدريجياً بمرور الوقت. أتذكر أنني على مدار شهر واحد، كنت أفكر في 10 قصص يمكنني كتابتها وتحويلها إلى أفلام. اليوم، اختفت هذه القصص».

بعد ذلك، بدا وكأنه يريد التراجع عن هذا الاعتراف. وقال: «لحسن الحظ، الأدب والسينما مهنتان تتمتعان بطول العمر. الأمر ليس مثل لاعب التنس الذي ينهي مسيرته المهنية في سن الـ35».

يتناول فيلم «الغرفة المجاورة»، الذي عُرض للمرة الأولى في مهرجان البندقية السينمائي الأخير، «مشكلة الموت» التي يعاني منها ألمودوفار، على نحو أكثر صراحة من أي من أعماله السابقة، كما أنه أول فيلم له باللغة الإنجليزية. السيناريو، يدور حول مراسلة حربية سابقة تخطط للانتحار، بعد رفضها العلاج من مرض عضال. وتنضم إليها صديقة كاتبة تخشى كل ما يتعلق بالموت، ولكنها توافق على مرافقتها خلال أيامها الأخيرة.

يقول ألمودوفار: «يدور أحدث فيلم أخرجته عن الموت، لكنه يتحدث كذلك عن محاولة التعايش مع الموت». (نال الفيلم، الذي تقوم ببطولته تيلدا سوينتون وجوليان مور، تصفيقاً حاراً استمر لمدة 20 دقيقة في مهرجان البندقية، وفاز بجائزة الأسد الذهبي لأفضل فيلم).

يطل الموت برأسه مرة أخرى في القصة التي يحمل كتابه، «الحلم الأخير»، عنوانها، وتعتبر بمثابة تكريم لوالدته، فرانشيسكا كاباليرو، التي توفيت عام 1999. في هذا الصدد، يقول ألمودوفار إن والدته كاباليرو هي التي عرفته للمرة الأولى على أسلوب «القصص الخيالية» داخل قريتهم، عندما كانت تقرأ الرسائل لجيرانها الأميين. وفي كثير من الأحيان، كانت تزين مضمون الرسائل بخيالات، قال ألمودوفار إنها غالباً ما كانت تأتي أبهى من الحقيقة.

في قصة ألمودوفار، كانت كاباليرو في المستشفى، في لحظاتها الأخيرة على الأرض، بينما كان أفراد أسرتها ملتفين حولها، ثم سقطت فجأة في سبات عميق. وعندما استيقظت، سألت عما إذا كانت هناك عاصفة، وفي غضون فترة وجيزة ماتت. وعن ذلك، كتب ألمودوفار: «كان الجمعة يوماً مشمساً، بينما تسللت بعض أشعة الشمس تتدفق عبر النافذة. يا ترى ما العاصفة التي كانت والدتي تشير إليها في حلمها الأخير؟»

من الحديث عن موت والدته، عاد ألمودوفار إلى موته. وفي حديثه معي، قال: «إنها مسألة بيولوجية، لكن عندما يتعلق الأمر بالموت لا أعتقد أنني تطورت حقاً ذهنياً على نحو يجعلني أتقبله ـ فقط لقبول أنه جزء من طبيعة الحياة. الحقيقة، لم أبلغ هذه النقطة بعد».

ومع ذلك، عندما عاد إلى قصته عن الكونت دراكولا - في القصة، يتعلم مصاص الدماء الخالد خداع الموت بشرب الدم من صليب - كان من الواضح أن جزءاً من المخرج قد تقبل أنه يقترب من نهاية حياته المهنية. وقال إنه لطالما راودته الرغبة في تحويل القصة إلى فيلم، لكنه كان يعلم أن القصة ربما لن تُروى بأي شكل آخر.

آخر قطعة لألمودوفار في المجموعة - أحدث قطعة جرى سحبها من المجلدات الزرقاء - مقال بعنوان «رواية رديئة»، ويتحدث فيها عن آراء الآخرين به ككاتب.

يقول: «في وقت مبكر، عندما كنت صغيراً، كان حلمي أن أصبح كاتباً، وأن أكتب رواية عظيمة. بمرور الوقت، أثبت الواقع أن ما كتبته سيصبح أفلاماً حتماً. أدركت أن كتاباتي لم تكن قصصاً أدبية، بل كانت مسودات أولية لسيناريوهات».

ويختتم ألمودوفار حديثه قائلاً إن الحياة غالباً ما تدور حول تغيير المسار نحو ما تجيده، ويقول إنه كان محظوظاً في هذا الصدد.

* خدمة: «نيويورك تايمز».

 

الشرق الأوسط في

02.11.2024

 
 
 
 
 

ديمي مور تواجه مأزق العمر المتقدم في فيلم "المادة"

خوف الإنسان ومأساته حين يخونه جسده في أوج شبابه الروحي

زياد عبدالله

ملخص

لا تستيقظ إليزابيث في فيلم "المادة" The Substance (2024) لتجد نفسها وقد تحولت إلى صرصار كما غريغوري سامسا في رواية كافكا "التحول"، ولا هي تصير إلى ذبابة كما حصل مع سيث في فيلم ديفيد كروننبرغ "الذبابة"، كما أن هنري لم يصوّرها في بورتريه خالدة، فأمست لوحتها مرصداً لتشوهات أعماقها وروحها، كما في رواية أوسكار وايلد "صورة دوريان غراي"، كلُّ ما في الأمر أن إليزابيث تقدمت في العمر!

إليزابيث (ديمي مور) نجمة مشهورة، ومقدمة برنامج تمارين رياضية واسع الانتشار في فيلم المخرجة الفرنسية كورالي فارغيت "المادة"، وهي لا تمهلنا سوى بضع دقائق لنكون في خضم مأزقها، الآتي من أن المنتج هارفي (دينس غويد) خلص إلى أنها أصبحت "عجوزاً"، لقد وصلت الـ50 من عمرها! وهو يبحث عن بديل منها!

ماذا ستفعل؟ كيف لها أن تجابه هذا المأزق وهو آت من جسدها وعمرها وكل ما هو خارج إرادتها؟ هل تقول "ألا ليت الشباب يعود يوماً..." وتضحي بنجوميتها وشهرتها وصورها تملأ كل مكان؟

صراع الطرف الواحد

صراع إليزابيث ماثل في جسدها، على اتصال بالعمر والزمن، والمرعب في الفيلم سيأتي من هنا، من خوف إنساني أصيل قد لا يستثني أحداً، أي ذاك المرتبط بالتقدم بالعمر والشيخوخة، من مأساة الإنسان حين يشعر أنه شاب في روحه وتطلعاته وسعيه، إلا أن جسده يشيخ ويتقهقر، وتحديداً حين يكون سر النجاح هو الجمال والشكل الخارجي، وبالتالي فإن الصراع هنا يكون بين الشخصية وجسدها، بينها وبين ما هو حتمي، إذ ما من طرفين في هذا الصراع، بطل وبطل نقيض، شرير وخيّر، ولا محيد عن الهزيمة! وهذا يقود أيضاً للقول إن صراع إليزابيث سيكون في البداية مع شيء لا يتجسد فيزيولوجياً كطرف آخر.

الانتصار على هذه المعضلة سيكون بتدخل خارجي، متناغم بدوره مع المأزق، وبكلمات أخرى مجابهة الطبيعي بغير الطبيعي، وهنا تحضر "المادة"، بعدما تتعرض إليزابيث لحادثة سيارة، فيعاينها طبيب في المستشفى، يفحص عمودها الفقري ويخلص إلى أنها "مثالية"، لذا صالحة تماماً لاستخدام "المادة" وفقاً لما يلي، "هل حلمت يوماً بنسخة أفضل من نفسك؟ أصغر سناً، أجمل، وأكثر كمالاً، حقنة واحدة فقط تفعّل حمضك النووي، فتبدأ انقساماً خلوياً جديداً، يطلق نسخة أخرى منك، هذه هي (المادة)، أنت الأصل، كل شيء يأتي منك، كل شيء هو أنت، إنها ببساطة نسخة أفضل منك، عليك فقط المشاركة، أسبوع لك وأسبوع للآخر، توازن مثالي من سبعة أيام لكل منكما، الشيء الوحيد الذي لا يجب أن تنساه: أنتما كيان واحد، ولا يمكنك الهرب من نفسك".

الولادة من الظهر

ما إن تمضي إليزابيث في تلك التجربة وتحقن نفسها بـ"المادة"، حتى يدخل الفيلم طوراً جديداً، إذ تولد من ظهرها امرأة جديدة عشرينية اسمها سو (مارغريت كوالي) يانعة فائقة الجمال، لم تمسس بشرتها التجاعيد ولم يداخل وجهها خط واحد، بل صفاء وكمال، مع جسد رشيق بديع.

ابتداء من هذا الحدث المفصلي، يتجسد الآخر، يصبح ما يعتمل في دواخل إليزابيث شخصية أخرى، تجد فيها حلاً جذرياً لمأزقها، وسو بدورها سرعان ما يؤخذ بها المنتج هارفي وتصبح نجمة جديدة تُفتح أمامها أبواب الشهرة كلها.

 لكن لنتذكر أنهما "كيان واحد" فـسو هي إليزابيث والعكس صحيح، وهنا يتجسد الحل لمأزقها، يخرج من جسمها على هيئة امرأة أخرى تلبي كل ما تحتاج إليه لتواصل حضورها في دنيا الشهرة والأضواء، لكن هل هما كيان واحد بحق، هل سيبقيان كذلك؟ والإجابة عن هذا السؤال معبر الفيلم إلى الصراع؟

دوريان غراي وإليزابيث

يقوم الرسام في رواية أوسكار وايلد "صورة دوريان غراي" برسم صورة أو بورتريه لغراي (فاوست الجمال)، سرعان ما تتحول إلى صك أو مرآة سحرية تسبر أعماقه السحيقة، وتترصد ذبول روحه وانهيارها أمام اللورد هاري (مفستوفيلس)، ومع كل خطيئة أو رذيلة يرتكبها غراي تتحول إلى تغضن أو تجعيد يظهر على سطح الصورة، وعندما يلقي دوريان جراي نظرته الأخيرة عليها يصعقه وجه يجهله تماماً، وجه مشوه بلا ملامح يدفعه لأن يطعنها (الصورة) على أمل أن يمزقها، فيموت هو بدلاً منها ولم تنقص منه ذرة نضارة واحدة.

في إسقاط ذلك على فيلم "المادة" فإن طمع إليزابيث بالجمال والشباب والنضارة، سيقودها إلى أن تتحول إلى مسخ كما صورة غراي، وهي تريد أن تبقى سو الشابة، وعليه تقدم على الإخلال بشروط استخدام "المادة"، فتتخطى سو السبعة أيام، وجراء ذلك تبدأ التشوهات بغزو جسد إليزابيث ووجهها، وحين تصبح كل الأيام لـ سو، فإن إليزابيث ومع نفاد "المادة" تتحول إلى مسخ، ويحتدم الصراع بين الممسوخ والجميل، بين الهرم واليانع، بين الماضي والمستقبل.

ما من أي خطأ أو خلل أو عيب في المادة، ما من مصادفات في فيلم فارغيت، ولا تفسير لماهية هذه المادة أو كيف أو من اخترعها، كل ما يهم صراع الشخصية مع ذاتها، والرعب فيه يبدأ سيكولوجياً، ثم يتحول إلى مزيج من رعب الوحوش أو المسوخ، والكوميديا السوداء، وهو بذلك يتناغم ويتكامل، بينما يتأسس الرعب –على سبيل المثال- في فيلم ديفيد كروننبرغ "الذبابة" The Fly (1986)، على خطأ في تجربة علمية، حيث العالم سيث يعمل على تجربة يسعى من خلالها إلى الانتصار على حاجزي المكان والزمان في تنقّل الأشياء والكائنات، فهو يضع قرداً في حجرة وينقله إلى أخرى بعملية تحويلة، فإذا به يجربها على نفسه، لكن ذبابة تتسلل إلى حجرته، تمتزج بجيناته حين ينتقل إلى الحجرة الأخرى، وهكذا نعايش أطوار تحوله إلى ذبابة، بدءاً من شقلباته وليونة جسمه العجيبة وتناوله السكريات بلا توقف، وصولاً إلى تغيرات جسمه وقد أمسى ذبابة عملاقة في النهاية.

مع فيلم "المادة" يحضر "الغروتسك" بقوة، طالما أن هذا المفهوم قادر تماماً على أن يكون جسراً بين الجمال والقبح، وبين الطبيعي وغير الطبيعي، على رأي أمبرتو إيكو، وهو بصورة أو أخرى انعكاس للانحرافات والتشوهات البشرية، حتى وإن كانت مألوفة وعادية، مما يسمح للإنسان أن يتأمل الجوانب المعتمة في نفسه والعالم، التي غالباً ما يتم قمعها أو تجاهلها، وهذا تماماً ما قدمته كورالي فارغيت كتابةً وإخراجاً ونال جائزة أفضل سيناريو في دورة مهرجان كان الأخيرة 2024، فالمألوف أو العادي في "الغروتسك"، سيحيلنا إلى عمليات التجميل، والسعي إلى الانتصار على عوامل الزمن بتدخلات جراحية ونحو ذلك، يتحول الإسراف بها إلى تحويل الإنسان إلى مسخ، كذا هي هشاشة النجومية القائمة على الشكل الخارجي ولا شيء سواه، حيث بإمكان أي شيء أن يشوهها وينال منها، كما هي نجمة إليزابيث المرسومة على الرصيف، التي يبدأ وينتهي بها الفيلم.

 

الـ The Independent  في

04.11.2024

 
 
 
 
 

{المبتدئ}.. الصعود التراجيدي والمرعب لدونالد ترامب

مبارك حسني

الأفلام التي تنبني على السيرة الذاتية لشخصية معروفة، عامة أو تاريخية أو لعبت دوراً كبيراً في مجال ما، لا تنجح كثيراً في استقطاب تناولٍ سينمائي قوي ومؤثرٍ وموحٍ من حيث التلقين أو التعلم. ولكي تنجح، فهي في الغالب تنقل حيوات الراحلين من المشاهير. لكن في هذه السنوات الأخيرة، اختارتْ بعض السينماتوغرافيات العالمية، في أميركا وفي فرنسا خاصة، إخراج أفلام عن شخصيات لا تزال فاعلة في مجال نشاطها الحياتي. لدوافع قد تكون إبداعية أو لكي تنخرط السينما في الجدال العام حولها. وهذا المعطى الأخير هو الذي يبدو حاسماً في اختيار المخرج الإيراني ذي الجنسية الدنماركية، علي عباسي، الإقدام على إخراج هذا الفيلم حول المرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية في أميركا، الرئيس السابق دونالد ترامب.
وقد كتب السيناريو الصحفي السياسي غابرييل شيرمان، رئيس تحرير نيويورك ماكازين
.

اسم الفيلم مأخوذ من سلسلة "ذا أربنتيس" أو "المبتدئ"، وهو عنوان مستوحى من برنامج الواقع الذي أنتجه وقدمه دونالد ترامب ذاته. وتتلخص فكرته في وضع مجموعة من المرشحين في وضع تنافس حادّ من أجل الظفر بمنصب إداري في شركة كبرى. لا يهم من ينجح في الأخير بقدر ما يهُم إهانة الخاسرين بتوظيف تعبير "أنت  مطرود".

تمت بذكاء استعارة العنوان لحكي بدايات دونالد ترامب التي تميزت بعلاقته في الثمانينيات من القرن الماضي، مع محامٍ مشهورٍ كان جدّ محافظ، ويلقب بصانع الملوك، لقوة دهائه وانعدام الرأفة في مرافعاته وانخراطه السياسي، وصلاته المشبوهة مع صانعي القرار من جهات عديدة. إنه روي كوهن (1927 - 1986). هو الذي علمه كما جاء الفيلم كل ما سيوظفه فيما بعد للنجاح في بناء ثروته في تجارة العقارات. جاء في صفحة سينما ليوم الأربعاء 9 أكتوبر/ تشرين الأول، لصحيفة لوموند الفرنسية ما يلي :"هذا الأب الثاني هو شخصية قدوة منحرفة، علمه احتقار القانون، وغياب الوازع، والشراهة، وعقيدة سلوك معتمد على نظرية ميزان 

القوى".

وجه أميركا المُقلق

ركزت جل الصحف والمجلات الفرنسية على الجانب المقلق في الفيلم، الذي يدور حول مسلسل الصعود التراجيدي والمرعب لدونالد ترامب، والمُصوَر على الطريقة الهوليوودية التي تضخم طباع الشخصيات وتجُرُّ حبل التشويق حد تكسيره.

في هذا الصدد، تقول مجلة "الشاشة العريضة" بأن " فيلم "المبتدئ" هو قبل كل شيء انعكاس جيد لتطور الرأسمالية الأميركية في نهاية القرن العشرين، وللطريقة التي سمحت لشخصيات مثل دونالد ترامب بالبروز من خلالها

الجريدة الجهوية "صوت الشمال" اعتبرت بأن المثير للاهتمام في الفيلم هو أنه "ليس في حاجة إلى أن يكون من النوع السينمائي الهزلي المبالغ فيه بقفشات الهذيان والسخرية السطحية، لأن الشخصية الحقيقية تتولى ذلك بنفسها، مبينة بذلك تلاحم الواقع الحي بين ما هو معروف في سيرة الرئيس الأميركي الأسبق والمتخيل السيناريستي، فيجد المشاهد نفسه في واقع سينمائي يقترب بشدة مع الذي تبثه القنوات الإخبارية لكبريات القنوات التلفازية. وربما ذلك كان قصد منتجي الفيلم ومخرجه. وهو عين ما كتبته صحيفة لومانيتي، التي وجدت في الفيلم وسيلة سعي حثيث للخيال كي يواكب الواقع.

"دفاتر السينما" قرأت الفيلم بتوظيف كتابتها من وجهة نظر سينمائية خالصة. فرأت بأنه تطرق إلى مواضيع عديدة ووظف أشكالاً فنيةً مختلفةً، واستعمل تقنية الفيديو على طريقة الإخراج الصُّوري في مجلة صقيلة لا غير. وترى بأنه يفصِّل شكل العالم الذي يتطور على مقاس تطور شكل إنسان سيصبح في المحصلة الأخيرة أيقونة هذا العالم، ومباشرة بعد ذلك سيده بعد انتخابه رئيساً سنة 2016.

الصحيفة ذات التوجه المسيحي" لاكروا" ترى أنه أبدع في إعادة بناء نيويورك كما كانت عليه في تلك الفترة، والتحول التدريجي الذي عرفته نحو عقد الليبرالية المترفة في سنوات ريغان، والتي أنتجت دونالد ترامب.

شريط سينمائي كهذا لا بد أن يثير ردود أفعال قوية ومتناقضة. المكلفون بحملة دونالد ترامب الرئاسية لم يستسيغوا الصورة التي رسمها له، حد التهديد بمتابعته

إلا أن الأهم هو كون المخرج إيرانياً، ولد بإيران وكبر بها، قبل أن يهاجر إلى أوروبا. سألته مجلة "إيسكوير" حول هذه النقطة فقال بأن الأميركية له علاقة ببعضٍ من هوسه غير الصحي بالسياسة الأميركية، وأرجع ذلك إلى وضع إيران تجاه الولايات المتحدة الأميركية. "

كنا مستعمرة أميركية حتى عام 1979. وبين عشية وضحاها، تحولت إيران من أكبر صديق لأميركا في الشرق الأوسط إلى عدو، وكصانع أفلام، وكفنان، هناك شيء مثير للاهتمام حول الجانب الأدائي للسياسة الأميركية. لا يوجد مكان آخر بهذه الشفافية والتطرف.

المصدر (esquire.com) 

 

الصباح العراقية في

04.11.2024

 
 
 
 
 

بدايات ترمب في فيلم سينمائي... عن "المتدرب" الذي تفوق على أستاذه

طفل لم يتجاوز جراح طفولته

أريج جمال

شيء من الانتهازية السينمائية، والكثير من الذكاء والحيوية ومحاولة الفهم... هذه بعض من الصفات التي تسهل ملاحظتها في فيلم "المتدرب" The Apprentice من إنتاج كندي، دانماركي، أيرلندي وأميركي مشترك، ومن سيناريو للصحافي غابرييل شيرمان وإخراج علي عباسي. يقدم "المتدرّب" سيرة ما للرئيس الأميركي السابق والمرشح الحالي للرئاسة دونالد ترمب. ويصعب القول إن الفيلم هو السيرة الذاتية الوحيدة أو حتى الحقيقية، لشخصية مؤثرة على الصعيدين الأميركي والدولي، فالرجل لا يزال بيننا متحرِكا ويملك صوته، وقد يُنتخب مجددا رئيسا للولايات المتحدة.

مع ذلك، تبقى هذه الاحتمالية السينمائية عن حياة دونالد ترمب، جذابة فنيا، بالأخص مع حضور الممثل سيباستيان ستان، في دور ترمب، وهو الموهوب في التقمص، إلى حد لا تبدو استعارته قناع ترمب تقليدا للرجل الشهير، بل مجرد انزلاق محسوب وعابر إلى جسده الضخم. لقد شاهدنا من قبل أفلاما روائية عن سياسيين موتى أو رجال أعمال لم يعد لهم مكان في المشهد، لكن هذه من المرات النادرة التي نتفرج فيها على فيلم عن رئيس ورجل أعمال لا يزال حيا، قد يتغيّر مصيره وقناعاته في أي لحظة.

من ناحية أخرى، هذه الجرأة الفنية، في تناول شخص ترمب من دون الرجوع إليه ومن دون أن يكون هذا التناول بصورة إيجابية، جعل أصحاب العمل يجابَهون مرات عدة بتضييقات إنتاجية، ولاحقا تملص شركات التوزيع، وملاحقات قضائية من جانب فريق ترمب.

غير أنهم واصلوا عملهم غير آبهين لكل هذه العراقيل، وصدر الإعلان الأول عن الفيلم، حسب موقع ويكيبيديا، في العاشر من سبتمبر/ أيلول الماضي، متزامنا مع المناظرة الرئاسية بين دونالد ترمب وكامالا هاريس.

هذه من المرات النادرة التي نتفرج فيها على فيلم عن رئيس ورجل أعمال لا يزال حيا، قد يتغيّر مصيره وقناعاته في أي لحظة

لماذا ترمب؟

يمكن القول إن "المتدرب" كفيلم هو القوس المفتوح بين العبارة التي يُخبر بها دونالد إحدى رفيقاته في مطعم نيويوركي باذخ، وهو لا يزال شابا غرا: "أظن أن المرء يولد مليارديرا، أظن أنهم يحملون ذلك في جيناتهم"، وهو ينظر حوله الى الأثرياء مرتادي المطعم الليلي، ولا يلفت انتباه أي منهم. وبين العبارة التي يوجهها ترمب رجل الأعمال المتعجرف الممتلئ بنفسه، الى الصحافي في المشهد الأخير تقريبا من الفيلم: "لقد ولدت بغريزة القاتل". بين التردد الأول، وعدم التصديق، ثم الشعور المفرِط بالقوة والثقة إلى حد الغرور، تجري أحداث هذا الفيلم.

كلمة السرّ في هذا التحوّل، هي لقاء ترمب في شبابه المحامي المكيافيلي روي كون، يؤديه جيرمي سترونع، في إحدى الليالي، في المطعم نفسه، أو الملهى الليلي، والافتتان الذي يختبره روي على الفور إزاء دونالد، وتصميمه على تحويل حياة معبوده إلى مسار يشتهيه دونالد الشاب في هذه اللحظة، لكنه لا يظن في نفسه القدرة على تحقيقه. وسريعا نفهم أن والد دونالد، لا يؤمن بقدرات ابنه، كما يفعل روي، وربما لا يؤمن بقدرات أحد من أبنائه، وأن للأب نفسه مواقف تحتقر السود مثلا، والأعمال التي لا تدر أموالا طائلة. وهذا يعني أن الطريقة الوحيدة للحصول على اعتراف الأب، أمام دونالد الشاب، كانت المزيد من التفوق في المال والأعمال، والمزيد من اللامبالاة إزاء المحتاجين أو الضعفاء من أي نوع، ولو كان شقيق دونالد نفسه، فِريد، الخروف الأسود، والتجلي الصريح لعُقد الأب وإساءاته الى أولاده، مع أننا في الفيلم لا نرى منها الكثير.

 إلى هذا يصير المحامي روي الأب الروحي البديل لدونالد، الهدية من السماء التي سقطت فوق رأس الشاب الرومنسي، وكان لا يزال قادرا على الحب وإهداء الورود الى عارضة الأزياء التشيكية، التي ستصير لاحقا زوجته الأولى إيفانا زيلنكوفا. هو الذي سيعلمه قواعده المكيافيلية، وهو الذي سيذلل له العراقيل القانونية أمام أحلامه في بناء برج ترمب، بعد أن يطرد ساكني العقار الذين لا يدفعون أجر سكناهم، بل إنه حتى سيقنع دونالد بأن توقع زوجته المستقبلية إيفان عقدا للزواج يجبرها على التخلي عن بعض من حقوقها إن تم لاحقا الطلاق. ويستخدم روي كل الأساليب الدنيئة الممكنة لتركيع خصومه، فهو يملك مكتبا كالبئر السوداء، يحوي أسرار الشخصيات العامة، ويكفي أن يسحب ملفا باسم محدد، حتى يخضع المسؤول لطلبات روي التي تصب في صالح التوسع المشتهى لترمب في سوق العقارات. هكذا، مثّل روي كون، الصورة النموذج، لدونالد الشاب، ممررا كل ما يفعل، بخطاب الدفاع عن أميركا ضد أعداء خياليين، والحديث السائل عن الديمقراطية، الذي يسمح "بالهجوم المستمر، وعدم الاعتراف بأي شيء، والادعاء المتواصل بالانتصار، ولو حتى في لحظات الهزيمة"، وهي القواعد الذهبية لروي كما لقنها لتلميذه.

يصير المحامي روي الأب الروحي البديل لدونالد، الهدية من السماء التي سقطت فوق رأس الشاب الرومنسي

وكأن روي كون، كما عرفه دونالد، كان هو دونالد ترمب المستقبلي نفسه، وكأن روي أيضا، لم يصدق أن في وسع هذا الشاب الذكي، "المتدرب"، أو التلميذ، أو الحواري، أن يصل إلى ما وصل إليه فعلا دونالد ترمب الحقيقي، وأن يتضخم إلى هذا الحد، الذي سيفقد روي معه، ذلك الافتتان القديم، ويتبدل الحب إلى غضب أو خشية، أو رغبة عاجزة في الانتقام.

في هذا المعنى فإن الثنائي (روي – دونالد) جسّد شيئا من الحلم الأميركي، في الصعود السريع والثراء المحتوم والقفز فوق الصعوبات، لكن كذلك في التحلل السريع للذات، وفقدان القدرة على التواصل الإنساني، حين تصبح كل العلاقات علاقات مصالح، بما في ذلك علاقة زواج ترمب بمحبوبته إيفانا، وسأمه اللاحق منها، وإذلالها إلى درجة اغتصابها (والحادثة أخذها صُناع الفيلم من سجلات قضية الطلاق التي رفعتها ضد ترمب)، علاوة طبعا على تفسخ علاقات ترمب بعائلته، ورغبته في التحكم في ميراث إخوته. وباختصار، فإن علاقة روي ودونالد تكبّر داء الذات الأميركية المنغلقة على نفسها، ضد العالم الذي يراه ترمب "لا يعامل أميركا بالاحترام الكافي". والفيلم الذي يرتكز سرديا على هذه العلاقة بتحولاتها من النصف الأول إلى الثاني، يمنحنا نبذة عن عالم ترمب الداخلي، كما يعبّر عنه في خطاباته الشعبوية، وفي معاركه الانتخابية، وإهانته لخصومه، وإحساسه المتواصل بأن العالم يتآمر ضده وضد وطنه.

فاشية صاعدة

بالطبع، يعبّر الفيلم عن أفكار صنّاعه ومنتجيه التي لا تتمترس في معسكر واحد مع اليمين المحافظ الذي ينتمي إليه ترمب. ولو أن دونالد ترمب نفسه مَنْ قرر إنتاج هذا الفيلم لتغيّر طبعا التحليل النهائي للشخصية، ولانقلبت السردية، صانعة بلا شك من ترمب الرجل المعجزة، الخيميائي الذي يحوّل التراب إلى ذهب، والذي يملك مفاتيح جنة أميركا، وسيمررها للأميركيين حين ينتخبونه. وهي الأفكار التي يعبر عنها ترمب في حياته، مدعيا الانتصار في أشد لحظاته مأسوية.

في الأسلوب السينمائي لـ"المتدرب" حيوية تضاهي حيوية مسيرة دونالد ترمب الحقيقي وطموحاته، ورغباته التي تتحدى الزمن والواقع

استند الفيلم إلى الحكايات التي جمعها السيناريست غابرييل شيرمان عن دونالد ترمب من العاملين في مكتبه طوال سنوات، وكذلك إلى ما أورده الصحافي هاري هارت في كتابه عن ترمب  Lost Tycoon: The Many Lives of Donald J. Trump، لا سيما في مسألة إدمانه بعض العقاقير المسببة للنشوة، بعد مروره باكتئاب حاد إثر موت شقيقه، إضافة طبعا إلى سجلات طلاق زوجته الأولى منه. هذه بعض من المصادر التي نعرفها، للفيلم الذي يصوره مُخرِجه علي عباسي بأسلوب التحقيقات الاستقصائية، محاولا إعطاء بعض الانطباع بالواقعية، عبر مونتاج إيقاعه سريع، وكاميرا محمولة وغير ثابتة. في الأسلوب السينمائي لـ"المتدرب" حيوية تضاهي حيوية مسيرة دونالد ترمب الحقيقي وطموحاته، ورغباته التي تتحدى الزمن والواقع. وهو، وإن كان فيلما عن أفكار ترمب المتطرفة، أو حتى نرجسيته، هو أيضا عن شخصه المسكين، والطفل الذي لم يتجاوز قط جراح طفولته.

 

مجلة المجلة السعودية في

05.11.2024

 
 
 
 
 

في "معا في الجنون" واكين فينيكس يمتلك "الجوكر" ويتوّج نفسه الأفضل

ردود فعل متناقضة على الفيلم... لأسباب لا تقلّ تناقضا

سامر أبوهواش

خاب ظنّ كثر، من مشاهدين ونقاد، بالنسخة الثانية من "جوكر"، المعنونة "معا في الجنون"، وذهب بعضهم إلى حدّ وصمه بالفشل التام والسقوط المريع لمخرجه تود فيليبس (وكاتبه مع سكوت سيلفر) وممثليه الرئيسيين واكين فينيكس وليدي غاغا. لعلّ خيبة الأمل هذه نابعة في المقام الأول من طول الانتظار (صدر الجزء الأول في 2019)، ومن جبل التوقعات الذي تراكم حول ما قد يأتي به الجزء المكمّل، لتأتي النتيجة بحسب هؤلاء باهتة مفتقرة إلى التماسك، فاقدة للرؤية، خائنة لشخصية "الجوكر"، والأهم من كلّ هذا لعنصر الإدهاش الذي رافق الجزء الأوّل وسوّر توقّعات الجزء الثاني.

غير أن كلّ هذا يبدو آتيا من خارج الفيلم نفسه أو من هوامشه، وليس من الفيلم نفسه ولا من صنّاعه. فالفيلم كما ظهر أخيرا، لا ينشغل كثيرا بالإبهار والإدهاش ولا بالمشهديات الهوليوودية الضخمة، ولا بالجرعات الكافية من الجنون، الذي يعني هنا، بالنسبة إلى العيون المترقّبة، قدرا هائلا من العنف مصحوبا بالسيونوغرافيات المدينية المعتادة لهذا العنف.

من يبحث عن رفع منسوب الأدرينالين لديه لن يجده في هذا الفيلم، والأرجح أن يسيء قراءته والتفاعل معه من البداية وحتى النهاية الدراماتيكية، التي جاءت لتتوّج – بالنسبة إلى المستائين – سلسلة خيبات الأمل تلك. ربما كانت الهالة الإنتاجية التي استبقت عرض الفيلم، لأغراض تجارية ترويجية، مسؤولة بالقدر ذاته عن سوء التلقّي هذا. صدمة كهذه لطالما رافقت إنتاجات سينمائية غلفها القدر ذاته من الترقّب، ولعلنا نجد في "العراب" بجزءيه الثاني والثالث أو "بلايد رانر 2"، شيئا من هذا القبيل.

أيّ "جوكر" نريد

يتوقّف تلقي "معا في الجنون" إلى حدّ كبير، على أيّ نسخة من "الجوكر" نريد أن نرى. بالنسبة إلى عشاق الجزء الأول من "الجوكر" (2019)، الذي يفترض أنه يقدّم تفسيرا خاصا لأصل هذه الشخصية ونشأتها وتطورها، انطوت الشخصية على قدر كبير من الهالة التاريخية، فهو عصابي، سايكوباتي، كاره للمجتمع، ميّال إلى تدميره، وهذا المنحى الذي مضت به الشخصية، تقبّله كثر ممن يألفون قصة "الجوكر" من عوالم "دي سي كوميكس" كما ظهرت للمرة الأولى عام 1940 على يد الثلاثي بيل فينغر وبوب كاين وجيري روبنسون، أو من المسلسلات والأفلام التي جاءت بعد ذلك، كما تقبّله من يتعرفون الى هذه الشخصية للمرة الأولى.

الفيلم لا ينشغل كثيرا بالإبهار والإدهاش ولا بالمشهديات الهوليوودية الضخمة ولا بالجرعات الكافية من الجنون

بدا الجزء الأول تمهيديا لما يمكن أن تتطور إليه الشخصية، وللجنون الذي يمكن أن تصل إليه في أجزاء تالية من السلسلة، وقد تمكن واكين فينيكس من تقديم جوكر مقنع تماما للفئتين، لكنّ ما يغيب عن المتمسّكين بشخصية "الجوكر" الفانتازية المنتمية إلى عالم "الكوميكس"، هو أن الجوكر (والفيلم برمته) لا يقوم على هذه الشخصية حصرا، بل لا مبالغة في القول إنه يتأسّس بصورة أكثر جذرية على شخصية آرثر فليك، التي تطوّر منها "الجوكر"، أي الفتى الذي يعاني من الإساءة في منزله ومن التنمّر في مجتمعه، والذي لا يطمح إلا لأن يكون مقبولا كفنان كوميديّ وإنسان.

بالتالي، ليس من "خداع" هنا، أعني في الجزء الثاني، ولا انحراف بالشخصية إلى مكان آخر كما رأى البعض. في الجزء الأول رأينا ظهور ونمو شخصية آرثر فليك وصولا إلى "الجوكر"، وفي الجزء الثاني رأينا مصير آرثر فليك و"الجوكر" معا، انسجاما مع الخطّ السردي الذي أرساه الجزء الأول وليس انقلابا عليه. ما يبدو مربكا هنا، هو خيار السينما الغنائية الذي انتهجه صنّاع الجزء الثاني. هذا النوع، ومع استثناءات قليلة (مثل "كلّ هذا الجاز") يغلّف الفيلم بطابع ملوّن متحرّك، والشخصيات بقدر من المرح والبهجة، وهذا كله ينزع الفيلم وشخصياته من الطابع (والمزاج) القاتم الذي استقرّت عليه شخصية "الجوكر" منذ زمن بعيد. العنصر الثاني الذي ربما يكون تسبّب بهذا التلقّي، هو تعدّد الأنواع السينمائية التي يتبنّاها ويجاور أو يوفّق بينها، من "سينما الدراما النفسية" إلى "سينما المحاكم" إلى "الفيلم الغنائي أو الموسيقي"، وصولا إلى النوع المتوقع، ولكن الغائب فعليا، وهو سينما الفانتازيا والأبطال الخارقين.

أما العنصر الثالث المربك فظهور ليدي غاغا بشخصية "هارلي كوين"، فإذا أضفنا إلى ذلك حقيقة كونها مغنيّة في الأساس، لبدا حضور الغنائية في الفيلم في خدمة هذا الأمر لا العكس، علما أن جميع اللوحات الغنائية والراقصة أو التعبيرية التي تظهر بها، تنتمي غالبا إلى عالم آرثر فليك وإلى وجهه الآخر (الجوكر) أحيانا. فإذا ما أضفنا إلى ذلك عنوان الفيلم "معا في الجنون"، لاستقرّ الإيحاء والترقب على مشهدية عاصفة مغلّفة بالعنف والدمار، وليس على ما قدّمه الفيلم من قصة حبّ رومانسية ملتبسة بين رجل مكسور يريد أن يكون إنسانا عاديا ومقبولا ومحبوبا (آرثر فليك) وامرأة تسعى إلى الأسطورة والفانتازيا (الجوكر)، وبين الحدّين يتأرجح الفيلم، وصولا إلى نهاياته التي أكّدت أننا لسنا أمام نسخة جديدة من "الجوكر" بل أمام النسخة التكريسية لشخصية آرثر فليك.

ما يغيب عن المتمسّكين بشخصية "الجوكر" الفانتازية، هو أن الفيلم لا يقوم على هذه الشخصية حصرا، بل يتأسّس بصورة أكثر جذرية على شخصية آرثر فليك

قسوة النظام

إذن، "معا في الجنون" هو بالفعل استمرار ونمو للجزء الأول من الفيلم وليس افتراقا عنه أو "خيانة" لوعوده. في النهاية نحن أمام شخص قتل في لحظات غضب وجنون خمسة أشخاص، ولم يروّع مدينة بأكملها ولا قام بحيل سحرية تنمّ عن الذكاء الشرير المطلق، كما نجد في الكثير من قصص "دي سي" الأصلية عن "الجوكر". وهذا أمر منطقيّ تماما إذا ما أخذنا في الحسبان أن نقيض "الجوكر" أي "باتمان"، غائب عن السردية برمتها، وبالتالي فإن فكرة المواجهة بين "البطل" و"البطل المضاد" غير قائمة في الأصل.

يضاف إلى ذلك، أن العناصر الخارقة الموجودة في قصص "دي سي" المصورة، بما فيها أن "الجوكر" اتخذ هذا الشكل بسبب سقوطه في محلول كيميائي تسبّب بابيضاض بشرته واخضرار شعره واحمرار شفتيه (ليصبح الجوكر)، ففي نسخة تود فيليبس تختفي حتى المدينة المتخيلة، غوثام، التي ألفناها سابقا، ونجد أنفسنا في نيويورك الفعلية وليس في صورة متخيلة عنها، ولعله ليس من المصادفة أننا في الجزء الثاني، خلال مشهد إعلان الحكم النهائي على آرثر فليك، نسمع اسم نيويورك لا غوثام.

نحن إذن أمام عالم واقعي تماما، أما لمحات الفانتازيا الوحيدة، فنجدها في المقاطع الغنائية، التي ترتفع فيها الشخصيات أو تبتعد، عن واقعها إلى واقع حلمي سحريّ. عدا ذلك، ما يقدّمه الفيلم هو القسوة الخالصة، قسوة النظام السياسي والشرطي والاجتماعي والقضائي، الذي يطحن الأفراد ولا يترك لهم فسحة للخلاص. القاتم هنا ليس شخصية "الجوكر" بل الواقع الذي ينتمي إليه آرثر فليك، السجين المجرّد من كلّ أسباب القوة وأشكال الكبرياء. حين يقرّر فليك، مدفوعا بالعالم الساحر الذي رسمته له "هارلي كوين"، أن يصبح "الجوكر" حقا، وأن يحقّق لها تلك الصورة الفانتازية المستحيلة، فإنه سرعان ما يصطدم بالنظام الذي جعله أقرب إلى الشبح منه إلى الإنسان. فهذا النظام يحرص طوال الوقت على أن يبقي "الجوكر" في حدود المزحة أو النكتة، أي أسير صورة كاريكاتورية، صورة المهرج المضحك، أما حين يبدي شيئا من القوة والاعتداد بالنفس، فإن النظام ،متجسّدا في رجال الشرطة الأشدّاء، ينبري فورا إلى معاقبته وتذكيره بحدوده بوصفه مجرد فرد ضعيف معزول يمكن تحطيمه في أيّ وقت. وهكذا فإن الشخصية التي تنتصر (تظهر) هي صورة آرثر فليك، ضحيّة تنمّر النظام الأبديّ، وليس صورة "الجوكر" الذي ينتصر على هذا النظام.

ينتقل الفيلم بفضل واكين فينيكس من كونه سردا مسليا حول شخصية كاريزماتية تتسلّى بنشر الشرّ، إلى كونه بيانا احتجاجيا ضد مظالم الحياة

يدفعنا "معا في الجنون" إلى تأمّل جوهر الشرّ، وإلى الأسئلة التي لطالما شغلت الفلسفة والآداب والفنون، هل من نسميهم أشرارا هم كذلك بالفطرة والطبيعة، أم هم نتاج شرّ أكبر وأشمل وأشدّ فتكا وهيمنة؟ تود فيليبس في تفسيره الخاص لـ"الجوكر" ينحو المنحى الثاني، فلا تصبح الحكاية حكاية احتجاج على السلطة وتمرّد على المجتمع ومؤسساته، بل حكاية القوة الطاغية والجبروت الهائل الذي يمثّله النظام. ليس من مخرج هنا، ولا فسحة للحلم. لا بدّ هنا من الإشادة بأداء واكين فينيكس المذهل الذي بالنسبة إليّ مضى تصاعديا في الجزء الثاني، وبدا أكثر قوة وإقناعا حتى من أدائه في الجزء الأول الذي أكسبه جائزة "أوسكار"، فسواء في تعبيرات وجهه، أو هزالة جسده، أو طريقة مشيه وحركته، أو نظراته أو ضحكه الهستيريّ، استطاع فينيكس منح نسخته عن "الجوكر" ملامح نهائية صلبة، لا بوصفه السايكوباتي الساخر، بل بوصفه المأسوي المهزوم الذي لا يجد مخرجا من ورطاته الكثيرة.

هذا، في نهاية المطاف، ما يمنح "معا في الجنون" قوّته العظمى، فهو ينتقل بفضل واكين فينيكس من كونه سردا مسليا يتمحور حول شخصية كاريزماتية تتسلّى بنشر الشرّ، إلى كونه بيانا احتجاجيا، ليس ضد مظالم النظام والمجتمع فحسب، بل ضدّ مظالم الحياة نفسها.

 

مجلة المجلة السعودية في

08.11.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004