ملفات خاصة

 
 
 

"جوكر" الجزء الثاني... هل يكفي كمرثية للحلم الثوري؟

فيلم تصعب قراءته بعيدا من السياسة

أريج جمال

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم

(أوسكار 97)

   
 
 
 
 
 
 

جاء الجزء الأول من "جوكر" 2019 في منطقة وسطى بين الفيلم الفني والفيلم الجماهيري، حين تناول بحساسية فنية، لا بتقريرية مباشرة، موضوعات مثل التنمر والاغتراب والمرض النفسي إذ يمثل العلامة الوحيدة على الصحة النفسية في مجتمع مدينة غوثام السوداوي، والمختصِر بدوره مجتمعات الرأسمالية المتسلطة، وصعود هيمنة الأفكار اليمينة المتطرفة. ومع ذلك، قدّم صُنّاع الفيلم كل المسوغات لسلوك آرثر فليك الذي يصنّف قانونا بالإجرامي، كما استفاضوا في تشريح عذابات طفولته، وألحقوها بتفسيراتهم الحدية، التي لا تُتعب أذهان الجماهير كثيرا، وتترك لهم دائما مفاتيح اللغز في كل مكان، حتى لا يعود لغزا تقريبا.

لعب العنوان الذي كان مخاتلا للمرة الأولى آنذاك، على التذكير بشخصية "جوكر" عدو "باتمان" اللدود، وأباح الفيلم بشكل ما أن يتحوّل شخص مفرِط الطيبة إلى قاتل منتقِم، أي إلى عدو للأخلاق الظاهرية المتفق عليها.

بدا أعداء "جوكر" أو ضحاياه، أعداء طبيعيين للإنسانية البريئة، فالشبان الثلاثة الذين بدأ بهم جوكر سلسلة جرائمه، مارسوا استعلاء غير عادل، على الآخرين، بحكم انتماءاتهم الطبقية وتعليمهم، واستفادوا من أوضاع أهلهم في سلّم السلطة، لتبييض وجوههم حتى بعدما أمسوا مجرد جثث. في المقابل، لعب آرثر فليك، الذي سيصير "جوكر"، دور روبن هود ما، يحرِك الجماهير بلا إرادة، يمسي أيقونيا في أعين الطبقات الدنيا، الضحايا الرمزيين لطبقة الثلاثة شبان البيض المتعلمين. وباختصار، حقق جوكر عدالة مؤقتة وربما متطرفة، سرعان ما اتضح أنها أيضا سريعة الزوال.

سوداوية

بالطبع، لا يمكن لأحد أن يشجع على القتل، لكن في النهاية ألا يطحن العالم بعضه بعضا ويضحّي ببساطة بساكنيه أمام أعيننا؟ تود فيليبس، مخرج الفيلم، وكاتبه بالاشتراك مع سكوت سيلفر، اعترف بتأثره بأعمال مارتن سكورسيزي لا سيما "سائق التاكسي" 1976. إنها السوداوية نفسها: صعوبة العثور على الحب، والشعور المتواصل بالخيبة والضآلة والخديعة، واستحالة الاندماج. لكنه يبدو الآن في الجزء الثاني، أكثر حساسية تجاه نتائج الفوضى التي أطلقها آرثر فليك في نهاية الفيلم الأول، وتجاه الثورة المضادة التي قادتها الطبقات الأكثر ثراء، والمالكة للسلطة، فهي أيضا التي ستنكّل بجوكر، لا فقط لأنه جوكر الرمز، لكن مجددا لأنه الشخص البسيط الأعزل وسط مجتمع شرس، المسكين بمستوى الذكاء المحدود، والحالم مع ذلك، وأحلامه تلك التي تعبر من أفلام السينما الهوليوودية وأغانيها، لا تشفع له في الهرب من قبضة الواقع العالمي الحالي.

لا يمكن لأحد أن يشجّع على القتل، لكن في النهاية ألا يطحن العالم بعضه بعضا ويضحّي ببساطة بساكنيه أمام أعيننا؟

ومع كل ذلك التفسير السياسي لفيلم، من الصعب قراءته بعيدا من السياسة، لا يزال "جوكر" يدور، خصوصا هنا في الجزء الثاني، حول شخص آرثر فليك، الذي خضع في البداية لقسوة لا متناهية، ثم اكتسب في لحظة عفوية القدرة على إعادة توجيه هذه القسوة إلى الخارج. إنها تبقى لحظة فائتة، وعليه أن يدفع ثمنها. لا هو فقط، ربما علينا نحن أيضا أن ندفع معه الثمن، ربما لأننا صدقناه أو لأننا حلمنا معه.

ولئن كان يمكن النظر إلى "جوكر" كحلم المهزومين، وكابوس للمُنتصرين، فإن عالم "جوكر" الثاني يدور حصرا في ارتداد الكابوس مجددا في وجه المهزومين. حتى بناء الفيلم الذي يتشكل من فاصل كارتوني طويل إلى حد ما في البداية، ثم حلم غنائي يؤديه بالتناوب واكيم فينيكس وليدي غاغا، تُستظهر سوداويته بالتدريج، إلى أن يتاخم الجحيم، ويتحول إلى تجربة صادمة ومؤذية لمشاهديه.

ما الذي أصاب الحلم إذن، ولمَ يُمارس تود فيليبس كل هذه القسوة على آرثر فليك، وعلينا بالتالي كمشاهدين؟

يطرح "جوكر" من ضمن ما يطرح، الكثير من الأسئلة حول تصوراتنا عن السينما، عن الفن. وهي تصورات شخصية مهما بدت عموميتها في النهاية. يمكن لكلٍ منّا أن يقدم مفهومه الخاص عمّا ينبغي أن تكون عليه السينما، وأن يجيب بناء على تجاربه الشخصية ومشاهداته السابقة عن سؤال: هل على السينما أن تنقل الواقع بفوضويته وتقشفه إلى الشاشة كما هو؟ أم عليها، كما دأبت، أن تمتص صدماتنا، وتلهمنا أحلامنا؟ "جوكر" في الجزء الثاني، يصنف كفيلم غنائي سيكولوجي (حتى إن عنوان "معا في الجنون" أو "الجنون لاثنين" يأتي هنا مكتوبا بالفرنسية Folie à deux مما يصبغ الفيلم برومنسية ما) وكانت عادة الأفلام الغنائية أن تعيننا على الحياة. إنها حتى تعين آرثر فليك نفسه، وتعزيه في عذابه بسجن مستشفى الأمراض العقلية بينما ينتظر محاكمته. غير أن تود فيليبس يجعل من أغنيات الفيلم واستذكاراته للأناشيد العاطفية الشهيرة والمحبة للحياة، ذكرى سيئة للمستمعين والمتفرجين بعد مشاهدة الفيلم، بلا أدنى شك.

 تود فيليبس يجعل من أغنيات الفيلم واستذكاراته للأناشيد العاطفية الشهيرة والمحبة للحياة، ذكرى سيئة للمستمعين والمتفرجين بعد مشاهدة الفيلم

رؤى الخراب

الأكيد أن السينمائيين الأذكياء لا يمكنهم أن ينفصلوا عن أزمنتهم، وأن عليهم أن يقولوا هم أيضا كلمتهم في أحوالنا المعاصرة. ومن الجزء الثاني، يمكن استخلاص أن رؤية تود فيليبس ليست مستبشرة كثيرا بزماننا، كما أنه غير قادر على تجاهل الخراب الذي حلّ علينا، بل إن مشهد تفجير قاعة محاكمة آرثر فليك، وهو يرتدي ثياب جوكر، من الصعب ألا تذكرنا بما نشهده يوميا على شاشات التلفزيون من ويلات الحروب بالوكالة والتفجيرات الساحقة وضياع المدن التي كانت يوما جميلة.

ومع الاعتراف بمنطقية هذه الرؤية التي يقدمها تود فيليبس في الجزء الثاني وواقعية فلسفته، فإن السؤال الذي يصعب تماما تجاهله أثناء مشاهدة الفيلم، بالأخص في النصف ساعة الأخيرة، حين تصير تجربة المشاهدة من أثقل ما يمكن على المتفرج: هو لماذا؟ لماذا قرر صُنّاع القصة تقديم فيلم ثان منها أصلا؟ وسوى الإجابة الجاهزة بالنجاح التجاري المتوقع لعمل تعدت إيرادات جزءه الأول المليار دولار، فإن من الصعب رؤية الجزء الثاني خارج نطاق محاولة التكفير والتنصّل. ها هو آرثر فليك، يُحاسَب بضراوة، على جرائمه دفعة واحدة، وها هو مسلوب الإرادة، عاجز حتى عن الدفاع عن نفسه، على الرغم من أنه يزعم لنفسه هذه القدرة. وها نحن طرفا صامتا ومستلَبا في المحاكمة.

"جوكر" في جزءيه يبقى تجربة مهمة، وستبقى بحلمها وانكسارها علامة سينمائية خاصة ومعبرة عن أيامنا

ثمة لحظات ممتعة بلا شك، في هذا الجزء وأداءات متألقة لا سيما لواكيم فينيكس الذي لعب مع ريدلي سكوت دور نابوليون بكل عظمته وغطرسته، ثم عاد هنا يبث الروح في جسد آرثر فليك الهزيل وشبه المحتضر. ليدي غاغا لافتة أيضا في شخصية لي، وهي تُرينا نبل الجنون، مقارنة بتلاعب العقلانية، وقد كانت في شرّها أكثر طهرا من خيرها المتنكر. بريندن غليسون لا يُنسى في الدور المزدوج لضابط يحب آرثر فليك في أحيان، وينتهكه في أحيان أخرى. للجميع هنا وجهان، وآلاف الظلال، وربما يبدو آرثر فليك نفسه وسط هذه العصابة، أو "جوكر" مقارنة بهم كلهم، أكثر اتساقا وتحديدا وأقل مراوغة بكثير، على الرغم من أنه لا يعدم بالطبع هذه الصفة الأخيرة بالذات.

لا يمكن الاستغناء عن مشاهدة "معا في الجنون" والاكتفاء فقط بالجزء الأول، بدعوى تجنيب النفس عذاب الفرجة وعنفها. نعم، ثمة الكثير من مشاهد عنف الشرطة، وهي تفوق الاحتمال في غالب الأوقات. غير أن "جوكر" في جزءيه يبقى تجربة مهمة، وستبقى بحلمها وانكسارها علامة سينمائية خاصة ومعبرة عن أيامنا.  

 

####

 

"جوكر" 2: معا في الفشل

تود فيليبس لا يفهم الشخصية وأداء فينيكس وغاغا مبتذل

عبيد التميمي

عندما صدر فيلم "جوكر" Joker في 2019، كان الجمهور متعطشا لإلقاء نظرة جديدة على الشخصية بعد الفشل الذريع في تجسيدها الأخير مع جاريد ليتو في فيلم "كتيبة الإعدام" The Suicide Squad. كيف لا وبطولة الفيلم من نصيب أحد أفضل ممثلي هذا الجيل، واكيم فينيكس. ومع انضمام الممثل القدير روبرت دي نيرو، كانت كل المؤشرات تسير في الطريق الصحيح، والتفاؤل بنجاح هذا الفيلم بلغ أعلى مراحله.

نجحت نسخة المخرج تود فيليبس تلك في إعادة إحياء الشخصية، فأحدث الفيلم ضجة كبيرة ولاقى استحسانا كبيرا من الجماهير، ولسبب غريب كانت هناك تحذيرات من درجة العنف في الفيلم، أقول "غريب"، لأن درجة العنف لم تكن شيئا خارجا على المألوف على الإطلاق، لكن هذه التحذيرات جعلت درجة من الغموض والسحر تكتنف الفيلم، كأنه رواية ممنوعة من النشر. ترشح الفيلم لـ 11 جائزة أوسكار وحصل على اثنتين منها، إحداها كانت أول جائزة اوسكار في مسيرة واكيم فينيكس.

شخصية مفككة

يأتي تود فيليبس بفيلمه الثاني عن الـ"جوكر"، محاولا تقديم نظرة أعمق ودراسة أكثر صدقية للشخصية، وهذه المرة يبدو أن الفشل يأتي كضربة ساحقة على المستوى النقدي والجماهيري، والجماهير التي كانت تتغنى بأداء واكيم فينيكس وتصوير تود فيليبس للرقصة الشهيرة على السلالم في الجزء الأول، تعبر عن سخطها اليوم. فماذا تغير؟ إن نظرة تود فيليبس عن الشخصية لم تتغير قطعا، وأداء واكيم فينيكس لم يتأثر إطلاقا بمرور الوقت، وهناك خيارات سردية غريبة ومحاولات جريئة، لكن أجواء الفيلم وجوهر الشخصية لا يزالان من العناصر المرتبطة ارتباطا وثيقا بالفيلم السابق.

يتركنا ذلك أمام استنتاج قد لا يرغب البعض بالاعتراف به، وهي أن الفيلم الأول لم يستحق نسبة النجاح التي حققها، وأن تود فيليبس لا يفهم الشخصية حقا، لكن الهالة الإعلامية التي أحاطت بالفيلم الأول وتقبل الناس لجوكر جديد من واكيم فينيكس ساهما بشكل كبير في هذا النجاح.

قواقع الأمر أن جوكر تود فيليبس شخصية مملة، فهو درامي بإفراط، لا يتخطى كونه واعظا استطاع الانتفاع من موجة سخط مجتمعية على الأوضاع. يحرص فيليبس على تقديم الجوكر في إطار تراجيدي بحت وكأنه يبحث عن تبرير لجرائمه، وكأنه خائف من أن يكون بطل فيلمه شخصا شريرا. فهو حتى لا يقدم صورة رمادية عن هذا البطل وعن الصراعات التي يعيشها، بل يريد أن يبرئه من كل جرائمه في صورة ناصعة البياض.

للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية

احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.

تخضع اشتراكات الرسائل الإخبارية الخاصة بك لقواعد الخصوصية والشروط الخاصة بـ “المجلة".

يتركنا ذلك أمام استنتاج قد لا يرغب البعض بالاعتراف به، وهي أن الفيلم الأول لم يستحق نسبة النجاح التي حققها، وأن تود فيليبس لا يفهم الشخصية حقا

لكنّ نظرة سريعة على تاريخ شخصية الجوكر في الأفلام والقصص المصورة والرسوم المتحركة كفيلة بإثبات أن جوكر تود فيليبس هو أبعد ما يكون عن الجوكر الحقيقي الذي يجسّد الشر والفوضى والظلام. إنه نسخة حساسة يتلاعب بها بسهولة من هم حوله ويقف أمام الجمهور باستمرار ليبرر جريمة ارتكبها أو ليشتكي من ظروفه القاسية وعدم ملاحظة المجتمع له. إنه ليس شريرا يبث الرعب في قلوب أعدائه، بقدر ما هو شخص مثير للشفقة يمكن أن يهجر كل مبادئه ومعتقداته من أجل ذرّة اهتمام.

عيوب واضحة

هذه المشاكل تمثلت في فهم تود فيليبس وتقديمه للشخصية، لكن فيلم Joker: Folie à Deux لديه مجموعة من المشاكل الأخرى التي أثقلت كاهله، والقدسية التي كانت تحيط بأداء خواكين فينيكس والجو الواقعي الذي كان أحد أسباب نجاح الفيلم الأول لم يعودا كافيين لإخفاء العيوب الواضحة. لسبب غير مفهوم، يبدو أن فيليبس نسي كل ما تعلمه في السابق عن كيفية سرد الأفلام، ومن هنا ليس من المنطقي أن نصف نسق الفيلم بأنه بطيء وغير متسلسل، لأن الفيلم لم يمتلك نسقا من الأساس.

يحاول فيليبس حشر العديد من الكوادر الفنية والألوان البراقة في كل مشهد مع العديد من لقطات الحركة البطيئة والمشبعة بالموسيقى لإسباغ طابع الملحمية، لكن إذا كانت كل المشاهد على هذا النحو فهذا يؤدي إلى فقدانها أهميتها. كيف يمكننا كمشاهدين تقدير أهمية هذه المشاهد إذا لم يكن هناك بناء مدروس وترابط سردي يوصلنا إلى نقطة الانفجار؟

تسليط بقعة الضوء على شخصية آرثر فليك في كل مشهد وإعطاؤه سيجارة يدخنها لا يعتبر سردا أو دراسة للشخصية، بل أفكار مراهق عما سيبدو كول للمشاهدين. يبدو فيليبس وهو يحاول إشباع المشاهد بهذا الثقل الفني الزائف نادما على مسيرة مليئة بالأفلام التجارية ويحاول تعويض كل ما فاته في فيلم واحد.

امتلك "جوكر: معا في الجنون" كل مقومات النجاح لكن ذلك كله لا يهم حينما يبدو النص مسودة أولية لم تخضع للتنقيح أو التطوير

الزاوية الموسيقية التي يفرضها المخرج على الفيلم هي محاولة جريئة لتقديم شيء جديد وغير مألوف، ويمكننا أن نكون شاعريين في خصوص هذا الأمر ونقول إن الفن هو عبارة عن محاولة تقديم شيء خارج على المألوف. لكن جوكر في الفيلم الأول لم يُبدِ أي ارتباط حقيقي بموسيقى برودواي، باستثناء مشهد رقصته الشهير، فهو لم يبد اهتماما بالموسيقى على الإطلاق. في بداية الفيلم يقرر آرثر فليك أنه مهتم بالموسيقى وندخل معه في زوبعة من الفصول الموسيقية الفوضوية التي تتوالى دون تبرير أو سبب حقيقي. في الأفلام الموسيقية الناجحة تأتي المشاهد الغنائية كموجة عاطفية ضخمة تغمرنا وتبعدنا عن جو الفيلم الاعتيادي، إنها عبارة عن لمسة إضافية ساحرة وخيالية بعيدة عن اعتياد الحياة الواقعية. أما المشاهد الغنائية في "جوكر: معا في الجنون" فتجعلنا نحنّ إلى جو الفيلم الكئيب والممل لأنها أكثر إملالا منه، هي خارجة على المألوف لكن بطريقة غير صحيحة، تذكرك بأنك أمام عمل مبتذل وزائف وأن الوقت لا يمضي بسرعته المعتادة ولكن ببطء أكبر.

ربما أكبر هفوات الفيلم، وهو فيلم حاشد بالهفوات الفنية، أنه كان مملا بشكل قاطع. بالنسبة إلى فيلم يمتلك ممثلين بارعين، من المستحيل وصف الأداء عادة بأنه ممل وإن شابت الفيلم مشكلات فنية وسردية. مع ذلك، فإن فينيكس وليدي غاغا قدما أداءين أجوفين وهما يرددان الحوارات المبتذلة. أداءات تجريدية مليئة بالتكلف والعمق المصطنع. وهذه الأداءات المجوفة تنعكس على غالب الطاقم التمثيلي. الناجي الوحيد من هذه الكارثة هو الممثل الرائع بريندان غليسن.

امتلك "جوكر: معا في الجنون" كل مقومات النجاح: ميزانية ضخمة وحرية لا نهائية في السرد، ونجمان محبوبان من النقاد والجماهير، وجهود ملموسة في جوانب التصوير والديكور والأزياء. لكن ذلك كله لا يهم حينما يبدو النص مسودة أولية لم تخضع للتنقيح أو التطوير.

 

مجلة المجلة السعودية في

09.10.2024

 
 
 
 
 

«جوكر: مجنونان»... حكاية رجل يبحث عمن يكون

يريدونه مهرجاً فقط ولا أحد يناديه باسمه

لندنمحمد رُضا

أحد الأسباب التي لم تساعد «جوكر: مجنونان» على إنجاز ما حققه الجزء الأول من حكاية آرثر فلَك من نجاح (أنجز الفيلم لحين كتابة هذه الكلمات 155 مليون دولار عالمياً من أصل ميزانية بلغت 200 مليون دولار) يعود إلى أن الرغبة في مفاجأة الجمهور به لم تلعب الدور المنشود بل عكسه.

على عكس معظم مقدّمات (تريلرز) أفلام اليوم، لم تسرد المقدّمة الترويجية لهذا الجزء الثاني من «جوكر» الحكاية على أي نحو متسلسل. لا يمكن معرفة شيء عن الحكاية ذاتها كيف تبدأ أو تتطوّر أو تنتهي. ذلك التريلر الأول الذي تم نشره في مطلع شهر أبريل (نيسان) من العام الحالي، أوحى بأجواء الفيلم الأول ضمن قصّة مختلفة لا تخلو، هذه المرّة، من حب وعاطفة ومن غناء واستعراض ومن حكم وتوق للحرية، لكنها لم تُشر مطلقاً إلى حقيقة أن معظم الأحداث ستقع في السجن وأن هناك عدداً كبيراً من الأغاني الاستعراضية التي سيحتويها الفيلم.

هو «تريلر» مختلف وجيد التكوين لكنه مخادع أيضاً. حال تم عرض الفيلم في الدورة الأخيرة من مهرجان ڤنيسيا (سبتمبر/أيلول) حتى تبيّن للحاضرين أن الفيلم حمل أكثر من مفاجأة تجعله مختلفاً عن الجزء الأول منه. في الرابع من هذا الشهر انتقلت هذه المفاجآت إلى جمهور اعتقد أنه سيشاهد فيلماً أكثر ارتباطاً بسابقه. ربما فيلم يلتقي فيه جوكر بغريمه باتمان، أو فيلم ينضح بالمزيد من مواقف عنف مجنونة، أو حكاية دخول جوكر السجن (نهاية الفيلم الأول) وسرعة هروبه منه بعد فترة قصيرة.

أما أن تمضي معظم أحداث الفيلم في سجن، ويبدو جوكر فيها مهزوماً معظم الوقت فهذا لم يكن متوقعاً ولا المقدّمات اللاحقة وشت به. وما كان متوقعاً كذلك أن يصدح جوكر مغنياً ويستعرض موهبته في الرقص. هذا كان غريباً ويحتاج إلى مراجعة أعمق قليل من الجمهور السائد يقوم بها مكتفياً بالجاهز من المشاهد ومعانيها المباشرة.

جوكر الهارب

«جوكر: مجنونان» دراما حزينة عن رجل يحاول أن ينجو من حبل المشنقة. نتعرّف عليه في السجن وهو يمارس ضبط النفس والامتثال لتعليمات وقوانين السجن بكل صبر وقبول. يبدو سجيناً مثالياً طيّعاً وودوداً.

«هل لديك نكتة اليوم؟» يسأله أكثر من واحد. بعضهم من النزلاء الآخرين وبعضهم من الحرس. في النصف الأول من الفيلم لا يبخل جوكر على أحد. يُضحك ويَضحك. يبدو كما لو تحوّل إلى مهرج مسالم. شخصية طوّعها القانون وواجهت حقيقة حياة بديلة لتلك السابقة منذ أن ترك حرية الحياة خارج السجن ومعها شخصيّته الجانحة.

خلال هذا النصف الأول يتطلع المرء إلى أن يكشف جوكر عن وجهه الحقيقي فإذا به يخطط للهرب من السجن وممارسة ما كان يمارسه في الفيلم الأول من جرائم، لكنه لا يفعل ذلك إلا في متن النصف الثاني من الفيلم عندما تساعده معشوقته هارلي (ليدي غاغا) فتنسف جدار المحكمة التي كان جوكر يحضرها. سيهرب بالفعل. يركض في الشوارع بوجهه الملوّن مسافات طويلة. يركض سعياً لامتلاك زمام حياته وشخصيّته من جديد. إنه حب الانعتاق. توق لبداية جديدة قد لا يقدر عليها. في أفضل الأحوال، يفعل كل ما يفعله رجل مهدد بحكم الإعدام تُتاح له فرصة الهرب من السجن فيهرب.

ما زال جوكر هنا رجلا يبحث عن هويّته الفعلية. يحاول إقناع المحكمة بأنه يُعاني من عضال نفسي وأنه ليس في الواقع الشخص الذي ارتكب تلك الجرائم. لكنه، وفي إطار هذا البحث، يدرك أنه ليس ما يدّعيه. كلتا وجهتي الهوية، الشيزوفرانيا إن وُجدت، حسب فرويد أو - غالباً - من دونه، والرغبة الحثيثة للانتقام من المجتمع، مرتبطتان كتوأمين ولدا ملتصقين.

جلاد وضحية

هذه الشخصية المعقّدة (برهنت على عقدتها في الفيلم السابق) التي تبدو لحين كما لو أنها تراجعت عن أفعالها حكم القضاء لها أو عليها، ثم ترتد إلى الجوهر الخاص بها الذي نشأت عليه، ما كان لها أن تُهيمن على المشاهدين لولا موهبة أداء فريدة لواكيم فينكس. فريدة لأنه لا يفسّر الشخصية على حال واحد بل ينتقل بها في أشكال واتجاهات مختلفة بالقدرة ذاتها على التشخيص والتجسيد والخداع وبالمستوى ذاته من الليونة وإحكام القبضة على الحركة والإيماءة والكلمة.

الجوكر، في الفيلم السابق، كان شرّاً يعاني من فقدان الخير من حوله. ضحية مجتمعية وجلاد في وقت واحد. في الفيلم الجديد يحافظ على الوجه الأول ويغيب، بفعل السيناريو الموضوع، عن الجزء الثاني. لذا، فبعد هربه من السجن لفترة قصيرة، يعود بعدما ألقي القبض عليه. جوكر هنا أوهن من أن يُجيد الهرب. لا نراه يهرب كفاية، بل يجلس على أدراج جسر قصير مستسلماً. مرّغ السجن وجهه وذاته واستقوى عليه نازعاً عنه قدراته البدنية التي ارتبطت بشروره النفسية أيما ارتباط في الجزء الأول. بعد إلقاء القبض عليه، يُضرب ويُغتصب. هذا عالم جديد عليه، انحدار نحو الهوّة كما لو أنه بات يدرك في نفسه أن ما صنع شخصيّته المخيفة لم يعد متوفراً. جديد عليه كما على مشاهدين يريدون بطلاً منتصراً شريراً كان أم لا.

طواعية فينكس الأدائية لا تُمس. بدنياً ما زال مثل دمية بلاستيكية تلتوي كيفما يُراد لها بفارق أنها تحمل روحاً تمكنها من تجسيد الشكل الذي تريد. هذا هو واكيم فينكس الذي يجسّد الشكل الذي يريد أكثر مما فعل أي من جوكرات الأمس (بينهم جاك نيكولسن البارع في ترجمات أخرى للشخصية). إنه تجسيد رائع لشخصية ظهرت لكي تُكره في الأساس مقابل باتمان كبطل يمثّل الخير. الممثلون الآخرون عكسوا ذلك الجانب وحده. فينكس يمنحه، تبعاً لإدارة وكتابة ذكية من المخرج تود فيليبس، الجانب الإنساني المغلّف بجانب غير إنساني.

لكن الحركة البدنية ليست كل ما على فينكس أن يجيد، بل كذلك الروح التي تسكنها. هناك طواعية مشابهة وبل ملتحمة بالحركة البدنية تجعل من فينكس يمثّل على مستويين متلاصقين.

مأساة رجل يبحث

دخول هيلاري في حياته إيماناً منها به، يُفيد في منح الفيلم عاطفة كان الجوكر محروماً منها بعد وفاة أمّه، كما يُفيد في مشاهد الغناء والاستعراض. هي بموهبتها الغنائية أولاً، وهو بمواهبه جميعاً التي بات الغناء هنا من عناصرها. هي تؤمن به وحين تغني، منفردة أو معه، تنجح في منح الفيلم بعداً استعراضياً وعاطفياً مهمّاً. لكن العاطفة الصادرة عنها هي عشق لبطلها بينما العاطفة المنبثقة عن جوكر ليست بالضرورة مشابهة أو على ذات القدر من العلاقة. هي مشغولة به وهو مشغول بما يعنيه التوق للحرية.

هذا التوق يدفعه لصرف محاميّته (كاثرين كينر) حين المرافعة والترافع عن نفسه. إنها فرصة مزدوجة، واحدة لآرثر فلَك/ جوكر للظهور على محطات التلفزيون بالطريقة التي اشتهر بها أمام جمهوره وأخرى للمخرج تود فيليبس ليرفع قبعته مرّة ثانية لفيلم مارتن سكورسيزي King of Comedy («ملك الكوميديا»، 1982).

الفقرات الموسيقية لا تجعل هذا الفيلم «ميوزيكال». لذلك النوع عناصر تأليفية مختلفة. هو دراما تستخدم الموسيقى والغناء كمواصلة للحدث الماثل ولاستكمال رسم الشخصية الأولى. الجانب السلبي في كثرتها أنها تضر الفيلم ولا تنفعه كونه ليس فيلماً موسيقياً من ناحية وكونها تؤخر فعل الجذب لما يدور. بعض تلك الاستعراضات رائع وأفضل من أخرى من دون أن ننسى أن المخرج فيليبس ليس مخرج أفلام استعراضية مثل روب مارشال («شيكاغو»، 2002) أو ڤنسنت مينيللي (الذي نرى في مطلع الفيلم ملصقاً لفيلمه The Band Wagon («عربة الفرقة»، 1952).

الفيلم هو في الأساس وعلى نحو شبه مطلق تراجيديا. هو عن مأساة رجل يريده الآخرون أن يكون جوكر فقط. أن يكون جوكر ولو مكبّلاً. يريدون ذلك الوجه منه. ذلك الوجه وحده. والخيط المهم، وغير الملحوظ، هو أن لا أحد في الفيلم يناديه باسمه: آرثر، ولا حتى هيلاري. هذا جزء من الصورة المأسوية التي يتناولها «جوكر: مجنونان» المعبّرة عن رجل يريد العودة إلى حياة افتقدها وإلى إنسان لم يتح له معايشته جيداً... لكن لا أحد آخر يرغب له ذلك.

 

الشرق الأوسط في

12.10.2024

 
 
 
 
 

أنوره”.. فيلم السعفة الذهبية وهل كان يستحقها؟

أمير العمري

كان من مفاجآت الدورة الـ77، حصول الفيلم الأمريكي “أنوره” Anora على “السعفة الذهبية” كأفضل فيلم بين أفلام المسابقة متفوقا على الفيلم الذي نال معظم الترشيحات أي فيلم “إيميليا بيريز” والذي اعتبرته شخصيا ومازلت، فيلم العام 2024 لأسباب كثيرة.

فاتني أن أشاهد “أنوره” في كان، لذلك حرصت على مشاهدته أخيرا عند عرضه في مهرجان لندن السينمائي الذي يأتينا بأهم أفلام بالإضافة بالطبع إلى العروض العالمية الأولى والاكتشافات الجديدة. وكان انطباعي الأول عنه أنه عمل مجنون، جامح، يفيض بالحركة والحيوية، ويتمتع بجرأة غير عادية في تناول موضوعه، وأداء مدهش، مع انسيابية في السرد والعرض مثيرة للإعجاب. إنها “الجدة” تلك الميزة الأساسية التي تميز هذا الفيلم، وهي نفس ميزة فيلم “إيميليا بيريز” ولابد أن لجنة التحكيم كانت حائرة بين الفيلمين.

لا شك أن “أنوره” فيلم جديد في موضوعه أو بالأحرى، في طريقة سرد موضوعه، فهو جريء، ومختلف، ومليء بالحيوية والتدفق والحركة التي لا تهدأ، ولاشك أن مخرجه شون بيكر، قد بلغ مرحلة عالية من النضج والتمكن والقدرة على السيطرة على الأداء، والانتقال من موقع إلى آخر من دون أن يترهل الإيقاع، أو يسقط في الرتابة والتكرار، رغم أن الكثير من عبارات الحوار، خصوصا الشتائم والشكوى والرفض والتذمر والسخط، تتكرر كثيرا على ألسنة جميع الشخصيات تقريبا.

كتب شون بيكر سيناريو فيلمه، من وحي خياله الشخصي، ومن علاقته بالعالم الذي يسيطر عليه وسبق أن لمسه، بشكل أو بآخر، في غالبية أفلامه السابقة. فليس من الممكن تجاهل اهتمامه الواضح هنا بعالم التعري وراقصات التعري وبائعات الجنس وممثلات الأفلام الإباحية.

لقد سبق أن اتضح هذا الاهتمام في فيلميه السابقين على الأقل، “ستارليت” (2012) و”صاروخ أحمر” (2021). والحقيقة أن اعتمامه بهذا العالم هو أساساً، اهتمام بالشخصية التي توظف جسدها في هذه المهنة. فهو قد يكون أول مخرج أمريكي يتناول مثل هذه الشخصية بقدر كبير من التوازن، مبتعدا عن النظرة الأخلاقية والسطحية، بل على العكس، يبدو متعاطفا معها. وهو لا يعرض عادة “تاريخا” للشخصية، يستخدمه في الشرح والتبرير وكيف أصبحت على ما أصبحت عليه، فليس هذا مهما عنده، فالأهم هو كيف تتكيف هذه الشخصية مع واقعها، وتتعامل في احترافية تامة، مع مهنتها، مع الكشف على استحياء، عن شعور دفين بالاغتراب.

كانت “جين” بطلة أول أفلامه “ستارليت” Starlet فتاة في الحادية والعشرين من عمرها، ممثلة أفلام إباحية (بورنو)، لكنها تبدو مثل أي فتاة عادية تماما، هادئة، لا تشعر بالغضب أو الاحتجاج بسبب ما تفعله، وكانت تمتلك أيضا ضميرا يقظا، دفعها إلى إقامة علاقة إنسانية تعويضية مع امرأة عجوز، تساعدها وتحاول أن تسعدها بشتى الطرق كما لو كانت هي الأم البديلة.

وفي “صاروخ أحمر” كان بيكر متعاطفا مع بطله “مايكي”، ممثل أفلام البورنو الذي أصبح عاطلا عن العمل، بعد أن لم يعد يصلح للقيام بالدور بسبب تقدمه في العمر وفقدانه قدراته الخاصة، وأصبح مفلسا يتحايل على الحياة ويسعى وراء حلم أخير لعله ينقذه من أزمته. ورغم أنه يلجا إلى الكذب والخداع، تحت وطأة رغبته المستبدة في العودة إلى عالمه الذي تخلى عنه عن طريق استغلال فتاة في السابعة عشرة من عمرها، إلا أن شون بيكر لا يدينه ولا يحكم عليه بل يكتفي بعرض أزمته ويترك لنا أن نر ما نقرره بشأنه إن استطعنا.

أما “أنوره” أو “آني” كما تفضل باستمرار أن ينادونها، فهي تلك الفتاة التي تبلغ ثلاثة وعشرين عاما، التي لا نعرف ماضيها، شأن معظم شخصيات شون بيكر، ولكننا نعرف فقط أنها تنتمي أصلا إلى أسرة فقيرة، وقد امتهنت العمل كراقصة تعري في أحد أندية التعري في مانهاتن، ولا تمانع أيضا من اصطحاب الزبون الذي ترى فيه نوعا من الكياسة، إلى غرفة داخلية لبيعه الجنس مقابل المال، فهذا جزء أساسي من عملها.

إنها أكثر مهارة من زميلاتها، واحداهن بالذات، وهي “دايموند” ذات الشعر الأحمر، تشعر بالغيرة الشديدة منها، فهي تفوقها جمالا، لكن أنوره تتفوق عليها بمواهبها في الرقص واستخدام جسدها بكل ما يمكن أن ينتج من إثارة. يسوق القدر ذات ليلة في طريقها بشاب يافع في الحادية والعشرين، هو “إيفان زخاروف”، وهو ابن لأحد كبار رجال الطغمة التي حققت الثروة والثراء في روسيا عن طريق صلاتها بالمافيا.

إيفان يخلط الخمر بالمخدرات، ويبدو مهووسا، يريد تحقيق أقصى درجات المتعة دون أدنى مبالاة أو حساب للعواقب. وهو يغدق عليها المال، ثم يصحبها خارج الملهى الى ما يزعم أنه بيته لتجد نفسها داخل قصر هائل يمكن أن نطلق عليه بيت الأحلام، حيث تتوفر جميع وسائل الرفاهية والبذخ الشديد. والقصر هو بالطبع قصر والده الملياردير “نيكولاي زخاروف” الذي يستثمر جزءا من ثروته في أمريكا، ولكنه غائب الآن في روسيا.

إيفان يشتري لها الملابس الثمينة والمجوهرات، ويدعوها إلى حفل رأس السنة الذي يقيمه في المنزل في صحبة أصدقائه الذين لا يتوقفون عن شرب الخمر وتعاطي المخدرات والرقص المجنون حتى الصباح، ثم يعرض عليها أن تتفرغ لمصاحبته لمدة أسبوع مقابل 15 الف دولار، ثم يطير الاثنان الى لاس فيجاس حيث يواصلان ممارسة الجنس دون توقف والاستمتاع بكل مباهج الدنيا، لكنه ايفان، لا خبرة لديه، فهل متعجل كثيرا، وتتولى هي بخبرتها تعليمه كيفية الحصول على المتعة لدرجة أن يقع في حبها ويعرض عليها الزواج وتشعر “آني” بأن حلمها بحياة بعيدة عن عملها الشاق قيد التحقق فتوافق، تحت تأثير الشعور بالحب وأن إيفان يقد يكون فتى أحلامها. لكن الحلم سرعان ما يتبخر عندما يصل الخبر إلى والد إيفان بأنه قد تزوج من “عاهرة”، فيأمر تابعه الأمين “توروس” بضرورة إجبار العروسين على إبطال هذا الزواج فورا.

توروس هذا قس أرثوذوكسي أمريكي- روماني هو مدير أعمال زخاروف، وهو يتلقى التعليمات عبر الهاتف ليقطع قيامه بطقوس تعميد أحد أطفال الجالية الروسية في بروكلين (نيويورك) فيترك الحفل ويهرع مستعينا باثنين من الحراس أو الأتباع هما الروماني “جارنيك” والروسي “إيجور”. الأول عنيف ولكن يشهل وقوعه في المشاكل، والثاني طيب القلب لكنه مضطر للقيام بالمهمة.

من هذا المدخل ننتقل إلى القسم الثاني من الفيلم الذي يدور في معظمه في الخارج على طريقة أفلام الطريق، للبحث عن إيفان في أوكار وأماكن كثيرة، بعد أن يكون قد تمكن من الفرار خارج قصر والده. أما جارنيك وإيجور فيقومان باحتجاز أنوره رغم احتجاجها الشديد وما تبديه من عنف، وتتحكم خلال العراك أشياء كثيرة في القصر.

تظل أنوره تأمل إلى ما قبل النهاية، في أن إيفان سيظهر لكي ينقذها ويعلن تمسكه بها وحبه لها. لكن من الواضح أن هذا مجرد وهم.

في سياق كوميدي مجنون، يستمر الفيلم وينتقل بين الأماكن المتعددة طوال الليل حتى مطلع اليوم الثاني، من أجل العثور على إيفان، ثم تقع مواقف كثيرة يمكن تخيل كيف ستنتهي، وهو ما يحدث في القسم الثالث من الفيلم.

يعرف المخرج شون بيكر كيف يصنع فيلما مثيرا، يثير اهتمام المتفرجين من شتى الثقافات والخلفيات، لا يجنح قط نحو الميلودراما ولا يتلاعب بمشاعرنا، بل يظل يتحكم كأفضل ما يكون، في تدفق الأحداث، ومسار السرد، ويدخر مفاجأة تلو الأخرى، مع سيطرة مذهلة على أداء الممثلين، وقدرة على توليد الكوميديا من الفارقات الكثيرة التي تقابل أبطاله الهامشيين.

إنه يجعلنا نشعر بأن كل ما نراه يحدث فعلا في الزمن الحقيقي لأحداث الفيلم أي عبر ليلة ويوم، متبعا أسلوبا أقرب إلى الأسلوب التسجيلي الذي يتابع الشخصيات من مكان إلى آخر، ومن موقف إلى موقف آخر، مع كثير من الالتواءات في الحبكة، التي تكفل استمرار السرد من دون ترهل، يساعده أولا مدير تصوير واع، يتمكن من خلق مساحات بديعة والقبض على الكثير من تفاصيل الصورة، بحيث تصبح الشخصيات جزءا من المكان، ويصبح المكان شاهدا من ناحية، وذا سطوة مخيفة من ناحية أخرى.

إنها قصة حب رومانسية تقع في ظروف غير عادية، تحت تأثير الخمر والمخدرات ووهم التحرر من القبضة المشددة للعائلة من جانب إيفان، أو الوهم بإمكانية التحرر والعثور على السعادة والإقلاع عن العمل المهين من جانب أنوره.

لدينا إيفان برعونته وكونه واقع تحت تأثير حلم مراهق وهمي لابد أن ينتهي إلى الخضوع والانصياع لولائه الأصلي، أي عائلته الثرية، وإلا فقط كل شيء. وهناك أنوره التي يتعين عليها أن ترضخ وتستسلم وتقبل التخلي عن الوهم، خصوصا بعد أن تلمس خسة ووضاعة إيفان، الذي يتخلى عنها بعد أن يستفيق ويدعوها مجرد فتاة ليل.

ومن خلال هذا التناقض بين أنوره وإيفان، يضغط الفيلم على فكرة التناقض الطبقي والانتماءات العائلية، وأن المشاعر لا تنشأ بمعزل عن البيئة والخلفية الاجتماعية، وأما قصة سندريلا التي يقول شون بيكر إن فيلمه يعبر عنها، فلا تنطبق تماما على حالة “أنوره”، فإيفان لم يكن “فارس الأحلام” حقا، بل مجرد طفل مشاكس يريد أن يثبت لنفسه أنه يستطيع أن يستقل عن والده.

أنوره شخصية قوية، أكثر قوة من إيفان بحكم تكوينها وظروفها ووجودها في الدور الذي تؤديه في الحياة. إنها بمعنى ما، تعاني من أجل الوجود. أما هو فلا يمتلك أي موهبة، ضائع، يعتمد تماما على والده المستبد. أنوره تنساق وراء حلم أكبر من الواقع، بينما ينساق إيفان هو وراء نزوة كبيرة. وسنكتشف في النهاية أن تحت القشرة العنيفة الصلبة التي تختفي تحتها أنوره، كائن هش، يتوق إلى الحب، ويتطلع إلى الخلاص.

هناك تلاعب كثير في استخدام اللغة، وما يمكن أن تولده من معان متباينة، فالفيلم ينتقل كثيرا بين الروسية والإنجليزية، فإيفان لا يجيد الإنجليزية، رغم بل يجيد ترديد الشتائم وألفاظ السباب التي تعلمها غالبا من أفلام هوليوود، أو العبارات الروتينية المقتبسة من خطابات دونالد ترامب (ليبارك الله أمريكا” وهي العبارة التي يهتف بها وهو يمارس الجنس لأول مرة مع أنوره التي تعرف كيف تشبعه.

أما أنوره بسبب بعض أصولها الروسية البعيدة التي تعود جدتها، فهي تعرف بعض الكلمات الروسية، ولكن اللغة مجرد غطاء خارجي تهكمي فقط بالأساس هو لغة الجسد. وأهم ما يميز الفيلم هو أولا تلك الكيمياء التي تجمع بين الشخصيتين، بين ” الممثلة “ميكي ماديسون” التي تقوم بدور آني، والممثل من أصل روسي “مارك إدلشتين” الذي يقوم بدور ايفان.

الإثنان يتحركان ويتحدثان ويتشاجران ويختلفان ويتفقان ويمارسان الجنس ويسبحان في حمام السباحة بأحد الفنادق الفاخرة في لاس فيجاس، فيما يشبه رقصة طويلة ممتدة، أو تقلصات جسدية مستمرة، تشي بحالة النشوة والاهتياج الناتجة عن الإفراط في المخدرات. وعندما تأتي الصحوة، يتبخر الحلم.

وتبقى ميكي ماديسون هي التي تحمل الفيلم كله على عاتقها، والباقون يساندونها ويدعمونها ويؤكدون حضورها المدهش، فهي تتمتع بحيوية وقدرة كبيرة على الإقناع مع الجرأة المدهشة في أداء جميع مشاهد العري والجنس، والتلاعب بالزبائن داخل ملهى الرقص العاري، أو التعامل بمنتهى الخشونة والعنف مع كل من جارنيك وإيجور.

شخصية إيحور تتضح أكثر في الثلث الأخير من الفيلم، وتتخذ معالم إنسانية، فهو يشعر بأزمة آني، وحاجتها إلى الحب والخلاص، وبكونها ضحية للحياة نفسها، ويتعاطف معها تدريجيا، ولكنه لا يجرؤ على أن يسمح لنفسه باستغلال ضعفها.  إنه نموذج نبيل معاكس تماما لشخصية الحارس الشخصي العنيف، أو الخارج عن القانون. واللقطة الأخيرة في الفيلم تقول الكثير والكثير.

أنوره” يبدأ بالضحك والمرح، ثم يتحول تدريجيا إلى مأساة تجرح وتصيب وتترك ندوبها. فشخصية آني مثل كل شخصيات أفلام شون بيكر السابقة، هي شخصية ضائعة، تبحث عن خلاصها الشخصي مثلما كان “مايكي” في “صاروخ أحمر”، و”جين” في “ستارليت”. ولعلها أيضا شخصيات تعكس فراغ الواقع الأمريكي، وسقوط الحلم الأمريكي.

أخيرا يمكن القول إن “السعفة الذهبية” ذهبت إلى فيلم يستحقها. إنه قد لا يكون عملا كبيرا خارقا، لكنه يطرق طريقا جديدا مليئا بالجموح، تماما كما كان “سائق التاكسي” Taxi driver لسكورسيزي، و”قاسي القلب”Wild at Heart لديفيد لينش، و”بارتون فينك” Barton Fink للأخوين كوين. وهي ثلاثة أفلام أمريكية مستقلة تحتفي بالسينما جديرة بالعودة إليها باستمرار لمن يهتم حقا بسينما الفن والمتعة.

والثلاثة أفلام نالت “السعفة الذهبية” ولم يكن أحد يتوقع أن تنالها!

 

موقع "عين على السينما" في

14.10.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004