«سلام
بالشوكولا»... صفاء الإنسانية
فيلم عن اللجوء السوري إلى كندا وصناعة الفرص
بيروت: فاطمة عبد الله
ساعة ونصف ساعة من الرقة، هو فيلم «سلام بالشوكولا»
(Peace by chocolate)
(شاهد)، من بطولة الراحل الكبير حاتم علي. لا يمكن لصقيع كندا وجليدها أن
يحملا هذا الدفء. لكنهما يفعلان. على امتداد طبيعة مغطاة بالأبيض، وبمواجهة
غربة العيش في مدينة نائية، تولد من جديد عائلة سورية هاربة من الموت. يتخذ
اللجوء معنى إنسانياً صافياً ويفتح صراع البقاء نافذة على الضوء.
يغمض طارق هدهد (أيهم أبو عمار بأداء مقنع) عينيه وسط صقيع
يعانق المكان، ويتذكر حياته على المقلب الآخر: خسائر ودماء وأشلاء، وقذائف
تشظي الطفولة والكهولة والشباب. هو الآن في عالم أكثر هناء يحترم الكرامة.
وصوله إلى مدينة أنتيغونش الكندية، يصنع منه إنساناً ممتلئاً بالاحتواء
والاندفاع.
الفيلم عن استحالة العيش في أوطان مشتعلة، وإرادة الاندماج
داخل قالب آخر. حين وصل عصام (حاتم علي/ 1962 - 2020) إلى كندا، لم يجد
النطق بكلمة إنجليزية. حتى
«Thank you».
يأتي إلى المكان الغريب بعناده وعزة نفسه، محملاً بعاداته وأمجاده ووفائه
للوطن. ففي دمشق، كان كبير مصنعي الشوكولا، أعال مصنعه خمسين عائلة. تمسك
بالبقاء في أرض تحترق إلى أن قصف المعمل والتحق بالخراب.
الحياة ليست خياراً واحداً، لو أن الخيارات الثانية تكلف
غالياً. بخلاف تردد والديه، يسير الشاب السوري الطموح طارق نحو هدف واضح.
إتقانه الإنجليزية يعبد له الدرب ويفرشها بالفرص. لكن ما يؤدي إلى الوصول،
هو أهم من اللغة. إنها الإرادة وإنه القرار. في الوقت الذي يستحيل التكيف
على عائلات وأفراد لا يجدون هناءهم داخل مجتمعات مختلفة، تحقق عائلة هدهد
حلمها في العمل والانتماء والعثور على مدينة بديلة.
نموذجان في التكيف، يمثلان جيلين: الأول جيل الأب المنتقل
إلى كندا بكامل سوريا فيه؛ والثاني جيل الابن، المندمج سريعاً كأنه مولود
على الأراضي الكندية. يطارد طارق في الأرض الجديدة أحلاماً عصية على التفتح
في الوطن الأم. هناك يشعر بأنه مؤثر وفعال اجتماعياً. إلقاؤه محاضرة عن
طريق الصدفة، يجعله مع الوقت يمتهن فن الخطابة، فيعبر الجامعات والندوات
متحدثاً باسم الشباب عن الأمل والنجاة والحياة الممكنة.
لا يخلو المشهد من التصادم: الابن يختزل وجهة نظر تقول بأن
للمكان خصوصيته، والعيش في كندا ليس كالعيش في سوريا، من دون أن تعني
المقارنة انتقاصاً من قيمة الجذور. والأب يسد الباب في وجه أي احتمال لسلخه
عن ذاكرته، فيحاول في البداية قص جناحي الابن، قبل الاقتناع بأن «الأولاد
أبناء الحياة»، وفق الأديب جبران. عندها، يترك له القرار؛ لكن الابن،
المشبع بتربية الوالدين على قيم العائلة، يختار التوفيق بين حاجة الأب له
ورغبته في إثبات نفسه، وينجح.
الفيلم بسيط وعميق. هو الوجه المشرق لقصص اللجوء المظلمة.
والجانب الناجي من المأساة. ليس لكونه مأخوذاً عن أحداث حقيقية فحسب، بل
لأنه محاكاة للصدق الإنساني والجمال البشري حين يطفو القبح وينعدم الأمان.
من بائع شوكولا في زاوية الكنيسة، إلى مؤسس معمل كبير في
أنتيغونش، يتألق عصام هدهد بالشغف. تصور كاميرا المخرج الكندي جوناثان
كيجسر سيرته برفق. وهو مع كل جسر يمد له، يعبر بخفة روح هائمة في فضاء يشكل
متنفساً للمصرين على الحلم. حاتم علي مؤدٍ بديع للدور. يمتلك انفعالات
الآتين من أوطان مضطربة، ونبل الأبوة وطرافة السلوك. يتقدم بالإنجليزية
مكتسباً بعض المفردات، فيخلص نفسه في المواقف الحرجة. لكنه في أصعبها، يتكئ
على الابن المنقذ. «أنا من دونك أمي»، يقولها بنظرة دامعة تتوسل وحيده
البقاء إلى جانبه. صراع الأجيال يحسمه تعمق الجذور في تربة طيبة.
يقارب الفيلم إشكالية اللجوء السوري في الأراضي الكندية من
وجهة نظر النصف الممتلئ من الكوب. يبينه «سهلاً» وإن صاحبته مشقات، كرفض
الجامعة التحاق طارق بصفوفها، قبل الموافقة على طلبه؛ أو عرقلة الشرطة
الأميركية على الحدود بين الدولتين فرصة دخوله إلى الولايات المتحدة لعدم
حيازته الأوراق الرسمية المطلوبة، مما يفتح العين عليه بتهمة «الإرهاب»
فيحرم من دخول الأرض الأميركية لمدى خمس سنوات. ذلك لا يحول دون المحاولة
ثانية، ودون تصدر عناوين الصحف، والمرور في خطاب رئيس الوزراء الكندي
جاستين ترودو أمام الأمم المتحدة.
افتتاح المصنع الحلم وقص الشريط الأحمر بضحكة عريضة، هما
اختزال الفيلم لمفهوم السعادة المولودة من الشقاء. كل الطرق تؤدي إلى هذه
الخلاصة: بإمكان الإنسان أن يكون سعيداً حين تتوافر له البيئة السعيدة.
بإشارات سياسية يتعمد الشريط عدم تجنبها، تصور سيرة صانع
الشوكولا السوري عصام هدهد الملجأ الكندي كبهجة التواقين إلى الحياة. حتى
المناكفات مع صاحبة متجر شوكولا تخسر زبائنها إثر منافسة عصام لها، تنتهي
بسلام وتقبل. لا أذية ولا افتراء. كندا جنة على الأرض، تحتضن التائهين
وتصالحهم مع السعادة. البعد السياسي الساطع (تتخلله تصريحات ترودو المحتضنة
للاجئين في نشرات الأخبار)، يبقى خلف قيم الإنسانية وعظمة التآلف بين البشر
باختلاف الثقافات. الرسالة تصل كنسمة لطيفة. |