وسط ترحيب حماسي قبل وبعض عرضه في المسابقة الرسمية للدورة
الـ 75 من مهرجان كان السينمائي، عرض فيلم “ولد من الجنة”، وهو العنوان
الذي يظهر على الفيلم باللغة العربية، كما أصر مخرجه أيضا على أن يكتب
أسماء جميع العاملين من ممثلين وتقنيين، باللغة العربية، مصرا على أن يجعل
فيلمه فيلما مصريا، رغم أنه من الإنتاج السويدي بمشاركة من المغرب وفرنسا.
وحسب نظرية المؤامرة الغربية المستمرة منذ فجر التاريخ ضد مصر التي يروج
شلها البعض في مصر، لا أستبعد أن ينبري هؤلاء، من دون مشاهدة الفيلم،
للهجوم على الفيلم واتهامه بالخضوع لخطة منظمة ممنهجة لتشويه صورة مصر التي
لا يشوبها شائبة، كما هي عادتهم دائما عندما يتعلق الأمر بأي فيلم يتناول
“المسألة المصرية”.
هذا هو الفيلم الخامس في مسيرة مخرجه المصري- السويدي طارق
صالح (50 سنة، وفيلمه الثاني- – بعد “حادثة النيل هيلتون (2017)- الذي
يتناول موضوعا ذا أبعاد سياسية واضحة، تدور تفاصيله وأحداثه في مصر من دون
أن يُسمح له بالتصوير في مصر. والسبب أنه يقترب مجددا من “المسكوت عنه”،
فبعد أن لامس العلاقة بين رجال المال ورجال الشرطة في مصر، متوقفا أمام
مظاهر فساد الشرطة وتسترها على الجرائم الكبرى بل ومشاركتها في الفساد، ها
هو يتناول في “ولد من الجنة” دور جهاز الأمن الوطني (أمن الدولة) في حياكة
المؤامرات وتجنيد العملاء ومرشدي بعد إفساد الشباب الأبرياء، ثم التخلص
منهم بالقتل، وتهديد البسطاء وارغامهم على التعاون، والتنصت على الجميع،
والأخطر بالضبط وه موضوع الفيلم الأساسي، التدخل في أمور مؤسسة الأزهر التي
تعتبر مستقلة عن السلطة التنفيذية، من خلال قصة متعددة الأطراف والخيوط،
تبتعد عن البناء السينمائي الخطي أي الأحداث التي تسير في وتيرة متصاعدة
لتنتهي نهاية مغلقة.
الفيلم يستند إلى سيناريو متعدد الخيوط والطبقات، مع
انتقالات في المكان والزمان، من خلال بعض اللقطات السريعة العابرة،
للكوابيس والأحلام. وقد أنتج بإمكانيات كبيرة اتضحت على الصورة النهائية
للفيلم. وهو يتميز الفيلم بالتصوير المقنع، والتكوينات المدروسة جيدا التي
تظهر وتستعرض المعمار الإسلامي في تصميم المساجد والأبنية ذات الطابع
القديم (مسجد السليمانية في إسطنبول بوجه خاص)، مع اختيار ممتاز لمواقع
التصوير الخارجي بشكل عام، والاهتمام بتوزيع المجاميع من طلاب الأزهر الذين
يرتدون العمامات المميزة، خصوصا في مشاهد الصلاة الجماعية الحاشدة، مع
استخدام الزوايا الحادة والانتقالات السريعة التي تعكس أجواء البارانويا،
والرعب، والمطاردة المستمر، ومحاولة المواءمة بين ما أصبح مفروضا أداؤه،
وبين الطموح الشخصي. وفي خضن ذلك، يطرح الفيلم تساؤلات فكرية مثل: هل يملك
الانسان- الفرد، الذي ليس لديه سند ولا خبرة، القدرة على السيطرة على
توازنه بعد أن يجد نفسه واقعا في المنتصف وسط حرب طاحنة تدور بين المؤسستين
الأكثر نفوذا وقوة في مصر: السلطة السياسية والسلطة الدينية، وبالتالي بين
أمن الدولة ومؤسسة الأزهر.
ليس هناك فيلم مصري واحد سبق أن تناول مثل هذا الموضوع
الشائك، الشديد الحساسية، كونه يتعلق بالمؤسسة الأكثر رسوخا في العالم
الإسلامي، مؤسسة الأزهر التي يبدأ الفيلم بالتعريف بها من خلال عبارة تظهر
على الشاشة تذكر أن الأزهر تأسس كمدرسة لتعليم أصول الدين من جانب
الفاطميين عام 970 ثم أصبح المرجع الديني للمسلمين السنة في العالم.
شخصية “نقيض البطل” في الفيلم هي لشاب يافع هو “آدم”، ابن
لصياد سمك في المنزلة في شمال الدلتا. والده رجل متشدد عنيف، لا يقبل أي
مخالفة حتى لو كانت مجرد تدخين سيجارة. لكن آدم شاب طموح، يجتهد في تحصيل
العلم، وخصوصا علوم الدين، فينال منحة لدراسة العلوم الشرعية في جامعة
الأزهر بالقاهرة. في البداية يتردد في إطلاع والده خشية أن يرفض ويعاقبه،
إلا أنه يفاجأ بقبول الاب وتسليمه باعتبار تلك هي إرادة الله الذي لا راد
لقضائه. ويرحل آدم إلى القاهرة حيث يلحق بالمدينة الجامعية التابعة للجامعة
الأزهرية، ويرقد في فراش مع عدد من زملائه في غرفة واحدة. ويصبح تجويد
القرآن واتقان سبل القراءة أول ما يتعين عليه تعلمه. وفي الفيلم الكثير من
المشاهد البديعة التي تقدم رؤية بصرية ثرية لمجتمع الأزهر، ليس بالضرورة
كما هو في الواقع، بل من خلال رؤية طارق صالح الخاصة المتخيلة عنه فالحلقات
التقليدية التي كانت سائدة أو ما يسمى بـ”العمود” حيث يتحلق عدد من الطلاب
جول شيخ معين يتلقون العلم على يديه لم يعد لها وجود ولكنها مصورة في
الفيلم كحنين الى هذا التراث. ورغم أن الفيلم يصور بالتفصيل، مظاهر الكبت
والقهر النفسي والخضوع المطلق للكبار، بل ووجود الطلاب الشباب داخل غرف
أشبه ما تكون بالزنازين، لكي يوحي بأجواء السجن الذي يحتويهم، بل ويصور
أيضا الصراعات الخفية التي تدور بين المتشددين والأقل تشددا داخل المؤسسة
الدينية، كما يصور أيضا مجموعات منظمة متطرفة تعمل من أجل تقويض الدولة أو
هكذا يبدو الأمر، إلا أنه يحتفي بالدين الإسلامي ولا يوجه نقدا من أي نوع،
لأصل العقيدة الإسلامية رغم تجسيده مظاهر التطرف في داخلها
يتعرف “آدم” على شاب مثله هو “زيزو” الذي يتضح لنا- قبل أن
يصبح معروفا لآدم- أنه عميل لأمن الدولة، وهو يشجع الرغبات الدفينة داخل
آدم نفسه، بالتمرد على حياة الأزهر المتقشفة، فيصحبه في جولة بوسط القاهرة،
ثم يذهبان ليرقصا وسط جموع من الشباب الذي يتمايل على إيقاعات الأغاني
الشبابية السوقية المنتشرة. لكن هذا لشاب سينتهي نهاية مأساوية.
من مزايا الفيلم أنه يصور قصته في الزمن الحالي، المضارع،
ولا يحيلها إلى الماضي، بل وكثيرا ما يركز على اللوحات الضخمة في الشوارع
التي تحمل صورة الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي. وهناك كلام عن
الدستور الذي أصبح يمنح الإمام الأكبر، شيخ الأزهر، منصبه مدى الحياة،
ويجعل اختياره قاصرا على مجلس كبار علماء الأزهر عن طريق الاقتراع السري،
وحديث آخر على لسان اللواء السكران (يؤدي الدور بشكل خاص للغاية محمد بكري)
الذي يعقد اجتماعا لكبار المسؤولين في أمن الدولة عقب وفاة الإمام الأكبر
مصابا بنوبة قلبية، وفيه يخبرهم بأن “الرئاسة” لن تقبل بوصول شيخ مرتبط
بجماعة الإخوان المسلمين أو بالفكر المتطرف إلى المنصب الأعلى، وأن البلاد
لا يمكن أن تسمح بوجود فرعونين: الرئيس وشيخ الأزهر، وأنه يتعين أن يصل شيخ
معتدل، يسمع الكلام ويطيع الرئاسة، إلى المنصب. أي أن المطلوب هو التدخل
المباشر سرا لتغيير توجه غالبية الشيوخ. ولكن كيف؟ هذا الملف سيتم اسناده
إلى العقيد “إبراهيم” (فارس فارس).
وخلال المؤتمر الصحفي قال المخرج طارق صالح إنه عندما كتب
السيناريو لم يكن الصراع المستتر بين الرئيس وشيخ الأزهر قد انفجر بعد،
ولكن قبل تصوير الفيلم أصبح هذا الصراع يفرض نفسه. وأوضح أنه منذ طفولته
كان مفتونا بجامع الأزهر، وبالتعليم الأزهري وتقاليده. وأنه لم يصنع عملا
يقوم على حقائق في سياق شبه تسجيلي (دوكرو- دراما) بل استمه من خياله
الشخصي.
عندما ينكشف أمر عميل الأمن “زيزو” يصبح من الضروري التخلص
منه، فيتم قتله في باحة المسجد بالسكين من قبل مجموعة من الملثمين. ويشهد
ذبحه “آدم” نفسه، وكأن هذا كان مقصودا. ويتعين أن يحل “آدم” محله. هنا يأتي
دور العقيد “ابراهيم”، الذي يقابل ويضغط عليه لكي يقبل القيام بمهمة لا
يعرف كيف سينجح فيها بل يعرف شيئا واحدا، هو أنه إن فشل فسيلقى مصير صديقه
الذي قتل. من هنا نصبح أمام فيلم من نوع أفلام الإثارة البوليسية والتعقب
والمطاردة والتجسس ورعب انكشاف أمر الجاسوس الذي يقوم بدور ليس دوره
الحقيقي، لكن أفكاره المتعلقة بالدين ليست مستقيمة تاما فهو يبدو مترددا
أيضا بين قبول الفكر الأكثر استنارة وبين التشدد الطبيعي الذي قيل له إنه
من جوهر الشريعة. إنه يميل للحياة الدنيا، لكنه نشأ أيضا على الخضوع
للموروث الديني المعتدل. هذا الجانب الذي يتعلق بالحيرة والتردد مصنوع جيدا
في رسم ملامح شخصية “آدم” (يقوم بالدور الممثل الفلسطيني توفيق برهوم).
الفكرة الثانية البارزة في الفيلم هي فكرة التحول الذي يطرأ
على شخصية آدم، الذي جاء شابا يافعا ساذجا يصفه رئيس جهاز من الدولة
(العميد صبحي) لزميله العقيد إبراهيم، بأنه “لا شيء” وأن الخلاص منه يجب أن
يكون حتميا بعد أن تنتهي مهمته. ولكن “آدم” ينضج، وينجح في الإمساك بخيوط
اللعبة في يده، بل وينجح في الاختبار القاسي الذي فرضه عليه اللواء
السكران: فضح الشيخ المتشدد الذي كان نجمه صاعدا وتدمير شعبيته داخل الأزهر
حتى يبتعد عن الفوز بمنصب الإمام الأكبر، فهو يعثر على معلومة بسيطة عابرة،
تشي بأن الرجل مارس الرذيلة مع ابنة خادمته، فحملت منه وأنجبت طفلا، فاضطر
أن يتزوجها عرفيا ويستأجر له مسكنا. هنا يتوقف الفيلم ويضع خطا عريضا تحت
هذا النوع من الفساد الشخصي الكامن داخل مؤسسة الأزهر، والنفاق الواضح بين
ما يدعيه الشيخ وما يمارسه في الخفاء. ولكن موضوع الشيخ الكفيف الذي يصر
على الاعتراف بأنه هو الذي قتل الشاب “زيزو” ويعتقله الأمن لكي لا يصبح
عبئا عليهم إن ترك طليقا، يبدو زائدا بعض الشيء عن حمولة الفيلم. وقد يسبب
بعض الاضطراب في الإيقاع العام. ومن الطريف أن اللواء السكران يبدي بعض
الدهشة من إصرار الرجل على الاعتراف بجريمة لم يرتكبها متصورا أنه يمكنه أن
يفضح حقيقة ما وقع أمام المحكمة، ويتساءل: ولماذا لم يذهب للصحافة؟ فتكون
الإجابة: لأنه يعرف كيف تدار الصحف!
آدم سيلعب دورا مباشرا في التأثير على اختيار خليفة الإمام
الأكبر، كما سيلعب دورا آخر مهما في إقناع الشيخ الكفيف (يقوم بالدور مكرم
خوري) بسحب اعترافه الكاذب بقتل “زيزو”، وبالتالي يتوقف عن إثارة المتاعب
للنظام، ويستعين خلال ذلك بما هو مستقر في الخطاب الديني أيضا. وبهذا يثبت
“آدم” أنه قد تعلم الكثير، ونضج على نار التجربة، وأصبح بذكائه وثقافته
الدينية، يملك التفوق على من شككوا في قدراته، وبذلك يفلت من مصيره المظلم
ويعود إلى قريته، ربما بعد أم يكون قد ترك الدراسة الأزهرية تماما، وربما
سيرجع بعد أن يقضي عطلة مع عائلته. لكن اللقطة الأخيرة تشبه تماما اللقطة
الأولى في الفيلم: إبراهيم مع والده في مركب صيد السمك في بحيرة المنزلة.
والفضاء مفتوح أمامه.
ورغم تميز شريط الصوت بالموسيقى الايقاعية المثيرة التي تشي
بأجواء المطاردة والتوتر والقلق، إلا أن اختيار الأغاني ربما يتناقض مع
طابع الفترة، فهناك نوع من الافراط في استخدام الكثير من الأغاني والأناشيد
“الوطنية” الحماسية التي ارتبطت بعصر الرئيس جمال عبد الناصر مثل نشيد
“والله زمان يا سلاحي” لأم كلثوم، والكثير من الأغاني العاطفية عبد الوهاب
وعبد الحليم من الفترة نفسها.
هناك أيضا ملمح آخر في جسد السيناريو، يتعلق بالتناقض بين
رئيس جهاز أمن الدولة “العميد صبحي” (مهدي الذهبي)، والعقيد إبراهيم (فارس
فارس) الذي يعتبر أقدم منه لكنه أقل رتبة ولم يصل إلى قمة الجهاز، والصراع
الذي ينشأ بينهما قبل أن ينفجر قرب النهاية، ومن خلال ذلك الصراع، يجسد
الفيلم التباين بين شخصيتي الضابطين، فالعقيد ابراهيم أقل خشونة وقسوة
وأكثر تعقلا، وتدريجيا، مع توثق علاقته بآدم، يصبح بمثابة الأب البديل له،
وبعد أن كان يقابله في مقهى ويحادثه من خلال التليفون المحمول، يجلس أمامه
ويخاطبه مباشرة، وهو الذي يتدخل لحمايته من الموت على أيدي جماعة المتطرفين
داخل الأزهر، كما سيعترض على رغبة العميد صبحي في التخلص منه بعد أن ينتهي
من أداء مهمته.
مستوى التمثيل يتراوح ما بين الإجادة التامة والثقة
والابتكار في الأداء من جانب فارس فارس ومحمد بكري (مثلا) وبين بعض
الارتباك في أداء توفيق برهوم وعدم إجادته اللهجة المصرية تماما، وربما
تنسحب تلك المشكلة على الأداء عموما في الفيلم كله، مع استثناءات قليلة وفي
أدوار ثانوية صغيرة عابرة. وعلينا فقط أن نتصور كيف كان يمكن أن يأتي
الفيلم عن كان طارق صالح قد تمكن من الاستعانة بطاقم كامل من الممثلين
المصريين. ولكن قبل أن يصبح هذا ممكنا، يجب أن تتغير مصر أولا. |