تهريب النطف من السجون الإسرائيلية كـ"حكاية"،
"لا علاقة لها بالسياسة" في فيلم "أميرة"
أمل مجدي
ينشغل المخرج المصري محمد دياب بتصفح الأخبار ومتابعة ما
يجري من أحداث يومية، باحثاً عما يثير اهتمامه ويجذبه للعمل على مشروع
سينمائي جديد.
يغمر نفسه في قصصه الدرامية المستلهمة من الواقع، ويقضي
سنوات في صناعتها ساعياً وراء طرح أسئلة تحفز المشاهد على التفكير في قضايا
شائكة من منطلق إنساني بحت.
تهريب النطف حكاية خيالية
هذا ما قدمه في فيلمه الأول (678- 2010) الذي يتناول ظاهرة
التحرش الجنسي وتبعاتها النفسية والاجتماعية من خلال ثلاثة نماذج نسائية
تتخذ مواقف صادمة للدفاع عن النفس.
واستطاع أن يرسخه في فيلمه الثاني
(اشتباك-
2016)
المصور داخل عربة ترحيلات، مكتظة بشخصيات ذات توجهات سياسية وفكرية مختلفة،
تتصارع أحياناً، وتحاول إيجاد أرضية تفاهم في أحيان أخرى وسط حالة الغليان،
التي يعيشها الشارع في الأيام التالية لعزل محمد مرسي من رئاسة الجمهورية.
بعد أكثر من ألفي عام على ميلاد المسيح دون جماع، كما يؤمن
الكثيرون، أنجبت نساء فلسطينيات دون فعل التزاوج من النطف المهربة، مما
ألهم سينمائيين قصصاً إنسانية خيالية، آخرهم المخرج محمد دياب في فيلم
"أميرة"
يتبنى دياب نفس النهج في فيلمه الثالث "أميرة" الذي تولدت
فكرته بعدما قرأ مقالاً عن إنجاب حوالي
200 طفلاً بواسطة النطف المهربة من الأسرى الفلسطينيين داخل السجون
الإسرائيلية.
شعر دياب وكأنه أمام حكاية خيالية، وتملكته رغبة في معرفة
المزيد من التفاصيل عنها. ولأنها المرة الأولى التي يغامر فيها بصناعة فيلم
خارج حدود وطنه، كان عليه البحث عن مرشد يرافقه وينير له الطريق، وقد كان
هذا المخرج، الفلسطيني هاني أبو أسعد.
يقول دياب
في أحد الحوارات: "أردنا أن نسأل كيف تبدو حياة الأشخاص الذين ولدوا بهذه
الطريقة، وكيف تبدو حياة الزوجات في هذه المواقف. كعربي القضية الفلسطينية
هي شيء كبير بالنسبة لي".
المعجزة الإلهية إرادة بشرية
في الديانتين المسيحية والإسلامية، حملت مريم العذراء دون
أن يمسها بشر، فكانت ولادة المسيح معجزة إلهية على أرض فلسطين.
وبعد أكثر من ألفي عام، يتخذ الفلسطينيون من المعجزة
مثالاً، وبإرادة صلبة ينجحون في التوصل لحيلة تؤمن لهم الحق في الإنجاب دون
فعل التزاوج. ومن ثم، تصبح الظاهرة رمزاً قوياً لمقاومة المحتل، وانعكاساً
لحب الحياة والتشبث بها رغم أنفه.
لم يكن محمد دياب أول صانع أفلام تأسره حكايات أطفال النطف
الذين يطلقون عليهم "سفراء الحرية". فقد سبقه آخرون، منهم من اتخذ المنحى
التوثيقي كالمخرج الفلسطيني محمد مصطفى الصواف، صاحب الفيلم التليفزيوني
"تهريب الحياة- 2017" الذي يتتبع تجارب ومحاولات عدد من الأسرى وعائلتهم
أثناء عمليات التهريب والتلقيح الصناعي، وصولاً إلى النتائج التي تكلل
بالنجاح أو الفشل.
ومنهم من قدمها روائياً على شاشة السينما، مثل المخرج
الفلسطيني راكان مياسي، الذي صنع فيلما قصيراً يحمل اسم "بونبونة- 2017"،
يصور بأسلوب أخّاذ االصعوبات التي يواجهها أسير وزوجته لإتمام العملية؛
بداية من تمريره للسائل المنوي في غلاف حلوى صغيرة عبر الحاجز الزجاجي خلال
لقائهما الشهري، وحتى اضطرارها إلى تلقيح نفسها داخل حافلة الصليب الأحمر
أثناء عودتها من الزيارة.
لكن في فيلم "أميرة" الذي كتبه المخرج بالتعاون مع شقيقيه
خالد وشيرين، تبدو مسألة تهريب النطف نواة لقضية أعمق ذات طابع عالمي، يمكن
أن يتماهى معها كثيرون.
جاءت إلى الحياة من نطفته المهربة.
تدور الأحداث حول الفتاة المراهقة "أميرة"، التي ولدت في
مجتمع يمجد والدها الأسير، ويحتفي بأنها جاءت إلى الحياة من نطفته المهربة.
فجأة تجد العالم الذي تعرفه يتداعى أمامها عندما يرغب الأب
في الإنجاب مرة ثانية، وتكشف التحاليل أنه عقيم، فتخوض رحلة بحث عن ذاتها،
وهويتها، وتنخرط في تساؤلات كثيرة حول علاقتها بمجتمعها وموقفها من كل ما
تربت عليه وتنتمي إليه.
من نحن؟ يصبح هذا السؤال الأهم خلال مسار الفيلم، يفتح
باباً للتفكير في الروابط التي تجمعنا بذوينا، وهل هي قاصرة فقط على صلة
الدم أم إنها تقوم بالأساس على الرعاية والدعم المتبادلين على مدار سنوات؟
كما يقودنا إلى التوقف أمام قراراتنا وأفعالنا، وما إذا كانت نابعة من رغبة
في نيل مباركة المحيطين أم إنها تعبر حقاً عن اختيارانا الشخصية؟
كل هذا يُقدم باختيار واضح من دياب بالبعد عن الخطاب
السياسي المباشر، يؤكد:
"على
الرغم من أننا نتحدث عن قصة شخصية للغاية لا علاقة لها بالسياسة، لكن
السياسة في الخلفية دون الحديث عن أي شيء. وفي رأيي هذه أفضل طريقة يمكن من
خلالها تناول أي شيء سياسي. أي بتجنب الحديث عنه والاكتفاء بتقديم حياة
الناس".
عالم مليء بالتناقضات والأحلام
"إن
المواجهة الأكبر في حياة الإنسان هي تلك التي يخوضها مع ذاته"، هكذا يقول
المخرج الإيراني أصغر فرهادي، الذي يبدو جلياً مدى تأثر آل دياب بأسلوبيته،
في كتابة سيناريو "أميرة". فأفلامه تدور أحداثها عن أزمات واختبارات
إنسانية صعبة يواجها الأبطال، لكنها لا تقتصر على كونها صراعاً مع الآخرين،
بل هي في الأساس صراع مع النفس وما تحمله من مبادئ وقيم.
وبما أن تمزق الهوية هي الفكرة المُلحة في الفيلم، فقد
تجسدت في صورة ازدواجية تعيشها الشخصيات الثلاث الرئيسية.
فالأب الأسير هو بطل شجاع في نظر مجتمعه، وفي الوقت نفسه
إرهابي خطير يعاني في سجن المحتل، وينتزع بعض حقوقه بالإضراب عن الطعام.
كذلك الأم التي تعد زوجة أمام الجميع، لكنها لم تمس قط في
حياتها حتى يوم زفافها، كانت صورة العريس تحل محل جسده بجانبها.
يكتشف الأب أنه عقيم، وتجد الابنة نفسها بين ليلة وضحاها
محسوبة على الطرف العدو، بعد أن كانت محتفى بها كابنة النطفة المهربة
لأسير، لتسأل نفسها: من أنا؟
أما الابنة التي تكتشف عدم صحة نسبها لأبيها، تجد نفسها بين
ليلة وضحاها محسوبة على الطرف العدو. يعبر دياب عن هذه الحالة بلغة بصرية
تعتمد على الانعكاسات، فتصبح كل شخصية في مواجهة مع صورتها الأخرى.
ولكن الصور المادية هي الأخرى تحتل مكانة مهمة في الفيلم،
إذ تستخدمها "أميرة" في البداية لخلق عالم مواز أكثر رحابة وشاعرية من
واقعها الأليم. فتتلاعب باللقطات لتصنع لنفسها وعائلتها ذكريات غير ممكنة
التحقق. ثم تتوقف عن هذه الهواية بعد تفجر الأزمة، وتلجأ لتصوير نفسها
محاولة التعرف على حقيقتها. وفي النهاية، تكون إحدى الصور سبباً في اتخاذها
لقرار مصيري.
يمثل "أميرة" محطة مهمة في مسيرة محمد دياب، المقيم حالياً
في أمريكا، ويعزز فرصته في التنقل بحرية بين الأعمال السينمائية دون تقيد
بأي حدود جغرافية. يقول:
"أنا
أتعلم من هاني أبو أسعد، لقد صنع فيلماً في هوليوود ثم عاد إلى الوطن وقدم
فيلماً مستقلاً، أو ألفونسو كوارون، الذي تنقل بين أفلام مثل
(Y Tu Mamá También)
وإنتاجات هوليوود الضخمة ثم أنجز
(Roma).
أنا مصري، أبلغ من العمر 43 عاماً، ولن أفقد ثقافتي أبداً. الشرق الأوسط
منجم ذهب للقصص". |