خالد يوسف: اتهام الأعمال الفنية بتشويه سمعة الدولة هو الإساءة الحقيقية
مصطفى عبيد
المخرج المصري لـ"العرب": ظهور المنصات ورواجها دفعاني إلى
العمل في الدراما و"الأندلس" أول أعمالي.
أكّد المخرج المصري خالد يوسف في حوار خاص مع “العرب” أنه
طلّق العمل في السياسة بعد سنوات طويلة قضاها وسط أمواجها، وشرع في العمل
لتقديم فيلمه الجديد “أهلا بكم في باريس” الذي يعرض جوانب مهمة من صراع
الثقافات استوحاها من نحو ثلاث سنوات قضاها في فرنسا مؤخرا، وأن الرواج
الحاصل على منصات التواصل يدفعه إلى العمل في الدراما لأول مرة، وتحدّث
باستفاضة عن الإبداع وخطورة القيود التي تفرض عليه في ضوء أزمة فيلم “ريش”.
القاهرة
- أكّد
المخرج المصري خالد يوسف أنه لن يعود إلى السياسة مرة أخرى، وأنه لم
يمارسها بمفهوم حزبي أو تحت راية تيار بعينه إنما من مفهوم وطني، وشارك في
مقاومة اختطاف الإخوان للدولة المصرية ومارس السياسة لتكريس الحرية
والاستقلال وترسيخ مفهوم الدولة المدنية.
وقال في حوار خاص مع “العرب”، “لقد شاركت في كل ذلك وانتهيت
من مهمتي، وربما اصطدمت بألاعيب السياسة ودوائر معينة، فدفعت ثمنا باهظا،
وأعتقد الآن أن الأفضل هو ممارسة عملي الإبداعي فقط مشتبكا مع الواقع،
ومعبّرا عن تصوّراتي وطارحا رأيي بكل صراحة، لكن لن أعود مرة أخرى إلى
البرلمان”.
وجاء الحوار بعد ساعات من الضجة التي لم تهدأ بعد في مصر،
على خلفية مشهد درامي متكرّر ومعتاد خرج فيه البعض متهما عملا فنيا
بالإساءة لسمعة مصر، لأنه أظهر عشوائيات وفقراء وجانبا من المجتمع التحتي،
وطرح ما جرى مع فيلم “ريش” للمخرج عمر الزهيري؛ قضية قديمة جديدة بشأن
محاكمة الأعمال الفنية سياسيا أو دينيا أو مجتمعيا.
ويمثل يوسف أحد أهم رموز السينما الواقعية التي تطرّقت أيضا
إلى ملف العشوائيات، وهو رجل مارس السياسة في الوقت ذاته، وكان له دور بارز
في ثورة الثلاثين من يونيو 2013، وشارك في وضع دستور مصر في العام التالي،
وشغل عضوية البرلمان المصري السابق قبل أن يتعرّض لهجوم إعلامي شديد وغادر
القاهرة، ثم قرّر اعتزال العمل السياسي تماما، ما يعني أن رأيه وتصوّراته
وأفكاره بشأن علاقات الفن بالسياسة مهمة للغاية.
بدا موقف يوسف شديد الوضوح وهو يكرّر أن اتهام عمل فني ما
بالإساءة لسمعة مصر، هو اتهام فارغ ومخجل لأن المفترض أن الفنون ليست
مسؤولة عن تجميل صورة أو استكمال دعاية أو خلافه، إنما التعبير الإنساني
البحت عن قضايا الناس وهمومهم وأوجاعهم.
الأسئلة وحدها ترى
مسلسل "الاختيار" في جزئه الأول، عدّه يوسف مكرّسا لمفهوم
الدولة الدينية بدلا من مقاومتها
قال يوسف لـ”العرب” إن إظهار الفقر أو العشوائية أو القبح
في بلد ما لا يعد إساءة، وهناك المئات من الأفلام بل الآلاف من الأفلام
التي تتحدّث عن عشوائيات في فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، وهي من أروع
الأعمال الفنية العالمية.
وإحدى وظائف الإبداع في رأيه أن يلتقط ما في المجتمع من
أوجاع ومعاناة حتى يتمّ طرحه للناس، وليست مهمة الفن تقديم الحلول إنما طرح
الأسئلة، وهي “وحدها ترى والأجوبة عمياء”.
وأوضح يوسف أن تقديم عائلة فقيرة أو تواجه معاناة ما، هو
حقّ لأي مبدع حتى لو كانت هذه العائلة هي الوحيدة في المجتمع الذي كل مَن
فيه يعيش في رخاء، ومن حقه كمبدع أن يقدّم فيلما عن جمال عبدالناصر (الرئيس
المصري الراحل) يظهره كرجل عظيم، ومن حقّ مبدع آخر أن يقدّمه كدكتاتور، فلا
يوجد هنا معيار سوى الأدوات الفنية، بغض النظر عن الموقف السياسي، فأهم شيء
في الفن هو الصدق الإنساني.
ولفت خالد يوسف في حواره مع “العرب” إلى أنه لا يوجد في
العالم كله من يقيّم الفنون بهذا الشكل التحريضي العجيب، ولا يمكن تصوّر أن
تقديم قصة قهر أو قمع أو فقر أو غيره يمكن أن تسيء للأوطان، وتساءل “وحتى
لو كانت الواقعة خيالية تماما، فمن الذي يحاكم الخيال؟”.
وفيلم “ريش” الذي طالب البعض بمنعه بعد عرضه في مهرجان
الجونة السينمائي وسارع أحد المحامين بتقديم بلاغ ضدّه إلى الجهات
القضائية، يقدّم حكاية فانتازية خيالية من الحارة المصرية والعشوائيات.
واتهم يوسف المحرّضين ضدّ الفيلم بالمزايدة ومحاولة موالاة
بعض الدوائر في الحكومة على حساب الفن والإبداع، قائلا “هؤلاء يحاولون
إظهار أنفسهم باعتبارهم أوصياء على سمعة الوطن، والمؤسف أننا لو طبقنا
الأمر على هؤلاء لحاكمناهم على أعمال فنية سابقة”.
للخيال منطقه الخاص حتى وإن حول الإنسان إلى دجاجة (فيلم
"ريش" نموذجا)
وأشار إلى أنه يستطيع بالمنطق ذاته أن يقول للفنان شريف
منير (أحد المعترضين على الفيلم) إنه يجب محاكمته لأنه قام بأداء دور ضابط
موساد في فيلم “ولاد العم”.
ورأى المخرج المصري أن محاكمة الإبداع بهذه الطريقة يمثل
نوعا من الإرهاب لأي مبدع يحاول التفكير خارج الصندوق، مؤكّدا أن الحرية هي
التي تحقّق مصلحة الأوطان وتحسّن سمعتها وليس الشجب والمنع.
وإذا كان البعض يرى أن لأي إبداع حدودا معينة، فإن يوسف يقف
على الجانب الآخر، لافتا إلى أنه لا يفترض أن توجد حدود من أي نوع على
الإبداع، موضحا “لا يجب حكم الإبداع الفني بالعادات أو التقاليد أو
بالمفاهيم الدينية السائدة، لأن الأمر كله خيال ومن حقّ صاحب الخيال أن يرى
ما يريد”.
وضرب مثلا بفيلم “الناصر صلاح الدين” للمخرج المصري الراحل
يوسف شاهين، فلا تجوز محاسبة الفيلم بالمعايير التاريخية أبدا، فشاهين أراد
إظهار صلاح الدين باعتباره رجلا متسامحا وعادلا واختلق له ابنا شهيدا في
إحدى المعارك، رغم أن ذلك مخالف للواقع التاريخي.
وشدّد على أن المجتمعات لا تتقدّم إلاّ بمخالفة السائد
والتمرّد على المعتاد، فعندما أطلق المفكّر المصري الراحل قاسم أمين، قبل
أكثر من مئة وعشرين عاما، فكرة تحرير المرأة اصطدم بتصوّرات اجتماعية
وتفسيرات دينية وواجه تكفيرا وتحريضا كبيرين، لكن بعد عقود من المثابرة
صارت المرأة مشاركا أساسيا في المجتمع.
أشهد أني طلقت السياسة بـ"الثلاثة" بعد أن اكتويت بألاعيبها
اشتباك مع الواقع
تقتضي طبيعة السينما في تصوّر خالد يوسف الاشتباك مع الواقع
بكل مراراته وأوجاعه، لأن الحياة لا يتوفّر فيها الحسن فقط، وعلينا أن
نتصوّر لو نقدّم قصة حب لشاب وفتاة يجلسان على نهر الفرات، فإن الطبيعي أن
ينفعلا بمرور طائرة أميركية تريد قصف هدف بعينه في هذه الأنحاء.
وضرب مثلا بالفيلم المصري “سواق الأتوبيس” المنتج سنة 1982
للمخرج الراحل عاطف الطيب، والذي يقدّم مرارة الناس ومعاناتهم بواقعية
شديدة، قائلا “الفن يقوم على صدق الانفعال، ولذا فأنا أتصوّر أنه لو كان
هناك مخرج عظيم سيبقى ذكره في السينما العربية إلى جانب يوسف شاهين فهو
عاطف الطيب، رغم عدم تمكنه الكامل من أدواته الفنية، ذلك لأنه كان صادقا في
انفعاله بما يقدّمه”.
من حق المبدع التفكير خارج الصندوق، والحرية تحقّق مصلحة
الأوطان وتحسّن سمعتها وليس الشجب والمنع
ورأى المخرج المصري أن توظيف الفن في خدمة السياسة يسقط
الفن تماما، فلا يمكن إنتاجه بتوجيه ما، والأغاني الوطنية العظيمة التي
أنتجت في الستينات بمصر وألفها صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي لم تنطلق
بتوجيه حكومي، وإنما بانفعال حقيقي لفنانين يعيشون لحظات مصيرية.
واستعار يوسف الآية القرآنية “وأما الزبد فيذهب جفاء، وأما
ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”، معتبرا أي عمل غير صادق زبدا.
ويعتقد أن الفن قادر على لعب دور عظيم في مواجهة التطرف
والإرهاب في مجتمعاتنا العربية، وتربية جيل جديد متذوّق للفنون ومحب
للإبداع يقطع الطريق على أي فكر انغلاقي، لأن كل شخص متذوّق للإبداع يسمو
حسه الإنساني ويخاصم العنف.
وقال إنه لم يعجب بمسلسل “الاختيار” خاصة في الجزء الأول،
وهذا العمل يكرّس مفهوم الدولة الدينية بدلا من مقاومتها، إذ يقوم على طرح
أن الإرهاب يتبنى فهما خاطئا للدين، بينما كان المفترض أن يقوم الطرح على
التمسّك بالدولة المدنية ومبدأ سيادة القانون واعتبار الإرهاب خروجا عن
القانون وعدوانا عليه، مضيفا “الدولة ليست لها علاقة بالعقيدة الدينية،
وإنما القضية الدفاع عن القانون والأمن العام”، وأنه “لم يكن صحيحا أن يقول
أحد إننا نفهم ابن تيمية خطأ، فهذا خطاب لا يخصّ الفن، إنما تقديمه يكون
عبر المؤسّسات الخاصة بالثقافة والفكر”.وحول رأيه في بعض الأعمال الدرامية
والسينمائية التي تناولت قضايا الإرهاب، أكّد أن معظمها غير إبداعي، وضعيف
التأثير، مستثنيا مسلسل “القاهرة – كابول” الذي عرض خلال رمضان الماضي.
الفنون ليست مسؤولة عن تجميل صورة الأوطان، إنما التعبير
الإنساني البحت عن قضايا الناس وأوجاعهم
وحول أحدث أعماله الفنية بعد عودته إلى مصر كشف يوسف أنه
انتهى من تصوير معظم مشاهد فيلمه الجديد “أهلا بكم في باريس” والذي يقدّم
صراع الهوية الثقافية والمفاهيم الاجتماعية لبعض العرب المقيمين في أوروبا،
مناقشا الاختلاف في منظومة القيم بين المجتمعين.
وذكر أنه يستعرض الفكرة من خلال حكايات واقعية عايشها خلال
العامين والنصف العام التي قضاها في باريس، مستخدما أدوات الخيال الدرامي
إلى جانب تلك الحكايات.
وكشف أن الفيلم يحظى بمشاركة عدد كبير من الفنانين من كافة
الدول العربية، منهم مثلا من مصر هالة صدقي، ماجد المصري، عمرو عبدالجليل،
وهشام سليم، ومن الجزائر حسن كشاش، وممثلة سعودية تمثل للمرة الأولى، وهي
إعلامية شهيرة، لكنه لم يعلن عن اسمها، بجانب ممثلين من لبنان وسوريا
وفرنسا.
هل علينا محاكمة شريف منير على تقديمه دور ضابط موساد في
فيلم "ولاد العم"؟
التحوّل إلى الدراما
قدّم المخرج المصري خالد يوسف للسينما اثني عشر فيلما
سينمائيا، أبرزها “حين ميسرة” 2007 الحاصل في العام ذاته على جائزة أفضل
فيلم وأفضل مخرج في المهرجان القومي للسينما، وفيلم “دكان شحاتة” 2009،
وفيلم “كلمني شكرا” عام 2010، وهو الآن يستعدّ للتحوّل للمرة الأولى في
حياته إلى تقديم مسلسلات درامية.
وكشف تفاصيل ذلك بأن فكرة المنصات التلفزيونية فرضت على
الدراما ارتباط الجمهور بمسلسلات تتكوّن من خمس أو ست حلقات فقط، وهو ما
يتلاءم مع سماته كمخرج يحبّ التكثيف، لذا فإنه يعدّ لمسلسل جديد بعنوان
“الأندلس” سيتم تقديمه من خلال تلك المنصات.
وتابع “إنني كمخرج رفضت من قبل إخراج مسلسلات وكنت ضدّ المط
والتطويل الذي يمثل سمة عامة في المسلسلات، لكن خصائص دراما المنصات دفعني
إلى العمل الدرامي ساعيا للوصول إلى عدد مشاهدين أكبر في مختلف دول العالم”.
فيلم “أهلا بكم في باريس” يقدّم صراع الهوية الثقافية
والمفاهيم الاجتماعية لبعض العرب المقيمين في أوروبا
وحول قصة المسلسل الجديد أشار إلى أنها محاولة لطرح إنساني
لإشكالية لم يقدّم الضمير العالمي فيها حلولا وهي الخطوط الفاصلة بين كلمتي
الغزو والفتح، فمنذ العصور القديمة كانت هناك دول تستولي أو تدخل دولا أخرى
ودائما من يقوم بالدخول يسمي هذا الفعل فتحا، ومن يواجهه يسميه غزوا، وعلى
مدى سنوات طويلة مازال الأمر قائما، فالأميركان دخلوا العراق وسمّوه تصدير
قيم الديمقراطية والعرب سمّوه غزوا، والجميع يتغيّر موقفه بتغيّر موقعه.
وأضاف أن خروج العرب من الأندلس يطلق عليه أهل أوروبا حروب
الاسترداد، بينما نسميه كعرب بتراجيديا سقوط الأندلس، ويحاول تقديمه دون
تحيّز عبر طرح إنساني انطلاقا من فكرة حتمية التاريخ، بمعنى أن دخول
الأندلس كان حتميا، كما أن الخروج منها كان حتميا، فعندما نكون أقوياء
ونحمل شعلة الحضارة نتمكّن وننتصر والعكس صحيح.
ويخطّط المخرج المصري أيضا لفيلم سينمائي آخر يتناول حكاية
بطل القوات المسلحة المصرية إبراهيم الرفاعي، والذي يمثل نموذجا فريدا لشخص
يمثل عظمة المقاتل المصري وجدارته.
وأكّد يوسف أنه يريد من خلال حكاية الرفاعي تقديم بطولة
حقيقية تمثل إشارة لواحدة من مفاخر التاريخ العربي، مكرّرا أن كل ما قدّم
في السينما عن حرب أكتوبر عام 1973 لم يوف حقوق شهداء وأبطال هذا النصر
العظيم، مشيرا إلى أن السينما العالمية تقدّم نماذج خيالية لأبطال خارقين،
ومن حقنا أن نطرح هذه الشخصية الحقيقية للناس بانفعال صادق.
ويرصد يوسف الكثير من الفنانين والمخرجين الشباب في العالم
العربي ويعجب بالكثير من المبدعين الجدد، مثل الفنانة اللبنانية نادين نسيب
نجيم في مسلسل “2020”، وتابع فيلم “كفر ناحوم” وهو ممتن لكافة أفراد
طاقمه، وأعجب جدا بفيلم “بيك نعيش” التونسي.
كاتب مصري |